للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


في الميدان من جديد

بعونك اللهم وفي رعايتك وتحت لواء دعوتك المطهرة وفي ظل شريعتك
القدسية وعلى هدي نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف
هذه المجلة (المنار) جهادها وتظهر في الميدان من جديد.
رحمة الله ورضوانه ومغفرته (للسيد محمد رشيد رضا) منشئ المنار الأول
ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع
عنه وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي
الأغراض التي وضعها أهدافًا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت
المنار أربعين عامًا كانت فيها منار هداية ومنهج سداد.
ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعًا فسيحًا وقضى وفي نفسه آمال جسام
وشاهد قبل وفاته تطورًا جديدًا في حياة الأمة الإسلامية فاستبشر بهذا التطور الجديد
وشام منه خيرًا وأمل فيه كثيرًا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة
المنار، وأن يجعل منها في عامها الجديد (الخامس والثلاثين) لسان صدق لجماعة
جديرة (بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين) تخلف جماعة الدعوة والإرشاد
وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد
كتب - رحمه الله - في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (سيكون المنار
منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف
جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي
منه الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولي النهوض به فتركه لمن يعده
التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته،
ولا يصلح له غيرهم ...) .
ثم ذكر بعد ذلك طرفًا من تاريخ مدرسة الدعوة والإرشاد وما لقيت من عقبات
ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة، ثم قال بعد ذلك: (وجملة القول
إنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى
ما أقرّ به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى
دخولي في سن الشيخوخة وضعفها لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول
الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته
وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقًا
لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (لا يزال في أمته طائفة ظاهرين على
الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة) رواه الشيخان في الصحيحين
وغيرهما بألفاظ من عدة طرق.
وهذه الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب
عناوين خيار الرجال المتفرقين في الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على
اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم، لمخاطبتهم في الدعوة إلى العمل، وأرجو من
كل من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب
إلينا عنوانه وما هو مستند له من العمل معهم إلى أن ننشر دعوتهم الرسمية، وأهم
ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر الذي تقارب فيه
البشر بعضهم من بعض فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها
على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذي يرجى أن
تثق به، فهي لا ينقصها إلا هذا وقد طال تفكيري فيه وعسى أن أبشرها قريبًا بما
يسرها منه.
وأعجل بحمد الله - تعالى - أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي
ولشيخنا الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر، وهو الذي
يعبر عنه في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد
أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم. كان الأزهر كنزًا خفيًّا أو جوهرًا
مجهولاً عند أهله وحكومته وعقلاء بلده، لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان
إصلاح العالم الإسلامي كله به والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية في الدين
والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه؛ ولكن تعليم الأستاذ الإمام - رحمه الله -
وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في طائفة من شيوخه والاستعداد في جمهور
طلابه ولم يبق إلا الجد، ولله الحمد. انتهى.
هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون
المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة
من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه
الجماعة وتشد أزره فيكون من تعاونهما الخير كله.
ولقد كان السيد - رحمه الله - صادق العزم مخلص النية في آماله هذه
فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار (جماعة الإخوان
المسلمين) وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها ويحمل
للناس دعوتها.
يا سبحان الله، إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها
السيد رشيد رحمه الله. ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ولقد كان يثني عليها في
مجالسه الخاصة ويرجو منها خيرًا كثيرًا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها
بخطه: من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد
ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من
أمانيه الإصلاحية وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة
التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد أي ما عدا التعليم
المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضًا، وستحقق جماعة الإخوان
المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص
مقاصدها وإن أثرها في طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية
وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية - إن شاء الله - ويصبح
التعليم كله مركّزًا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام
وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده، والله المستعان.
ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأتْ دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء
المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا وأصبح لهم - بحمد الله - عدد عظيم من كل قطر
يعطف على فكرتهم ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس
أفندي الشيخ من وجهاء بيروت أن نعمل ما عمله السيد رشيد فنجمع عناوين ذوى
المكانة من عقلاء العالم الإسلامي ونتصل بهم ونكتب في جرائدنا عنهم حتى
يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذي وجهه
صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي
والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التي يؤمل أن
يعمل فيها، وحبذا لو تكرم فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية وسنفرد
لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها (صحيفة التعارف)
بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا في
الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار.
ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية،
وأنه أعظم القوى أثرًا في الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونًا له
في مهمته وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء
الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر في نشر دعوة الإخوان
وخدمة فكرتهم التي هي في الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل.
وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظًّا من صاحب المنار - رحمه الله - في حسن
معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة مهما كثر قليل بالنسبة لنواحي نشاطها
وتشعب أعمالها فليقدِّروا هذه الحقيقة وسيجدون ما ينفقون في هذه السبيل عند الله هو
خيرًا وأعظم أجرًا.
ستعود المنار - إن شاء الله - إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان،
وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع
كلمة المسلمين والعمل للإصلاح الإسلامي في كل نواحيه الروحية والفكرية
والسياسية والمدنية. ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما
أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم
بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم
معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لخدمة هذه
الحنيفية السمحة.
لم يكن الشيخ رشيد - رحمه الله - معصومًا لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر
يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك وما من أحد إلا ويؤخذ من
كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال
ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق ومتى كان ذلك رأينا جميعًا ومتى كان شعارنا أن
نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أُمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة
متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزمًا زهوقًا.
على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعًا إلى التعاون معنا،
سائلين الله - تبارك وتعالى - أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا
* * *
روائع
(إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة
الجرداء. طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي
ظلالها، وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد
كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر ... شتان بين عمل وعمل وإن كان لون
يشبه لونًا) .
* * *
الرافعي في وحي القلم
(لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي
تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها
فقط تأخذ كل شيء) .