للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من الحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.
هذه أسئلة نرفعها لحضرة السيد رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي بمصر،
لا زال بعافية آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرجوكم يا سيدي أن تجاوبوني عنها على
صفحات مناركم المنير.
(س ٢٠-٢٦) ما قولكم شكر الله سعيكم:
(١) في قول بعض من ألف في الأحاديث الموضوعة هذا الحديث صح
من جهة الكشف، وهل يعتمد ذلك؟
(٢) وهل الكشف له أصل في ديننا، أو هو باطل؟
(٣) ولفظ كَشْف، هل كان معروفًا عند الصحابة رضوان الله عليهم؟
(٤) وهل يعتمد على قول من يقول: إن الحديث قد يكون صحيحًا عند المحدثين
وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل الله تعالى يعرفون أنه
موضوع؟
(٥) وهل يعتمد على قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شرط
العصمة في أحد؟ فكيف نرد بعض الأحاديث ونقول: راويها كذاب، والكذب ما
أحد معصوم منه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
(٦) وعلى قول بعض الناس: إن الشيخ السيوطي كان يجتمع بالنبي صلى الله
عليه وسلم يقظة، ويصحح عليه الأحاديث، فالموضوع يخبره عنه أنه
موضوع، والصحيح أنه صحيح.
(٧) ويقول الناس من أهل العلم ببلدنا: إن الشيخ الغزالي اجتمعت روحه
بروح سيدنا موسى سأل الباري سبحانه وتعالى عن علماء هذه الأمة وأنهم كأنبياء
بني إسرائيل، فجمع بين روح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وبين روح الغزالي
رحمه الله، فسأل سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم الغزالي عن اسمه فقال له:
محمد بن محمد بن محمد الغزالي. فقال له: أنا سألتك عن اسمك، فلماذا
أخبرتني عن اسمك واسم أبيك وجدك. فقال له الغزالي: وكيف قلت أنت
للباري لما قال لك: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: ١٧-٨) هي عصاي
إلخ.. هل هذه المسألة صحيحة ومروية بسند مرضي عن نبينا، أم هي من
اختراعات الشيوخ.
نرجوكم سيدي أن تبينوا لنا الحق في هذه المسائل لا زلتم هادين مهديين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفيد من الحجاز
... ... ... ... ... ... ... ... ... م ح ن
الجواب عن مسائل الكشف
لم يقل أحد من الأئمة: إنَّ الكشف من الدلائل الشرعية، أو من مآخذ الأحكام
الدينية، ولا يقبل أحد من المتكلمين، ولا من المحدثين، ولا من الفقهاء، الاحتجاج
بحديث لم تصح روايته بالطرق المعروفة في علم الحديث، ممن يدعي أنه صح من
طريق الكشف، فهذا الكشف الذي يتحدث به الصوفية شيء لا يثبت به حكم شرعي
ولا دليل حكم شرعي كالحديث، ولو جعلنا الكشف حجة شرعية، لما كانت دلائل
الشرع محصورة فيما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، وتلقاه عنه
أصحابه الذين هم خير هذه الأمة، وهم لم يقولوا بهذا الكشف، ولم يحتجوا به.
نعم إنه نقل عن بعضهم شيء من النطق بالإلهام الصادق، كإخبار الصديق عما
في بطن امرأته من الولد، ومعرفة عثمان ما كان من ذلك الرجل الذي نظر إلى المرأة
بشهوة. ولكنهم لم يسموا هذه الإلهامات النادرة كشفا، ولا عدوها طريقًا لمعرفة
الأحكام، وقد سمى عثمان ما اتفق له مع الرجل فراسة. ولكن بعض العلماء أطلق
على ما كان منهم لفظ الكشف، وكانت تعرض لهم المشكلات الشرعية في الأحكام،
فيتذاكرون ويتشاورون فيها، ولا يعتمدون في تقريرها على شيء بعد الكتاب والسنة
إلا على الرأي في استبانة المصلحة وتحري العدل. ولم يدع أحد منهم بعد موت النبي
صلى الله عليه وسلم: أنه رآه بالكشف أو في النوم، فأخبره بأن الحق كذا أو الحكم
كذا.
وإذا قلنا بأن من خواص نفوس البشر أن تدرك بعض الأمور من غير
طريق الحس والعقل نادرا، وأن بعض الناس قد يكون استعداده لذلك قويًّا، وأن من
كان استعداده له ضعيفًا، تيسر له تقويته بضروب من الرياضة، كما ينقل نَقْلاً
مستفيضًا عن البراهمة والصوفية فإن هذا كله لا علاقة له بالدين، وإنما هو من قبيل
سائر خواص المخلوقات التي منها ما هو طريق للعلم، كالخواص التي بني عليها
صنع الآلات التي يعرف بها ما سيحدث من الأنواء والزلازل قبل حدوثه. ولا شيء
من ذلك يعد من الدين، ولم يصل الكشف إلى أن يكون طريقًا منضبطًا للعلم، بحيث
يعرف كل من كان من أهله، ما يعرفه الآخرون، إذا هو طلب معرفته بأن تتفق
معارفهم من غير أن يأخذ بعضهم عن بعض.
ثم إن الصوفية الذين يعدون الكشف من ثمرات طريقتهم، لا يقول أهل
الصدق والعرفان منهم: إن الكشف دليل شرعي، بل يعدون من شروط الاعتداد
بصحته موافقته للشرع. قال محيي الدين في فتوحاته:
كل كشف شهد الشرع له ... فهو علم فيه فلتعتصم
وقالوا: إن الكشف إذا جاء بخلاف ما علم من الشرع فهو باطل، ويعدونه
من وحي الشياطين، ولهم في ذلك حكايات غريبة، ولم أر من علماء الأصول من
بالغ في التسليم بما نقل من الإلهام والكشف، حتى ما علم عند المحدثين أنه لم يصح
مثل أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي صاحب الموافقات، فإنه عد من الأصول كون
المزايا والمناقب عامة، كعموم الأحكام والتكاليف بين النبي صلى الله عليه وسلم
وأمته، إلا ما ثبت أنه خاصة به، وذلك مما افتحره لم يسبقه إلى القول به أحد من
أئمة المسلمين، وإن قال جمهور المتكلمين: ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون
كرامة وهو خلاف التحقيق. وقد ذكر من فروعه الخوارق من الفراسة الصادقة،
والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة. واشترط للعمل بذلك ما
بينه في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد قال:
(إن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر، إلا بشرط أن لا تخرم حكمًا
شرعيًّا ولا قاعدة دينية، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في
نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما إلقاء من الشياطين وقد يخالطه ما هو حق
وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت
مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا
خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطراد، ولا
يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف. وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل
الذي نحن بصدده، مضادًّا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل) .
ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران
بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: لا
تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل، فمثل هذا من الرؤيا لا يعتبر بها في أمر ولا نهي،
ولا بشارة ولا نذارة؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة، وكذلك سائر ما يأتي من
هذا النوع، وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا
رؤيت، فهي قضية عين، لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا
بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل، وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين
مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد، وقد تحصل بالحجة
لعمرو، أَوْ مَا أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر،
فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة بالمال لزيد
على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادًا
على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك
لجاز نقض الأحكام بها، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال،
فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكم له، على نحو ما أسمعه منه) ، الحديث، فقيد
الحكم بمقتضى ما يسمع، وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري
على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل. ولكنه - عليه السلام - لم يحكم
إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم
بعلمه وقد ذهب مالك في القول المشهورعنه، أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر
يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب؛ لأنه إذا لم يحكم
بشهادتهم كان حاكمًا بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادًا من العادات التي لا ريبة
فيها، لا من الخوارق التي تداخلها أمور، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك
بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ولذلك لم يعتبره رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة
الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام جريًا على طريقة إياس ابن
معاوية أيام كان قاضيًا، قال: ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد
عليه، هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقًا من غير حجة
سواها.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين: أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب
المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء، كان جائزًا لهم في الظاهر
تناولها اعتمادًا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي
حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين فَهَمَّ أن يأكل منها،
فنادته الشجرة: لا تأكل مني فإني ليهودي، وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة
قليلة الدخول، وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنو منها زجر عنها، فامتنع وخرج فبعد
ثلاثة أيام ظهر لها زوج، وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها،
هل هذا المتناول حلال أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض
أصابعه، إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه، وأصل ذلك حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه فأكل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم، وقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها
مسمومة ومات بشر بن البراء. الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ذلك القول، وانتهى هو، ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار، وهذا أيضًا موافق
لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بني إسرائيل، إذ
أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه
الحكم بالقصاص. وفي قصة الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام، وهو ظاهر في
هذا المعنى إلى غير ذلك، مما يؤثر في معجزات الأنبياء - عليهم السلام -،
وكرامات الأولياء رضي الله عنهم.
والثاني: أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء،
كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي إلى نجاسة الماء أو غصبه لوجب
علينا الاجتناب فكذلك هاهنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب، أو من عالم
الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ورؤيتها بعين
الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا، كما يبنى على ذلك، ومن فرق
بينهما فقد أبعد.
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابًا
وعملاً بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين:
(أحدهما) الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به
في القياس ما كان في معناه، إذ لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي
صلى الله عليه وسلم، حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به
من حيث كان معجزًا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا على أن
خرق السفينة، قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناءً على ما ثبت عنده من العادات.
أما قتل الغلام فلا يمكن القول به. وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين،
ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول: دمي عند
فلان.
(والثاني) على فرض أنه لا قياس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى إذ
الجاري عليها العمل في القياس. ولكن إن قدرنا عدمه، فنقول: إن هذه الحكايات
عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو
الإثم، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر، فيدخل فيها هذا النمط، وقد قال
عليه السلام: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك) فإذا لم
يخرج هذا عن كونه مستندًا إلى نصوص شرعية عند من فسر حزاز القلوب
بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم.
ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية، وكلامنا إنما
هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول
بمثله في شريعتنا ألبتة، فهو حكم منسوخ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من
الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال، فعمدة الشريعة تدل على خلافه، فإن أصل
الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصًا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير
عمومًا أيضًا، فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي، يجري
الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك
بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
(ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال خوفًا أن يقول الناس: إن محمدًا
يقتل أصحابه، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج لأنا
نقول هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ
ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح
ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر
وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملةً، ألا ترى إلى باب
الدعاوى المستند إلى أن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر، ولم يستثن من
ذلك أحد، حتى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة في بعض ما
أنكر فيه، مما كان اشتراه فقال: (من يشهد لي) حتى شهد له خزيمة بن ثابت،
فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس،
لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحد،
فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية، ومن هنا لم يعبأ
الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع، بل عدوا أنه من
الشيطان، وإذا ثبت هذا فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة، وما ذكر من
تكليم الشجرة فليس بمانع شرعي، بحيث يكون تناول التين منها حرامًا على المكلم
كما لو وجد في الفلاة صيدًا فقال له: إني مملوك وما أشبه ذلك.
لكنه تركه لغناه عنه لغيره من يقين الله أو ظن طعام بموضع آخر أو غير ذلك،
وكذلك سائر ما في هذا الباب، أو نقول: كان المتناول مباحًا له فتركه لهذه العلامة،
كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا، وغير ذلك حسبما يذكر بعد بحول
الله تعالى، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف: إنه نجس أو مغصوب، وإذا كان له
مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر، بل يصير منتقلاً من جائز
إلى مثله فلا حرج عليه، مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف؛ إعمالاً
للظاهر واعتمادًا على الشرع في معاملته به فلا حرج عليه ولا لوم؛ إذ ليس
القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرًا شرعيًّا، ولا أن تعود على شيء منه
بالنقض، كيف؟ وهي نتائج عن اتباعه فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو
يعود الفرع على أصله بالنقض، هذا لا يكون ألبتة، وتأمل ما جاء في شأن
المتلاعنين، إذ قال عليه السلام: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان، وإن جاءت
به على صفة كذا فهو لفلان، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية
للمكروه، ومع ذلك فلم يقم الحد عليها، وقد جاء في الحديث نفسه: (لولا الأيمان
لكان لخولها شأن) ؛ فدل على أن الأيمان هي المانعة، وامتناعه مما هم به، يدل
على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد
الأيمان ما قال الزوج: لم تكن الأيمان دارثة للحد عنها.
والجواب عن السؤال الثاني: أنَّ الخوارق وإن صارت لهم كغيرها فليس
ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق؛ إذ لم يثبت ذلك شرعًا معمولاً به، وأيضًا فإن
الخوارق وإن جاءت تقتضي المخالفة فهي مدخولة، قد شابها ما ليس بحق كالرؤيا
غير الموافقة، كمن يقال له: لا تفعل كذا وهو مأمور شرعًا بفعله، أو افعل كذا وهو
منهي عنه، وكثيرًا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب، أو من سلك
وحده بدون شيخ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة
غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء.
(فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يعمل عليها، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل
عليها؛ قيل: إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية، فأما العمل عليها
مع الموافقة فليس بمنفي) .
أقول: فهي لا تقل عن الهوى الموافق للشرع. ثم ذكر في المسألة الثانية عشرة
ما نصه:
(إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم
فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها
نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل ما في الظاهر، والدليل على
ذلك أشياء منها ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر
الشريعة.
(والثاني) أَنَّ الشريعة حاكمة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق
والأمور الغيبية حاكمًا عليها: بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر،
أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكمًا عليها، وصارت هي محكومًا عليها بغيرها،
وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.
(والثالث) أَنَّ مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها؛
وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالاً من أعمال
الشيطان.
ثم قال بعد ذكر شاهدين من الخوارق في فصل من هذه المسألة ما نصه:
(ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح
ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك فهي
صحيحة مقبولة في موضعها، وإن لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء
عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا) اهـ.
أقول: والغرض من هذا كله؛ بيان أن الشريعة كاملة لا تحتاج إلى تكميلها
بالكشف، ولا بالرؤيا والأحلام، وأنها هي الحاكمة لا يحكم عليها سواها. وقد
قرأت كلام هذا الأصولي الذي يصدق بالخوارق، وأنت تعلم من علماء الأصول من
لا يقول بجوازها لغير الأنبياء، كالمعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي
من أئمة الأشعرية، والأكثرون القائلون بجوازها لا يقولون بأن أحدًا يكلف تصديق من
يدعيها بشيء مما يدعيه منها وإن وافق الشرع، فكيف يكلفونه أن يصدقه بالعبث
بأحد أصوله كالسنة النبوية، بأن يصحح ما لم يصح عن الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ويكذب ما صح عنه، وهم يعترفون معه بأن بعض هذه الخوارق
والمكاشفات أحوال شيطانية. فإذا كان فيها الحق والباطل، والخطأ والصواب، فهل
عندنا شيء نرجع إليه في بيان الحق والصواب إلا الشريعة المطهرة؟ فمما تقدم كله
تعرفون أنه لا وجه للاعتماد على قول من يصحح الأحاديث بالكشف، ولا قول من
يجعل الكشف أصلاً شرعيًّا، ولا عمل المكاشف بكشفه المخالف للشرع فضلاً عن
عمل غيره به، وما وافقه كان كالرأي والميل النفسي، وقد تقدم أن الصحابة لم
يقولوا بشيء من ذلك، وبذلك تتم أجوبة الأسئلة الثلاثة.
وأما السؤال الرابع: فهو على العلم بجوابه مما سبق أيضًا، وهو أنه لا يعتمد
على قول أهل الكشف، إذا قالوا بوضع ما صححه المحدثون من الأحاديث، يحتاج
فيه إلى التنبيه على أمر مهم، وهو إن ما صح سنده من الحديث قد يكون غير
صحيح المتن، فإن بعض الذين يتعمدون وضع الحديث كانوا لحذرهم من نقد
صيارفة المحدثين يظهرون الورع، ويتحرون الصدق، وقد تاب بعضهم فاعترفوا
بذلك، ولذلك جعل المحدثون للحديث الموضوع علامات، منها ما يتعلق بمتنه
كركاكة الألفاظ أو المعاني، ومخالفة نصوص الكتاب أو السنة المتواترة، ومخالفة
العقل، كما قالوا في حديث طواف سفينة نوح بالبيت على أن سنده غير مرضي
كمتنه. فمن كان ذا بصيرة نيرة في الدين وعلم بمقاصده، يمكنه أن يعرف الحديث
الموضوع، وإن قالوا بصحة سنده. ولكن لا يقبل قوله إلا بدليل معقول.
وأما السؤال الخامس: فجوابه أن من تقبل روايته هو من يوثق بحديثه
وإن لم يكن معصومًا، فإن ذلك القائل يعلم بالضرورة أن من الناس العدل الثقة
الصدوق، وإن لم يكن معصومًا ومنهم الفاسق الكذوب، وأنه يثق بخبر الأول دون
الثاني، فكيف يجعل مع هذا رواية هذا كرواية ذاك؟ هل يستوي الصادقون
والكاذبون؛ لأن كلامهما غير معصوم؟ وغاية ما يترتب على عدم العصمة أن يكون
خبر الصدوق غير المعصوم مفيدًا للظن لا لليقين، وهذا ما اتفق عليه العلماء في
أحاديث الآحاد، ولذلك قال المحققون: إنه لا يحتج بها في المسائل التي يطلب فيها
اليقين كمسائل الاعتقاد.
وأما السؤال السادس: فجوابه: أَنَّ ما ذكر السيوطي مذكور في بعض الكتب
ولكن لم يرو عنه بأسانيد صحيحة متصلة أنه ادعى ذلك، ولو روي كذلك لم يكلف
أحد تصديقه، ومن صدقه لا يجوز له أن يأخذ بتصحيحه لتلك الأحاديث؛ لأن هذا
من قبيل الكشف، وقد علمت أنه لا يعتمد عليه، وقد ادعى كثيرون رؤية النبي
صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فأنكر عليهم بعض العلماء وسلم لهم آخرون، ولا
يقول أحد من هؤلاء ولا من أولئك بأنه يجب على أحد أن يؤمن لهم، ويأخذ
بدعواهم.
ولهم في هذه المسألة كلام كثير في الرؤية الخيالية وغير الخيالية، وقد عرفنا
نحن غير واحد من الصوفية الذين يدعون رؤية الأرواح ومخاطبتها، ومنهم من قال:
إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحاديث كثيرة من الجامع الصغير
للسيوطي فأنكرها - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا نسمع عنهم التناقض في الكشف
وفي رواية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يصح أن نحكمهم في الحديث حتى
مع التسليم لهم؟ ؟ لا لا.
وأما السؤال السابع: فهو من الحكايات التي يتناقلها الناس، وليس لها رواية
يوثق بها، ومعناها كما ترى صريح في أن حجة الغزالي أقوى من حجة كليم الله،
وهو في جوار الله فحسبنا الله.