للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجمع بين آيات القرآن والأحاديث وأخبار الدول في الكتب
(س٣٥) من صاحب الإمضاء في دبي - على خليج فارس.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة الفاضل العلامة الذابّ عن الدين طعنَ الزنادقة والملحدين، والناقد
للمرويات عن سيد المرسلين، السيد محمد رشيد رضا (رضي الله عنه وأرضاه)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد لازال يخطر ببالي وتجول في فكري من
جمعكم في المنار الأغر بين الآيات الكريمة والتفسير والأحاديث النبوية، وبين أخبار
دول أوربا وحوادث أمريكا، فهل الجمع بين ذلك يؤدي للإهانة بالقرآن (كذا) العظيم
وكلام النبي الكريم أم كيف؟ الرجاء كشف ذلك، السائل مسترشد والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المشترك
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن حسن
(ج) هذا السؤال غريب جدًّا، وتوجيهه إلي من هذا السائل الذي وصفني
بما وصفني به قبل السؤال أغرب، وأقول في جوابه (أولاً) إن إهانة القرآن
والأحاديث النبوية لا تقع من مؤمن بكتاب الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن
وقع منه مع اعتقاده بأنه إهانة حكم بكفره، فكيف يقع ممن نصَّب نفسه للدعوة إلى
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والذب عنهما؟ (ثانيًا) إن الجمع بين
الآيات والأحاديث وأخبار الأمم مؤمنها وكافرها موجود في القرآن نفسه، وفي كتب
الحديث والتفسير والتاريخ التي ألفها كبار علماء الإسلام، ولم ينكر ذلك أحد في يوم
من الأيام، بل نجد بعض كبار المفسرين حتى أنصار السنة منهم كالبغوي يذكرون
في تفاسيرهم من الخرافات الإسرائيلية الموضوعة والضعيفة ما هو أولى بالإنكار
من ذكر أخبار الدول والأمم الصحيحة، وقد كان عملهم هذا ضارًّا، ولكن لا وجه
لعده إهانة لكتاب الله (ثالثًا) إن ما نذكره نحن في المنار من أخبار دول أوربة
وغيرها نختار منه الصحيح الذي فيه عبرة للمسلمين أو دفاع عنهم وعن بلادهم،
أو تأييد للإسلام نفسه أو ذب عنه - كما يرى السائل وغيره في هذا الجزء - وكل
ذلك مما نرجو أن يثيبنا الله عليه.
***
هل المجذوب ولي أو مجنون
(س٣٦) من أحمد محمد ثابت بالبطن تبع أبي عموري
إلى حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا:
ألتمس من فضيلتكم البيان الشافي في عدد من أعداد مجلتكم الغراء عن أمر
لُبِّس علينا: سمعنا كثيرًا من الناس يجزمون بأن المجذوب ولي بغير عمل لأنه
جذب من صغره في حب الله، وقد صح حديث (رُفع القلم عن ثلاث: النائم حتى
يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ) ، وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس:
٦٢-٦٣) .
فلذا اشتبه علينا لهذه الآية الكريمة، ولهذا الحديث الشريف أمر المجذوب هل
هو ولي أم لا؟ مع كونه رُفع عنه التكليف؟ وإنا نرى أن الولاية مقام كبير فلهذا لا
نعترض خوفًا من الخوض، وهل عند أرباب الطرق شيء صحيح ورد فيه شيء
عن النبي أم لا؟ أفتونا في ذلك مأجورين بارك الله فيكم وعليكم ودمتم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد
(ج) الولي في عرف الشرع المؤمن المتقي لله تعالى، والآية التي ذكرتموها
نص في ذلك، وفي اصطلاح الصوفية تفصيل لهذا الإجمال. في تعريفات السيد
الجرجاني: الولي: فعيل بمعنى الفاعل، وهو مَن توالت طاعته من غير أن يتخللها
عصيان، أو بمعنى المفعول وهو من يتوالى عليه إحسان الله وإفضاله، والولي هو
العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المجتنب عن
المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات اهـ.
وقد عرَّفوا الجذب الخاص عندهم بأنه جذب الله تعالى عبدًا إلى حضرته،
وقالوا: المجذوب من ارتضاه الحق تعالى لنفسه، واصطفاه لحضرة أنسه، وطهَّره
بما قدسه، فحاز من المنح والمواهب، ما فاز به بجميع المقامات والمراتب، بلا
كلفة المكاسب والمتاعب اهـ، يعنون بهذا أن الأحوال والمقامات التي تُنال بسلوك
طريق المعرفة بالتدريج والتنقل في المنازل قد تحصل لبعض الناس دفعة واحدة من
غير طول مجاهدة للنفس بالرياضة والأوراد، وهذا أمر ممكن وواقع إلا أنه نادر،
وإنني أعرف رجلاً كان ملحدًا بشبهات طرأت عليه من اشتغاله بالفلسفة فمرض
مرضًا لم يشف منه إلا وقد شفي من داء الإلحاد، فصار صحيح الاعتقاد محافظًا
على الصلوات، متورعًا عن الشبهات، أمارًا بالمعروف، نهاء عن المنكر، رحمه
الله تعالى، وأكثر من كانوا يعدون من المجاذيب عقلاء علماء حكماء، وإنما كان
من غلو بعضهم في الزهد والعبادة والقشف أن عراهم من الشذوذ ومخالفة
جماهيرالناس في آدابهم ومجاملاتهم ما يعد وسوسة وخللاً أو جنونًا (والجنون فنون)
وكانوا يسمونهم الموسوسين، ويعبرون عنهم بعقلاء المجانين، لما يصدر عنهم
من الحكم والمواعظ المعقولة أحيانًا، ومن الشذوذ أحيانًا، وقد يصل بعضهم إلى
درجة الجنون المطبق بحيث يؤذي الناس، فعند ذلك يُشد ويلقى في البيمارستان.
وقد غلا بعض ناشري الخرافات من المتصوفة كالشيخ الشعراني فصار يطلق
اسم المجذوب الإلهي والولي على المعتوهين في أصل خلقتهم، وعلى الدجّالين
والأدعياء المتبالهين، واشتهر هذا بين الناس فصار سمت الولي وشعاره عندهم
الوساخة والقذارة والهذيان وكشف العورة وفحش القول، كالذين نراهم يطوفون
حول الأضرحة المعبودة وهياكل الوثنية المشهورة، وإنما هؤلاء مجاذيب الشيطان،
وأولياؤه لا أولياء الرحمن.
***
يوسف نجم: علمه وأين تعلم؟
(س٣٧) من تاجر مسلم في هفانا
ذكرنا في ص ٨٠٠ من المجلد التاسع والعشرين أن تاجرًا مسلمًا كتب إلينا
كتابًا من هفانا يذكر فيه أن رجلاً اسمه يوسف نجم يكتب مقالات متتابعة في جريدة
مرآة الشرق العربية السورية التي تنشر في (نيويورك) يطعن فيها على الإسلام
ومذاهبه وأئمته وأشهر رجاله المصلحين في هذا العصر، وقد سألنا هذا الكاتب:
هل تعلم يوسف نجم هذا في الجامع الأزهر أو في غيره من المعاهد الإسلامية وما
درجة معارفه الدينية ... إلخ، وقد وعدنا في خاتمة ذلك المجلد بأن ننشر سؤاله في
باب الفتاوى ونجيب عنه، ولكننا نسينا أن نضع الكتاب في أضبارة كتب الأسئلة؛
لأننا كنا نعده من الرسائل الخاصة، فصار يشق علينا البحث عنه في أنواع الكتب
الأخرى من أدبية وسياسية وشخصية وغيرها، ولما كان السؤال والمسئول عنه
ليس بذي بال ولا شأن كالأسئلة العلمية والدينية رأينا أن نفي بالوعد بالقدر الذي
نرى أنه يفي بالفائدة فنقول:
إننا قرأنا من تلك المقالات ما علمنا به أن كاتبها عامي لم يتعلم في المدارس
الدينية كالأزهر، ولا في المدارس المدنية، وإنما جل ما حشي به دماغه أمشاج من
الصحف المنشرة وبعض القصص والرسائل التي يخلط فيها العلم بالجهل، والحق
بالباطل، وقد حفظت قصاصات من مقالاته لا أرى الآن حاجة إلى مراجعتها.
والدليل على ذلك كثرة الغلط الفاحش واللحن الفاضح في عبارته والتعارض
والخلط في موضوعاته، مثال ذلك أنه يذكر الخلاف بين إمام اليمن والسيد
الإدريسي حاكم عسير بما يدل على أنه لا يعرف مذهب كل منهما، ولا مركز ولا
وجه الخلاف بينهما وينكر على صاحب المنار أمورًا يعزوها إليه، وفي تفسيره
ومجلته ضد ما يعزوه إليه كزعمه أنه يتعصب لمذهب الأشعرية على ما اشتهر به
من الدعوة إلى مذهب السلف الذي كان عليه علماء الصحابة والتابعين قبل وجود
الأشعري ومذهبه، وعلى ما في تفسيره من الرد على الأشعرية وإمام نظارهم فخر
الدين الرازي، ولكن هذا العامي لم يقرأ ما كتبنا ولو قرأه لما فهمه.
فيوسف نجم هذا عامي جاهل بالإسلام ومذاهبه وتاريخه، وهو بغيره أجهل
وهو يكتب ما تمليه عليه خواطره من غير علم ولا فهم، ويزعم أنه يدعو فيما
يكتبه إلى مقاومة التعصب الديني والمذهبي والاتفاق بين أهل الأديان والمذاهب
المختلفة، وهي دعاية فلسفية اجتماعية دعا إليها بعض الحكماء وكبار الكتاب على
علم وبصيرة يرجى تأثيرها في المستعدين لها، وإنما حظ هذا العامي المسكين منها
التقرب إلى المتعصبين من النصارى بالطعن في الإسلام وكبار علماء المسلمين
وكتابهم وزعمائهم لمنافع له يرجوها من هؤلاء المتعصبين فيما يظهر.
وقد كان كتب إلينا بعض الفضلاء يوجبون أن نرد عليه ولو فيما يفتريه علينا،
وما كنا نجيب طلبهم لقلة الاهتمام بمثل طعنه الجهلي، والرد عليه يرفع قيمته إلى
جعله مناظرًا يُرد عليه؛ ولكننا لما رأينا هذا التاجر السليم الفطرة يظن أنه على
شيء من العلم كتبنا هذا، ولعلنا نجد فرصة أخرى نراجع فيها بعض قصاصات
مقالاته من مرآة الغرب، وننشر للقراء نموذجًا منها للعبرة والفكاهة.