للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الخلافة أو الترك والعرب)
ما رأينا جريدة بينها وبين مشرب صاحبها من البون مثل ما نراه في جريدة
الجوائب المصرية فإن صاحبها خليل أفندي المطران لا يرى منه جليسه إلا الأدب
والذكاء، ونبذ التعصب والتحمس الديني , ولكنه يرى من جريدته أحيانًا ما يخالف
هذه المزايا. ذلك أن هذه الجريدة كانت أيام فتنة بيروت نارًا تتلظى من التعصب
على المسلمين , ولو كانت منتشرة في سوريا لما خمد لهيب الفتنة إلى اليوم، وإلى ما
شاء الله تعالى.
والشاهد المقصود لنا بالذات ما كتبه في مسألة (دعوى الخلافة) التي ناقشنا
فيها جريدة ترك الغراء. إذ ادعت أن العرب في جميع البلاد وسائر الشعوب
الإسلامية تحسد الترك على لقب الخلافة , ويدعي كل منها أنه أحق بالخلافة من
الترك , وإذ قامت تفاخر هذه الشعوب بتفضيل الترك عليهم , ولمَّا كنا على علم
يقيني بأن النداء باسم الجنسية والتفاخر بها والتعصب لها مما لا يبيحه دين الإسلام,
ومما يفرق كلمة المسلمين ويجعل بأسهم بينهم شديدًا؛ أنكرنا على رصيفتنا هذه
الخطة , وأكدنا لها القول بأنه لا يوجد إسلامي يفكر في منازعة الترك السلطة لأجل
لقب الخلافة , وأن العرب في الحجاز ونجد والشام ومصر وغيرها من الأقطار
يتمنون لو تدوم سلطة الدولة العثمانية مؤيدة بالقوة والعدل ما دامت الأرض والسماء ,
وأنه لا يضر هذه السلطة شيء مثل المفاخرة بالجنس التركي واحتقار سائر
الشعوب الإسلامية لإثبات فضله عليها. وقد قلنا: إن جميع من لقيناهم من كبار
رجال الترك الفضلاء قد وافقونا على اعتقادنا هذا.
فتطفلت جريدة الجوائب المصرية على الجريدتين الإسلاميتين , وافتاتت علينا
بالحكم , فكتبت في العدد الـ ٣٥٤ الصادر في ١٢ المحرم نبذة افتتحتها بقولها:
(تشغل الخلافة أفكار المسلمين في جميع الأقطار لكثرة ادعاء الملل الإسلامية بها
فالعرب والترك يتزاحمون عليها) إلخ ما قاله مناقضًا لقولنا في الرد على جريدة
(ترك) .
وقد جعل ملة الإسلام الواحدة مللاً متعددة فكنا نداوي علة اختلاف الجنس
بمرهم الاتحاد الملي , فحكمت علينا جريدة الجوائب المصرية الغراء بأنه ملل
متعددة لا ملة واحدة , فما هذا الافتئات؟ وما هو الغرض منه يا ترى؟
ومن العجب أن هذه الجريدة على تحكمها قد تبرأت من التحكم , وزعمت أن
كلامنا ومناقشتنا تنتج التفريق الضار بجميع الأمم الشرقية فانتحلت لنفسها القصد
الذي دفعنا إلى الكلام , وكلامها ينتج نقيضه إذ أثبتت أن التنازع بين الترك والعرب
واقع بالفعل , فإذا صدقها الشعبان فإن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر خصمه , وإنما
نحاول نحن إقناع الفريقين بأن هذا التنازع وهمي أو خيالي لا وجود له إلا على
ألسنة أفراد من المنافقين.
ثم استدلت الجريدة على أن الترك أحق من العرب بالخلافة بدليل يثبت نقيض
المدعى , وهي أبلغ المطاعن في السلطان عبد الحميد قالت: (لا بأس أن نذكر
كلمة تنسب لجلالة السلطان الأعظم عبد الحميد فقد أوصل إليه بعض المقربين
لجلالته صوت تشكي الحجاج عمومًا من عون الرفيق باشا شريف مكة، وظلمه
واستبداده الفائقي التصور والحد طمعًا بأن يصدر جلالته إرادته السنية بعزله وتعيين
خلف له , فدرى جلالته بالغرض من التشكي وقال: إنني لا أعزل عون الرفيق
باشا ولن أعزله كل حياتي , بل أتركه عبرة ومثالاً للذين يستثقلون ظلم خليفة الترك
لأريهم كيف يكون ظلم خليفة العرب) اهـ كلام الجوائب المصرية بحروفه.
فهذه الجريدة تريد أن تقنع قراءها من العرب بأن ظلم الشريف الذي يشكون
منه مع غيرهم إنما هو جزء من ظلم السلطان التركي؛ لأنه على قولها قد أقامه هناك
ليظلم، ولن يردعه عن ظلمه في الحرم لغرضه السياسي في ذلك, وكل الناس يعلمون
أن أمراء مكة يربون في الآستانة على ما تحب الدولة العثمانية وترضى , وأنهم
عمال للحكومة العثمانية، فإن أساءوا وظلموا فالإساءة والظلم ينسبان إلى من ولاهم
وأقرهم على ظلمهم
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب
هذا ما تنشره هذه الجريدة , وأصحاب جريدة ترك الفضلاء يطبعون جريدتهم
في مطبعتها فيعلمون ما هنالك , ولا يردون عليها، ولا يدافعون عن جنسهم وسلطانهم
إلا الأوهام التي يسندها الجواسيس ودعاة الفتنة إلى العرب فحسبنا الله ونعم الوكيل.
كتبنا هذه الكلمات بمداد الثأثر مما كتبت جريدة الجوائب الغراء، ويغلب على
ظننا أن هذه النبذة المردودة ليست من قلم صاحب الجريدة، ولا اطلع عليها قبل
نشرها لما لنا من حسن الظن بقصده وأدبه , فعسى أن نرى فيها بعدما يحقق حسن
ظننا.
عرف قراء المنار أن من منهجه الدعوة إلى الوحدة , والنهي عن الفرقة،
والتسليم لذوي السلطة , وقد كتبنا في السنة الأولى مقالات في الخلافة والخلفاء مثلنا
فيها تاريخ الإسلام ومناشئ علله وأمراضه من هذه الجهة كما مثلناها في مقالات
أخرى في العلماء والمرشدين , وقد قلنا في فاتحة المقالة الأولى ما نصه: (كما في
العدد (٣٣ ص ٢٥٧) :
(ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شرطها وانطباقها على القائم
في مقام الخلافة الآن أو عدم انطباقها , فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب
الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية الذين يثيرون رواكد الأوهام، ويسرون في دياجير الظلام , ونقول قبل الدخول في المبحث: إن كل من يحاول إشراب الأفهام
وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على السلطة
الإسلامية، ومحوها من لوح الوجود , وما لهؤلاء النوكى تكأة يتكئون عليها إلا
قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا تكاد
توجد اليوم في قرشي , كالعدالة على شروطها الجامعة , والعلم المؤدي إلى الاجتهاد
في النوازل والأحكام , والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير
المصالح، وجمع الكلمة) .
وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة , وتطريهم جرائدهم باستحقاقهم لها
عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة , وما جعل النبي صلى الله عليه
وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي من أثرها
اجتماع القلوب عليهم , والإذعان لسلطانهم عن رضى واختيار , وقد نال هذا
المعنى آل عثمان فحصل المقصود الشرعي به) .
هذا ما كتبناه من بضع سنين , ولم يكن قد مضى علينا في هذه البلاد الحول ,
فكنا نتوهم صدق بعض أقوال المرجفين , ونحاول إقفال هذا الباب وإيئاس الناس
منه لما فيه من الضرر.
وكتبنا في تقريظ جريدة اللواء كما في (ص٧٠٢) من السنة الثانية ما نصه:
(وقد انتقدنا عليها (أي: جريدة اللواء) أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض
الناس في مصر يسعون في إقامة خلافة عربية , كأن الخلافة من الهنات الهينات
تنال بسعي جماعة أو جماعات , ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا
الإرجاف.
مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد , وقد سلم السواد الأعظم من
المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا. والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال
المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية , فإن
كان أحد يقدر على حلها فهو الله وحده , وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو الشيطان.
ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة إلا رجلان: رجل اتخذ
الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة ,
ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة
ضعيف متزعزع يمكن لأي أمير أن يناله , ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه
ليزيلوا هيبته من القلوب , ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت
من الأوقات , وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا.
(كان مصطفى كامل أفندي يوم ألف كتاب المسألة الشرقية ينسب هذا الطمع
الأشعبي للإنكليز , واليوم نرى مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه في
خطبته وجريدته , ويدع نفوس البسطاء تذهب فيه كل مذهب , وإذا سئل الإفصاح
وبيان المجمل؛ يجمجم ويغمغم. فإن كان على رأيه الأول فليصرح به ليرجع
العامة عن أوهامهم، والخاصة عن سوء الظن به , وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما
آنفًا , ولا نظنه إلا على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعول) اهـ.
فيرى القارئ أننا في عبارة السنة الأولى كنا مغترين بكلام بعض المرجفين ,
وأننا في السنة الثانية علمنا حق العلم أن مسألة الخلافة لا يلغط بها من أصحاب
الأغراض كما قلنا في مقالة (دعوى الخلافة) ويرى أن لهجتنا قوية في الإنكار
على كل من تكلم في هذه المسألة، لاعتقادنا بضرر الخوض فيها , فقد عادانا صاحب
جريدة اللواء لتشديدنا في الإنكار على ما كتبه بذلك في أول ظهورها , وما قاله في
خطبة له تلاها في ذلك العهد. وقد كنا في غنى عن إحراج مثله بعدما كان راضيًا
عنا وعن المنار حتى إنه كان يهنئنا على بعض المقالات , ويقول: إن هذه الخطة
أنفع ما يكتب للمسلمين. فليعذرنا أصحاب جريدة ترك , وصاحب جريدة الجوائب
فإننا لا يمكننا السكوت عن الإنكار على كل من يذكر الناس بما يوجب التفرق
والخلاف لأجل لقب الخلافة المشئوم , أو اختلاف الجنسية اللغوية , فحسبنا ما منينا
به من المصائب والنوائب واستبداد الحكام وسلطة الأجانب.
* * *
(أخبار الحجاز والحجاج في هذا الموسم)
كتب إلينا كاتب مرافق للمحمل المصري بمثل ما كتب إلينا آخر من سوريا
عن فقد الأمن، وعموم المخاوف في بلاد الحجاز، وما حل بالحجاج في هذا الموسم
من القتل والسلب والنهب، وكتب كاتب مصري مع المحمل من ينبع إلى صديق له
في مصر كتابًا في تسع خلون من المحرم، قال فيه ما نصه:
(الحج في هذا العام لم يطرأ عليه أي طارئ وبائي فضلاً عن كثرة الحجاج
وازدحامهم وقذارة الطرق وإهمال موظفي الصحة العثمانية.
الأمن مفقود في كل بلدة مر بها الحجاج , والعربان مسلحون بسلاح جيد،
وأغلبه مكتوب عليه بالحروف الإفرنجية (س. إيتمنس) والأهالي مجردون من
السلاح، والحكومة تمنع حمل السلاح بكل تدقيق إلا الأعراب، كما أنها لا تحرك
ساكنًا؛ إذا وقع أمامها أيّ مقتلة , وقد حدث ليلة نزولنا عن عرفة قتال بالبنادق أمام
مركز الحكومة الحميدية بمكة بقرب الحرم المكي الذي يقول الله فيه: {وَمَن دَخَلَهُ
كَانَ آمِناً} (آل عمران: ٩٧) وقتل في تلك الليلة بجهة خيام المحمل (ديده بان)
من العسكر المصري أثناء تأدية وظيفته , ولابد أن تكونوا عرفتم تفصيل الحادثة؛
لأن أمير الحج بادر بإخبار الحكومة المصرية بذلك بالبرق وبالبريد، وإلى الآن لم نر
من الحكومة العثمانية نتيجة.
قتل وجرح وسلب عدد ليس بالقليل من الحجاج الذين لم يكونوا مرافقين
للمحمل على الطريق بين جدة ومكة , ومن وصل من الجرحى لم تسعفهم الحكومة
ولا بشربة ماء إلى أن وصل المحمل وأسعفهم بالقوت والعلاج. لجأ واحد منهم إلى
بيت الشريف، فلم يسمع له قول، وحتم عليه أن يفصل واقعته على ورق تمغة
وهو أمامهم مجروح مجرد , ولو كان معه ثمن ورقة تمغة لسد به رمقه، وستر به
بدنه.
تعدد خروج الحجاج المسافرين من مكة وكانت الجمالة تقتل بعض الركاب
معهم , وتسلب أمتعة الجميع وتهرب بالأجرة وبما سلبت، ولما طالب أمير الحج
الوالي ولو برد الأجرة (أي: الثابتة عند حكومة الحجاز رسميًّا) وعد بالنظر، ولم
يكن لوعده أقل فائدة!
أخذ المطوفون من الحجاج إعانة لسكة الحديد الحجازية، ومن تأخر عن الدفع
كانوا يشيرون بحبسه، والذي يأمر بالحبس يكفي أن يكون واحد من عبيد الشريف
بحيث تعددت السلطة ومصادرها، فلا يدري الإنسان من يخافه ومن يتقيه!
الباعة في الأسواق، والمطوفون في الحرم، وأعوان الشريف في كل مكان،
وكل من في مكة إلا القليل عبارة عن منصر حرامية (زعماء لصوص) يسلبون
الناس أموالهم بحيث يهلك الفقير جوعًا؛ لأن الأسعار غالية جدًّا، والشيء الذي
كانت قيمته في مكة خمسة قروش وصل إلى ريالين ذلك؛ لأن كل ما يرد من
المأكولات وما يذبح يلتزمه أحد (محاسيب) الشريف، ويبيعه بالثمن الذي يرضيه
للباعة , وأولئك قوم من جهة يشترون بأغلى الأثمان , ومن جهة أخرى يستوفون
من الناس أضعاف القيمة. والفقير حائر كيف يقتات , وهو مجبور على الإقامة
أيامًا معدودات.
بماذا أحدثك أيها الأخ (الشفوق) ؟ أين المنصفون من أصحاب النظر
يشاهدون ما شاهدناه، ويعودون إليكم شارحين الحال واصفين بلسان المقال؟
تعددت الشكاوي إلى أمير الحج المصري، فكتب وتوجه بنفسه إلى الوالي
والشريف فاعترف الأول بالكتابة بأن المطوفين يحبسون الحجاج، والثاني كذب.
ولما أراد سعادة أمير الحج إثبات الأمر رسميًّا خاطبه الشريف بقوله: (يا حضرة
الباشا ما لكم حق في التداخل) وكررها مرارًا. خاطبت واحدًا من التجار الأجانب:
هل يعاملونكم كما يعاملون باقي التجار المكيين؟ فقال: لا، وإنما نتيجة السلب
واحدة فإننا ندفع أجرة نقل بضائعنا بين جدة ومكة أضعافًا. قلت: أما تشكون
لقناصلكم؟ فقال لي: كأنهم متحدون مع السالب تمام الاتحاد، فالسلب عام من
الجميع، والكيفية مختلفة.
سمعت أن بائعي السبح قد منعوا من بيعها أولاً , وكانوا قد استعدوا على
كميات وافرة منها فساءهم هذا الأمر , ولكنهم أدركوا المقصود فجمعوا مبلغًا من
المال وقدموه فألغوا تنبيههم الأول وأباحوا لهم بيع السبح , وانظر بعد ذلك أثمان
السبح ...
آه! لو سمعت (الفرمان العلي الشأن) وهو يتلى في صيوان الشريف ثاني
العيد ذلك الفرمان الطويل العريض مملوء بعبارات الثناء العاطر , وتعديد صفات ما
سمعت تركيًّا وصف بها نبيًّا من الأنبياء. ولو رأيت النياشين المرصعة في صدر
الشريف، والخلع التي ألبسها في هذه الحفلة بعضها فوق بعض , والوزراء
والأمراء والوجهاء واقفون وقوفهم للصلاة وكذلك العسكر، ولو رأيت ما حوله من
الجياد المطهمة عليها السرج المثقلة بالذهب الخالص الوهاج، ولو نظرت جميع
الحاضرين يقبلون يد الشريف أو ثيابه (إلا أنا فإنني - ولله الحمد - لم أسلم عليه
ولا بالإشارة) وهو لا يتحرك لأكبرهم؛ لاستكبرت الأمر واستنكرته , وعلمت أن
المسلمين في غفلة أينما كانوا في كل قطر وفي ظل كل دولة لكن بؤسهم يتفاوت
بحسب حال دولهم.
لا شك أننا وصلنا إلى حال يتبرأ منها الدين، ويحل بنا غضب الله بسببها.
كيف نصدق فرمان خليفة المسلمين وشاهد الحال يناقضه في نفس الحفلة؟ كيف
نسمع أن الشريف مؤمن الطرق وقاطع الأشرار، والسالك نهج آبائه الأطهار، وأنه
مقيم الدين، وناشر لواء شريعة سيد المرسلين - أي هذه بعض الألقاب التي
يوصف بها في الفرمان وهي عشر معشار ألقاب رئيسه السلطان - أين أثر الدين
فيما شاهدنا، والإسلام يتبرأ من هذا الذي رأينا، أين الهداة الداعون إلى الإسلام؟
هل ألغي حكم آية: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) .
خاطبت واحدًا - قيل لي: إنه من علماء مكة - في شأن ما أشاهده وما حل
بالحجاج فقال: لا يهولنك الأمر فقد ورد في القرآن في حق الحرم {وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: ٦٧) (كذا) وقال لي آخر: {لَّمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} (النحل: ٧) ألفاظ لا يعون لها معاني، ولن ترى أمامك إلا
عمائم لا تفضل أمثالها في باب المزينين فما دونه! وحدث عن الوثنيات هنا بما لا
تحتمله الروايات، واسمع من المطوفين ما يثقل على الآذان خرافات وموضوعات
تخرج الضعيف من الإسلام، إلى عقائد أولئك الجهلة الطغام والجهل سائد عام،
والضال المضل سيد وإمام.
يأسف الإنسان على بلاد كانت مشرق شمس الإسلام، وفيها بيت الله الحرام،
ويكون هذا مصيرها. أريد الكلام ويمنعني أنك سريع التأثر , ولكن القلب والقلم
يحتمان عليَّ الكتابة، لعلك تنيبني عنك في صدقة مقبولة هي في مقدمة الصدقات ,
ألا أصرف على حسابك ما تجود به نفسك على عسكر الدولة الأنفار الصابرين
الذين هم يبيعون الأشياء التافهة على الحجاج وحالهم أسوأ حال.
كنا نسمع عن دراويش التعايش أنهم يلبسون المرقعات، ولكن الفرق بين
مرقعاتهم وكساوي عسكر الدولة أن مرقعات الدراويش تخاط من أول أمرها،
وثياب العسكر هنا من أرثِّ ما يكون مرقعة في أغلبها رقعًا متراكمة فوق بعضها
مختلفة الألوان، وهي بجملتها في أشد حالات البلى والرثاثة، وهم مع ذلك من
أصبرالناس على هذه الحال، وأمرهم في ذلك معروف، وبأسهم الحرب موصوف ,
والذي سمعته أن ذلك لم يكن من تقتير الدولة، بل من سلب رؤسائهم حقوقهم.
وملبسهم سواء يوم الاستعراض والأيام المعتادة، وكثير منهم يلبس النعال القديمة أو
(المراكيب) الحمر بدل (الجزم) حتى وقت (التشريفة الكبرى) .
قد رافق المحمل الشامي من المدينة إلى مكة (البيجم) وهي ملكة بهوبال
التابعة للحكومة الإنكليزية، وكاد العرب يقتلونها وهي في ركب المحمل طمعًا في
المال , لولا أن هربوها من تحتها في شقدف كواحدة من الناس، ولولا أن أمير
الحج الشامي أرضاهم لفتكوا بها إن لم تعطهم كل ما طلبوا , وقد قتل أحد
اليوزباشية الأتراك , وجرح بيكباشي في هذه الواقعة. وقد قابلني ابنها الثاني (أي:
ابن الملكة) الذي يلقبونه بالنواب , وكنت أنا وسعادة أمير الحج على سطح الحرم
المكي ودعانا إلى بيته، ثم دعا بعض رجال المحمل معنا , وتوجهنا إلى مقر
(البيجم) فأكرمونا , ثم ألقت علينا خطابًا من خلف ستار ترجمه لنا (فليس) قنصل
الإنكليز بجدة، وقد أجاب عليه سعادة أمير الحج، ومتى عدت إلى مصر أعدت إليكم
أكثر ما شاهدته , وقد سافرت (أي: الملكة) إلى بلادها ساخطة على فقد الأمن،
وبلغني أنها شافهت الشريف بعبارات شديدة، وقد انتقد ابنها على شهامة العرب
قائلاً: كيف يتعدون على امرأة؟
رافقنا من مكة إلى ينبع الصدر الأعظم السابق لدولة إيران لنزور المدينة معًا,
فلما وصلنا إلى ينبع تعنت الأعراب معنا , ومنعونا المرور للأسباب التي
سأذكرها لكم بعد، ولما كان يهمه دخول المدينة باكرًا ليحضر بها يوم عاشوراء
(والقوم أمثال القوم) اتفق مع العرب على دفع خمس جنيهات عن كل نفر معه جُعْلاً
للعرب نظير المرور فقط، لا في نظير خدمة، وترك مرافقة المحمل وسافر ,
ورافقنا من مصر وزير المغرب الأقصى إلى ينبع، ورافقنا من مكة أمير حج ابن
دينار وجماعة , فقال عنهم الأعراب: إن معكم سلطان مراكش، وسلطان دارفور لا
تمرون إلا بما يناسب مقام الدولة، ومقام ذينك السلطانين.
وصلنا إلى ينبع يوم السبت الماضي , ولا نزال بها إلى اليوم ننتظر عودة
سعادة أمير الحج من جدة الذي ذهب ليخابر الحكومة المصرية بالتلغراف بما يرغبه
الأعراب لخلو ميناء ينبع من التلغراف، ومحصل مسألتهم أنهم في العام الماضي
طلبوا من أمير الحج أن يصرف لهم مرتبات لم تصرف إليهم منذ ثلاثين سنة،
وهي آلاف من الريالات فقال لهم: إني لا أعلم بأثر من مرتباتكم هذه، ولكن لكم
أن تكتبوا طلبًا إلى الحكومة بها، وأن تتنازلوا عن الماضي إلى الآن , ومتى وجد
لمرتباتكم أثر تصرف إليكم من جديد، عاد بطلباتهم واستكشف عنها فلم يجد لها
أثرًا فأعادوا الطلب منه الآن، وامتنعوا عن التنازل عن ما مضى , وأغلظوا القول،
وبعثوا إليه الكتاب بالتهديد والإنذار والممانعة من المرور، وليتنا رأينا فيهم رشيدًا،
بل هم أراذل أدنياء قليلو الأدب يكذب بعضهم بعضًا، ويحتقر أحدهم الآخرين،
كثيروا اللغط بلا فائدة، ومع محاسنتنا لهم , وتعب أمير الحج والمحافظ معهم سرًّا
وعلانية لم يفد كل ذلك فيهم فاضطر إلى السفر إلى جدة للمخابرة , ولا بد أنكم
تعلمون النتيجة قبل أن نعلمها هنا.
التلغراف: في هذه البلاد يؤخذ فيه عن كل كلمة ثلاثة فرنكات تقريبًا , وواو
العطف كلمة، ولو كانوا قومًا يفقهون لرخصوا الأجرة فيقبل الحجاج عليهم
ويتخاطبون مع أهليهم بتلغرافات عديدة، ولربحوا الأموال الطائلة. غريبة في كل
أحوالها التي لا تتفق مع المعقول، ولا أمان فيها على المراسلات حتى إنني لا
أدري أيصل إليكم هذا أو يصل إلى الشريف؟ وقد كتبته وكلا الأمرين مفيد عندي.
رأيت وأنا على جبل عرفات عربية على رأسها برنيطة فقلت لها: بيعيني مظلتك
هذه. فقالت: الشمس تؤذيني. قلت: هذه شمسيتي الثمينة خذيها فهي أنفع وتعبت
معها حتى أقنعتها وسأحضرها معي. اهـ المراد منه.
(المنار)
قد كتب بمعنى هذا الكتاب كثيرون من الحجاج إلى أهليهم وأصدقائهم، وأعجب
شيء فيه عندي تحريف ذلك الجاهل المعمم في مكة لقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا
جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: ٦٧) فإن الله يمتن
بهذه الآية على من في الحرم بأنه وهبهم الأمن في بلاد المخاوف فهم آمنون ,
والبلاد التي وراء الحرم من كل ناحية أي: التي حوله لا أمن فيها , وقد جعل ذلك
الجهول الآية مثبته لنفي الأمن من الحرم نفسه , ومثله في الجهل من حرف امتنان
الله تعالى على أهل مكة والناس عامة بالأنعام؛ إذ جعل من منافعها أنها تحمل
أثقالهم إلى البلاد التي لا تبلغ لولاها إلا بشق الأنفس فجعلها مثبتة لوجوب إهانة
الحجاج والتعدي عليهم. ويقصد الكاتب بأمثالهم في باب المزينين أهل الأزهر، وقد
رأى القراء في باب السؤال والفتوى نموذجًا من تحريف بعضهم لكتاب الله تعالى.
اللهم إن بني إسرائيل لم يحرفوا كتابك التوارة بأكثر مما تحرف هذه العمائم كتابك
الفرقان فافرق بينهم وبين عبادك المعذورين بغرورهم بهم , وافصل بينهم بالحق
وأنت خير الفاصلين (انتظر الكلام على الحج في الجزء الآتي) .