للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

شذرات من يومية الدكتور أراسم [*]
التربية بالتأثيرات الطبيعية
يوم ١٤ أغسطس سنة -١٨٦
صادفنا غداة اليوم على مقربة من ليما زنجيًّا آتيًا إليها يلتمس رزقه من عرض
حيوان يسمى البوما، وهو الممثل للأسد في أمريكا كانت قبلية من المتوحشين
اصطادته حيًّا، وكان ربه وهو شبه مشعوذ يؤمل أن ينال بعض النقود من عرضه
على النظار.
كان هذا الرجل على شدة فاقته، وعجزه عن القيام بنفقة نفسه مصحوبًا بصبية
زنجية عليها طمر أزرق، رأيت في مشيتها قزلاً؛ فسألتها بالإسبانيولية التي لا
أحسنها عما أصابها فجعلها تعرج كما رأيت؛ فكان جوابها أن أرتني إحدى ساقيها
فإذا فيها جرح دامٍ، ورأيت قدميها قد ورِمتا ورمًا مفرطًا، ولما أمعنت النظر في
ساقها المجروحة عثرت على طرف شوكة غليظة في سمك لحمها، وهي التي تسبب
عنها الجرح قطعًا، ثم خبث بما اعتوره من المشي والوصب ولدغ الحشرات؛ فإن
هذين المسافرين كانا آيبين من مسافة بعيدة جدًّا.
ما زلت بهذه الشوكة حتى نجحت في سلها، ثم ضممت أجزاء الجرح بعضها
إلى بعض، ولما لم أجد خرقة أعصبه بها ناولتني (لولا) منديلها، ولم تقتصر
على ذلك بل دعتها رحمتها بهذه الفتاة إلى خلع نعليها ووضع قدميها المرضوضتين
فيهما فلائمتاهما أشد الملائمة كأنما صنعتا لهذه المسكنية فأعربت (للولا) عن
شكرها، ثم غادرناهما ومضينا في سبيلنا.
انبعثت (لولا) إلى عملها هذا بباعث من بواعث الخير القلبية، إلا أنها ما
لبثت أن أدركت صعوبة الاحتفاء في أرض صلبة خشنة كأرض البيرو، فإن طرقها
لا مشابهة بينها وبين مخارف البساتين الكبرى في إنكلترا.
أنشأ (أميل) أولاً يسخر من حيرة صديقته في مسيرها حافية، ولكنه لتأثره
من صنيعها دبت فيه النخوة فاحتملها على ظهره فقبلت ذلك مبتسمة.
إن الباقي من طريقنا لم يكن طويلاً جدًّا ومع ذلك وقف (أميل) في أثنائه
للاستراحة مرتين أو ثلاثًا متبعًا في ذلك نصيحتي، وفي آخر وقفة منها بصرنا من
بعيد بالمشعوذ يقود البوما، وعرفت (لولا) الصبية الزنجية وقد خلعت النعلين
وحملتهما في يدها، فما كان أشد غمها لهذا المرأى، انظر كيف بخستها منحتها وكيف
استعملتها.
فسرّيت عنها ما خامر قلبها من الكدر بأن قلت لها: إن العادة طبع ثانٍ، وإنَّ
هذه الصبية لا بد أن تكون تعبت من الانتعال لاعتيادها الاحتفاء على أن نية إسداء
المعروف محمودة على كل حال، ولو أخطأ صاحبها فيما يتخذه من الوسائل لإيصال
النفع.
والذي رأيته خيرًا من هذه العظة كلها هو أن ما وجده قلبها الطاهر من السرور
باحتمال (أميل) إياها قدر لها فيما أرى على أن الإنسان لا يخسر شيئًا مما يسديه
من المعروف. اهـ
يوم ٢٨ أغسطس سنة -١٨٦
زرنا بعض أجزاء من جبال الفورديير ولم يكن سبق (لأميل) أن شاهد مثل
هذه الجبال التي يصح أن تسمى بالألب [١] الأمريكية؛ فراعه كل الروع ما لهذا
الخلق الهائل من مظاهر الفخامة والعِظَم مع أننا لم نبلغ منها إلا أدنى شعافها.
لا بد لي أن ألاحظ هنا أن القدماء كانوا قليلي التأثر بما للجبال الشامخة من
المحاسن الرائعة؛ فإنا لم نر لشعراء اللاتين من الكلام فيها إلا النذر اليسير، ومعظم
ما قالوه استهجان واستقباح، وقد يحدو بي ذلك إلى القول بأنه كان يلزم أن يدهمهم
من الكوارث المحزنة ما تهتز له نفوسهم، وأن تستضيء بصائرهم بنور العلم،
ويتمكن منها الاستعداد للبحث والتنقيب الذي هو من مزايا العصور الحديثة، ولو تم
لهم هذا لأدركوا أن في سيارنا الذي نعيش على ظهره من المظاهر الهائلة البديعة ما
يدعو إلى الإعجاب الحقيقي اهـ.
يوم ٢ سبتمبر سنة - ١٨٦
كسبت (لولا) دعواها وإن شئت قلت خسرتها فكلا القولين صحيح باعتبار
جهة النظر.
اضطررنا للمصالحة في هذه القضية الكثيرة الارتباك لما يقتضيه الفصل فيها
من الانتظار أشهرًا بل سنين، فعرض على الخصم أن يعطوا لبنت السفان
مقدارًا زهيدًا من النقود وبعض ما كان لوالدها من الأرضين. والأرض هاهنا لا
قيمة لها اليوم أصلاً ما لم يستغلها صاحبها بنفسه أو بواسطة وكيل له يقيم في هذه
البلاد.
فأما أنا وهيلانة فما جئنا لنقيم في (ليما) بل قد انتهت مهمتنا ولم يبق إلا
السفر لا سيما أني تلقيت مكتوبًا من الدكتور وارنجتون يدعوني إلى لوندره لامور
نافعة لي بينها فيه، وأما قوبيدون وجورجيا فإنهما خبيران بفن الزراعة خصوصًا
زراعة الأقطار الحارة، وليسا من ذوي العقول الضعيفة وأمانتهما تقوم بكل ما في
بلاد البيرو من الذهب ولا أرى ما يمنع من العهد إليهما بزراعة أطيان (لولا) .
وإنه ليشق علي مفارقة هذين الشهمين، غير أني أرى أن إقليم إنكلترا لم
يخلق لمثلهما من الزنوج، وأما إقليم جنوب أمريكا فإنه يؤذن بأن سيكون لهما فيه
بتوالي الأيام مناخ جميل ووطن سعيد. اهـ
رجعت السفينة التي كانت حملتنا من لوندره إلى قلاو منذ ثلاثة أسابيع ويعلم
الله متى يكون مجيئها ولهذا رأينا بدلاً من اجتياز رأس القرن أن نركب هذه المرة في
سفينة تجارية على نهير الأمازون [٢] تسير بنا والشاطئ حتى نبلغ سواحل البرازيل
حيث نجد سفينة تكون مسافرة إلى إنكلترا فإن هذه الطريق أقصر من الأولى بمسير
عشرين يومًا.
تنوي (لولا) أن تعود معنا؛ لأن بلادها لقلة ما عرفته منها لم تبعث في
نفسها شيئًا من الرغبة في توطنها، ولأنها تعلم فوق ذلك أننا نحبها.
ما ندمت على هذا السفر بحال (فأميل) قد مضى وقته هنا في الالتفات إلى
العلم والإمعان في مسائله؛ فهو يعود إلى بلاده الآن ناقلاً إليها مجاميع في علم
التاريخ الطبيعي، بل حاملاً ما هو خير له منها: ضروب الانفعال الكثيرة بما رأى
وصنوف الذكر لما وعى، وقد تربى طبعه في مدرسة الاختبار والحياة التي لا يربي الرجال غيرها.
نعم، إني لا أعني بهذا القول أن ألزم جميع من هم في سنه من المراهقين أن
يبتعدوا عن أوطانهم بقدر ابتعاده، ولكن رأيي الذي لا أحول عنه هو أنهم لو خرجوا
قليلاً من أصدافهم ورأوا الكون في الكون قبل أن يروه في الكتب؛ لغنموا من ذلك
أكثر مما يتوهم. اهـ.

الكتاب الرابع في تربية الشباب
المكتوب الأول من (أميل) إلى والده
وصف معيشته - نادي الطلبة الألمانيين ومحاوراتهم - تهافتهم على خدمة
الحكومة تفكر (أميل) في أمره - تألمه من عدم فهمه اللغة الألمانية - ذكره (لولا) -
استيحاشة من غربته.
برلين في ٨ يناير سنة -١٨٦
انتظمت في سلك المدرسة الجامعة بعد امتحان كان لا بد من تأديته وصرت
ادعى منذ أسبوع بالسيد الشاب.
من المفروض علي أن أكاشفك بشيء من تفاصيل معيشتي وأنا طالب: أما
نهاري فأصرفه في تلقي دروس الحكمة والتاريخ والقوانين وعلم تركيب الحيوان
والنبات ومنافع أعضائهما والمقارنة بين اللغات وغير ذلك وأما ليلي فأقضيه في
مسكن استأجرته ستة أشهر بنحو مائة وخمسين فرنكًا، وأما طعامي فأتناوله في
مطعم على مائدةٍ جامعة في مقابل أربعة وعشرين صولديًّا [٣] وبعد العشاء تارة آوي
إلى حجرتي، وطورًا أتنزه في المدينة، ولكوني أجنبيًّا لما أطلع على أسرار طائفة
الشبان كلها على أن أحدهم قد أخذني معه ذات ليلة إلى مدخن (مكان لتدخين التبغ)
يجتمع فيه بعض الطلبة الألمانيين؛ فما فتح بابه حتى رأيتني تائهًا مغمورًا بسحاب
مركوم من الدخان، حال بيني وبين رؤية جدران المكان وسقفه، بل رؤية المكان
برمته، وكان يخيل إلي أنه يمتد إلى غير نهاية، وكنت أسمع أصواتًا وأغاني
وقهقهات ولا أبصر شيئًا من الصور الحية، وأرى أضواء حمراء تبدو في بعض
جهات هذا المكان يغشاها ذلك السحاب كأنما تسبح منه في بحر لجي وكنت أمشي
كخابط ليل وراء الدليل، وعلى مقربة منه بين صفين من الموائد خيل إليّ أنها تعوم
في الضباب، ورأيت عليها رؤية غير مستبينة آنية من القصدير كان لمعانها المعدني
يجهد في صدع حجاب الظلام الدخاني المنسدل على القاعة كلها، ثم لمحت من
خلال هذه الآنية وجوهًا آدمية؛ لأن بصري كان يتدرج في اعتياد هذا الجو الغريب
والأنس به، ولم يكشف عني الحجاب كشفًا تامًّا إلا عندما بلغت نهاية القاعة حيث
أقيم مصطلى عظيم؛ فرأيتني في جمع حافل من الشبان على رءوسهم القلنسوات
وفي أيديهم أكواب الجعة، وبين هذا التشويش واللغط عثرت على حلاق من الطلبة
قامت بينهم مناظرات في مسائل مهمة، ولم تعقهم عن مداومة الشرب والتدخين.
إن أذني لم تعتَدْ سماع الأصوات الألمانية اعتيادًا يكفي لمتابعة مجرى الحديث
وفهمه، ومع ذلك قد فهمت من فحوى ما سمعته أنهم يتناظرون في مقاصد ووسائل
بعضها أسمى من بعض تتعلق بإصلاح أحوال البشر، وكانت البراهين والنكت
والمعاني تنبعث من أفواهم كأنها سهام نارية تنقذف بين أنفاس الدخان، ولما انتصف
الليل غادر القاعة جميع الطلبة؛ ورأيت بعض من لاحظت فيهم الحمية والغيرة على
مصالح الإنسان منصرفين إلى بيوتهم، وقد جعلوا يغنون جهارًا في وسط الشارع
أغاني مبتذلة؛ ولم يبد عليهم حينئذ ما يدل على أنهم ذاكرون لما تعاهدوا عليه من
اصطلاح شؤون الكون.
أخص غاية للطلبة من اختلافهم إلى المدارس الجامعة هنا بحسب ما سمعت
هي أن يلوا عملاً من أعمال الحكومة فكلهم يؤمل أن يكون خادمًا لها على تفاوت
بينهم في ذلك، فإذا حصل أحدهم على لقب دكتور مثلاً؛ رأيته يتقدم إليها حاملاً
شهادته راجيًا أن توليه أحد الأعمال الخالية في إدارتها ومعظم هذه الأعمال لا يولَّى
إلا بالامتحان، ولا يناله إلا من يظهر أنهم أعلم من غيرهم، وحينئذ يعول الذين
يخيبون فيه على الاشتغال بالأعمال المستقلة، ولا أدري أهذه الحالة وهي فرط الرغبة
في تقلد المناصب العامة هي التي ينبغي أن ينسب إليها التغير الذي يحصل
في عقول شبان الدكاترة عند خروجهم من الجامعة أم له سبب آخر.
فالواقع هو أنه ليس بين أخلاق الطلبة وأخلاق غيرهم من الألمانيين أدنى
مشابهة. الطلبة يتظاهرون بالتنفج [٤] والشذوذ والعربدة، ويخيل إلى من يرى
غيرهم من الألمانيين أنهم ممتلئون سكينة بل جمودًا وبلادة، والأولون مشهورون
بالميل إلى الثورة وبحب الحكومة الجمهورية، وبعدم المبالاة بالخوض في أي بحث
نظري، وبالهجوم على جميع المسائل سياسية كانت أو دينية أو قومية بما يدهش من
جرأة الجنان، وبقية الأمة يظهر عليها التشدد في الاستمساك بالعوائد القديمة
وبالحكومة الملكية. وترى الطلبة يتباهون باحتقارهم جميع المميزات التي لا منشأ
لها إلا اتفاق النسب على حين أن أواسط الناس يجلون ألقاب الشرف إجلالاً لا حدَّ
له، فترى الفريقين كلمتين متمايزتين، وليس للطلبة في الحقيقة ارتباط بباقي الأمة
إلا رغبتهم العظمى في أن يلوا لهم بعد مبارحة الجامعة أعمال رسمية، على أن هذا
الارتباط كاف في عدم اكتراث الحكومة كثيرًا بما يبدونه من حدة أفكارهم الحرة.
دعتني سيرة هؤلاء الشبان إلى التفكر في سيرتي؛ فإني قد بلغت التاسعة
عشرة من عمري، ولا مقام لي بين الناس، بل لم يقف بي الاختيار حتى الآن على
صناعة نافعة أشتغل بها، وإذا أردتني على الإقرار لك بما أجده قلت إني أحيانًا آنس
من نفسي فتورًا في الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسائلها عما أصلح له من الأعمال،
وأنا ضائق بذلك صدرًا، نعم إنك قد رأيت مني تقدمًا سريعًا مناسبًا لحالي في
العلوم، ودرس كتب المتقدمين في أربع سنين أو خمس مضت، وما ذلك ولا شك
إلا من الطريقة التي أهلتني بها أنت ووالدتي للعمل العقلي، وهي مراقبة الأمور
والأسفار، وما تلقيته منكما من الدروس النافعة، ولا أشك أن لي طمعًا في العلم
ولكني أجهد فكري في استقصاء ما يعوزني من الخصائص، فآونة أتوهم أني أحس
في نفسي بروح إلهي يقدرني على كل شيء، وساعات يخيل إلى أني قد فنيت في
عجزي، وتجردت من حولي وقوتي، وتارة تملكني الأفكار وطورًا يستحوذ علي
وجدان الحاجة إلى العمل، والذي أراه يقينًا أني لم أجد إلى الآن استقامة واستقرارًا
فيما لنفسي من القوى إن صح أن يسمى بها ما لشاب مثلي من الشهوات القوية التي
تدعوه إلى السعي لإدراك مقام له في هذه الدنيا.
لما بلغت ليما منذ شهرين كنت أعتقد أني على علم باللغة الألمانية لما قرأته
منها في الكتب؛ فما لبثت أن تبين لي خطأي في ذلك ومنشأ هذا الخطأ أني كنت
أحسن قراءة الصحف، وعناوين الحوانيت، وأسماء الشوارع، وما على الجدر من
الإعلانات فإن الجدر هنا كما تعلم تتكلم بالألمانية، فإذا جرت حولي المحاورات
أصغيت إليها؛ وما كنت أسمع إلا أصواتًا لا أفقه شيئًا من معانيها فكنت مطلق
البصر، أسير السمع؛ لأن من الأسر المعنوي الحقيقي أن يعيش الإنسان بين قوم لا
يفهم لغتهم. كان الغلام الذي في الثالثة من عمره وهو في هذه السن لا يعرف من
هذه اللغة إلا التعلثم ببعض ألفاظها يعرف منها أكثر مما أعرف حتى إني لما كنت
أحاول مخاطبته كان يُنغض إليّ رأسه استهزاء كأنه يقول: (إليك عني، إني لا أفقه
لك قولاً) كنت بين أولئك القوم كالأصم الأبكم الذي فقد كل وسيلة للتفاهم
حتى لغة الإشارات، فهل يمكن أن ينشأ عن الأمواج الصوتية إذا اختلف انتقالها
إلى الأذن اختلافًا يسيرًا باختلاف كيفية تحريك الشفتين مثل هذه الحوائل والحجب
التي تبعد الناس بعضهم عن بعض.
استأت جدًّا من هذه العزلة فجاهدت جهادًا عظيمًا في التجرد من الانكماش الذي
أجده من حيائي الطبيعي، وأنشأت اليوم أنطق بالألمانية نطقًا مفهومًا، وإني لا علم
أنه لا يزال يعوزني تحصيل الكثير منها، ولكن من هو في مثل سني قد يبعد أن لا
يحصل في قليل من الزمن لغة هو لا ينفك يسمع أصواتها من أفواه جميع الناس في
هذه البلاد، وليس أصعب ما في هذه اللغة التكلم بها فيما أرى، بل هو فهم ما يسمع
من التحاور بها بين اثنين من أهلها، فقد كنت ذات مرة في الملعب وكان اثنان من
الممثلين يتحاوران فما استطعت في سرعة تحاورهما أن أفهم كلمة منه اللهم إلا ما
كان من تحية المساء وهي: (ليلتك سعيدة)
مثل اللغات الأجنبية إنْ لم أكن واهمًا كمثل دخان التبغ بالنادي الذي حدثتك
عنه في كونه كان يحجب عني بادئ بدء رؤية ما كان فيه من الأشياء والأشخاص،
فهي حجاب سيزول على التعاقب، وآمل أن سيظهر لي النور عما قليل.
أرجوك أن تنوب عني في تقبيل (لولا) وأود لو أدري هل هي مواظبة على
سقي الأزهار، وتمام العناية بالطيور، وتنسيق مجاميع الأعشاب والدفائن وآمل
منك إيصاءها بأن تذكرني كما أذكرها.
إذا أنا كتبت إليك فقد كتبت إلى والدتي فأنتما في قلبي لا تفترقان؛ ولهذا لا
أزيدها شيئًا إلا أسفي على حرماني من حجرتي الصغيرة التي كنت أسمع منها حركة
غدوكما ورواحكما في البيت، وعلى أُنسي بقربكما عند اصطلاء النار ليلاً فإني هنا في وحشة أي وحشة. أختم لك هذا المكتوب في الساعة الحادية عشرة من
الليل على ضوء مصباح يعلوه عاكس ضوئي يسقط منه نور ضارب إلى الحضرة، وفي إحدى زوايا حجرتي ساعة دقاقة من الصنف الذي يصوت كطير (الكوكو)
عند انقضاء كل ساعة تكرر (تكتكتها) التي لا تغير، وأسمع حسيس احتراق الحطب
في التنور، وصرير الباب من صفق الريح إياه، وأرى البدر من خارج الحجرة
شاحب الوجه يرنو إلي من خلال ستارتين كبيرتين موشاتين بالأشجار والأزهار ما
بين بيضاء وحمراء، وقد أحسست بإغريراق عيني مع أن هذه الأشياء في ذاتها لا
تدعو إلى الحزن، ولكن لا تلمني فإني ما زلت طفلاً، ولست آسى على بلادي وإنما
آسى على مفارقة مهدي؛ فإني أحبكما وأرجو من هذه الجهة على الأقل أن أعيش طول عمري طفلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))