(بيت خديجة بعد الزواج) وبدأت السيدة (خديجة) بعد هذا القران السعيد تزداد معرفة بهذا الجوهر الكريم الذي أتاحه الله إليها، فألقت إلى يد هذا الأمين بكل ما تملك ولم يرعها أن الكرم المستحكم في سجاياه سيحمله على إخراج نصيب كبير من هذا المال إلى الضعيف والعائل، فإن سيدتنا لم تكن مع تدبيرها بالشحيحة الكاظة على المال الفاني، بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود، وهل بعد معرفتها بهذا الكُفُؤ الشريف ترى لنفسها معه أمرًا ينافي أمره، أو رأيًا يغاير رأيه، وهي تلك العاقلة الحكيمة المستعدة أن تزداد كمالاً كلما أشرق لها من سماء الفيض الإلهي نور منه. وأصبح هذا البيت مثابة للمضطرين وأمنا فقصدته الأيامى، وشبعت فيه اليتامى، وخففت فيه أحمال كثيرين ممن حُنَيت ظهورهم بكثرة الآل، وقلة المال. كانت تلك البلاد أحيانًا تُصاب بعسر بل كل بلاد العالم لا تسلم من العسر على الدوام فمساعدة الموسرين في زمن العسر للمعسرين أمر تقضي به الإنسانية، ولكنْ قليل من الناس من يكون لهم حظ بالتغلب على شياطين الشكوك والأوهام التي تنهى عن الإنفاق خشية الإملاق، أما سيدتنا فكانت ترى إنفاق زوجها ومساعدته للمعسرين وأخذه بيد العائلين من جملة المزايا العالية التي تقرُّ بها عينها. وفي إحدى الأزمات كانت ملائكة الرحمة تحوم في ذلك البيت حول أحد الصبيان، وتطوف في آفاق نفسه لتطهرها من كل شر حتى لا يخرج من هذا البيت إلا وهو إمام للناس في الخير والصلاح. وكان هو لاهيًا عما أُعِدَّ له، وعابثًا بمثل ما يعبث به أترابه، ولم يكن هذا الصبي يتيمًا بل كان أبوه حيًّا ولكن أبناء السعادة أبناء المجد الأبدي، أبناء المجد السرمدي، تستأثر العناية الأزلية بكفالتهم وتربيتهم بصورة خاصةً وظاهرة يراها من استعدت بصائرهم للاطلاع الجيد. لم يكن أبو هذا الصبي ليسمح وهو حي أن يتربى كالأيتام في غير بيته؛ لأنه هو ذلك الشهم الشهير والشريف الخطير (أبو طالب) ولكن اشتداد الأزمة في إحدى السنين اضطره أن يقبل رجاء أخيه العباس وابن أخيه (محمد الأمين) بأن يأخذ كل واحد منهما ولدًا من أولاده تخفيفًا عنه فكان هذا الأسعد الذي أخذه الأمين هو عليًّا الذي صار الإمام أبا الأئمة، وبدر سماء السيادة في الأمة. كانت تربية عليّ في البيت من جملة المكتوب للسيدة خديجة من حسن الحظ فإن الغيب كان يعده لأمر جليل له علاقة بهذا البيت. لعله لم يخطر على بال أهل هذا البيت إذ ذاك أن هذا الصبي الذي يدرج أمامهم فيسرون به سيكون الواسطة الوحيدة لحفظ نسلهم، ومن أين كانت تعرف السيدة خديجة، أنه لا يعيش لها من الذكور ولد، وأن هذا الصبي الصغير قد أعده الغيب ختنًا كريمًا وبعلاً صالحًا لبنتها الصغيرة، وكيف تعلم أنه لا يتسلسل لها عقب إلا من تلك الكريمة (فاطمة الزهراء) وأنّى يخطر في بالها أنها إنما كانت تربي هي وزوجها جدًّا لعترة تتصل بهذا البيت سَيَعُدُّهَا العالم من أشرف العِتَر وستبقى مباركة في الأرض دهورًا طويلة عالية المنار، عظيمة الشأن. نعم، كل ذلك لم يخطر في البال إذ ذاك، ولم يكن الذي في القلب إلا القيام بالواجب الذي يقضي به التضامن. نعم! نعم كل ذلك لم يخطر في البال ولا نوى سيد هذا البيت مكافأة عمه على تربيته التي سبقت له، فإن بين ذوي القربى لا توجد المكافأة بل يوجد التضامن ولكن كان هذا البيت المملوء نعمًا يتقاضى وجود نفوس كثيرة تشاركه في تلك النعم لأن لأهله نفوسًا لا تعرف الاستئثار، بل تراه من العار والشنار، لا سيما إذا بئِس الجار. وقد استفاد من مادة هذا البيت كثيرون كما أشرنا إليه، أما عليّ فإنما خصصناه بالذكر ليَعرف مَن عرفه أو سمع بمناقبه العالية وفضائله الزاكية كيف كان هذا البيت السعيد مسعِدًا للأرواح، كما كان مسعِدًا للأشباح، وليعرف القارئ بسهولة أن البيت الذي أخذ ابن أبي طالب آدابه فيه منذ كان صبيًّا قد كان مهدًا لأكرم الآداب وأعلاها فإن عليًّا المرتضى هو من عرفه العالم كله، هو ذلك الإمام الأكبر الخليق أن يكون مثال القدس وزكاء النفس، هو مجمع المعالي وملتقى الأسرار العظمى ومظهر الولاية الكبرى. فما أكرم هذا البيت السعيد وما أعظم بركاته وقد رأينا الأمين يجد فيه مجالاً للتخفيف عن المثقلين، والتنفيس عن المكروبين، وفيه وجد القصاد صدورًا رحبة، وأيدي مبسوطة، ولديه خيمَّ الوجود والسخاء، كما خيم العدل والوفاء، ومنه أشرقت الآداب العالية، والتربية الكاملة، وماذا ترى من بركات هذا البيت بعد ذلك يا ترى؟ *** (العمل الروحي) أشرفنا الآن على بحر كثيرة لججه، صعبة مسالكه، وصلنا إلى ساحل هذا البحر ولا بد من جوزه، وأكثر السفن لا يوثق بها في غمراته. ولابسو ثوب الهداية رأس مالهم الدعوى، وما حيلة الحائرين غير الرجوع إلى الله في الجهر والنجوى. ههنا نبأ جليل تحار العقول المستقلة بفهمه، وتشتاق أن تقف على روحه وحدّه ورسمه، هنا قد بلغْنا من سيرة هذه السيدة الجليلة أن بعلها كان من دأبه أن يتعبد بعض الأوقات في غار من جبل قرب مكة اسمه (حِراء) فما هو هذا التعبد وكيف هو، وما الذي ساق نفسه إليه، وأيُّ دين فرضه عليه؟ هذا هو النبأ العظيم الذي تتمسك بنا العقول المستقلة إذ نسمعه ولا تدعنا نجوزه إلى غيره من غير أن نوضحه، وإذا أخذنا بإيضاحه نخشى أن نبعد بالقارئ عن سياق السيرة، ولكن يقوي عزمنا على هذا الإيضاح ظنُّنا بأن الراوي الذي يشرح كل دقيقة فيما يمر به من حكايته قد يفيد القراء أكثر ممن يسرد الأخبار سردًا. إن الأديان كلها رسمت أعمالاً اسمها عبادات، ولكن بعل السيد خديجة لم يكن تابعًا إذ ذاك لدين؛ لأن دين قومه كانت عبادته عبارة عن تمجيد بعض الأحجار التي هي عندهم تماثيل أشخاص مقدسين ولم يكن هو قد تعود هذه العبادة التي لهم. العبادة التي عرفت في الأديان كلها هي بحسب الظاهر أعمال وحركات يرسمها رؤساء الدين من أنبياء وغيرهم، أما لبُّها فأشواق روحية تقوم في نفس العابد أمام معبوده ويصح أن نسميها عملاً روحيًا حينئذ. كان بعل هذه السيدة يأتي في غار حِراء بعمل روحي تتوجه فيه روحه تلقاء بارئ السماوات والأرض، ومشرف مكة وسائق نفوس العرب إذ ذاك إليها، ولم يكن مقيمًا أعمالاً رسميةً. إن البحث عن سبب تسمية تلك الأعمال الرسمية عبادة في لغتنا يكلف به مشرح اللغة، والبحث عن أسباب اختيار الأقوام السالفين هذه الصور والأعمال المخصوصة تحت اسم العابدة يكلف به مشرح التأريخ، أما البحث عن الأشواق الروحية أو التعبد المحمدي في (حِراء) فمكلف به كاتب سيرة السيدة خديجة. العبارة لا تشفي الصدر في تجلية هذه المعاني ولكن شدة ارتباط هذا الموضوع بهذه السيرة داعية إلى السير في هذا البحر العظيم. قد سمعنا في سيرة زوج هذه السيدة أن روحه كانت من أعلى الأرواح، ونحن نؤمن بهذا، ولكن إذا نحن لم نتعرف بالروح ولو قليلاً فماذا يكون معنى إيماننا بهذا؟ لا جرم أن تعرفنا بالروح ضروري في هذه المقامات وهو أمر يشتهيه كل امرئ لأن كل واحد منا تخطر في باله هذه المسألة: ما نحن؟ هذا سؤال قد علم الذين بعُدَ نظرهم في ماضي البشر أنه من جملة فضل الله عليهم وهو أساس ما يسمى في لغتنا دينًا وديانة وملة وأحد الأصول والأسباب في ترقي هذا النوع الإنساني وتكمله. هذا سؤال تحيط به محارة طال وقوف العقل فيها، ههنا مرسى سفينة العقل الذي يحاول معرفة نفسه ومنها يبتدئ مجراه لأجل إدراك هذا الجوهر. مواقف الباحثين كادت تتساوى أمام صعوبة هذا السؤال، إذ لا براهين عقلية قطعية في نفي شيء أو إثبات شيء في جوابه، ولكن إذ عزَّت هذه البراهين لا يعدم عشاق هذا المطلوب آيات كثيرة في الوجودات، ومن فضل على أهل هذه الصورة البشرية جعل قلوبهم مستعدة لقبول ما تأتي به هذه الآيات من ضياء ولا يُحْرَمه إلا قليل تُزمن فيهم الحيرة لأسباب محسوسة وغير محسوسة. هذه الوجودات قد ملئت آيات، فإذا حال دونها الحجب لجَّ العقل في محارات أو عمايات، وإذا بدت لا يحجبها حاجب نهج في هدايات أنها لمن تأمَّل مراتب وصفوف، ولكل وجود قوة، ولكل قوة أثر، واختلاف القوى وآثارها، هو على مقدار أشكال الوجودات وصورها وحيِّزها، ولما رزق الإنسان هذا النطق الواسع وضع أسماء لكل ما لاح له من وجودٍ، وظن المسكين أنه بوضع الأسماء أحاط بالحقائق وهي لم تزده عنها إلا بعدًا. الإنسان بعض هذه الوجودات وفيه قوى تحتاج حسب عادته إلى أسماء، فالروح للإنسان اسم للقوة العظمى التي فيه، اسم لما يكون به الإنسان مستقلاًّ متميزًا يقول أنا ويقال عنه هو وإن عفا أثره. آمن الناس بهذا الاسم متفقين، ولكن فيما يدل عليه قد اشتد تباينهم، وحار نظرهم في إدراك حقائق هذه القوى التي في الإنسان وفي كيفية علاقتها بهذا الجسم البشري الذي متى برحته أصبح لا فرق بينه وبين كثير من صفوف الجمادات، والذي يزيد حيرتهم شدة تسامي بعض الأرواح كروح من سعدت بقربه سيدتنا صاحبة هذه السيرة. بحثت كالباحثين، وحرت كالحائرين، ثم وجدت كالواجدين، فما ألذها على القلب من حيرة عقباها بلوغ الغاية، والحمد الله رب العالمين. إليك حديث نفسي بشأنها: (أفقت اليوم من النوم ونصل حسي وشعوري من غلافه، كما نصل هذا الفجر من غمده، فوجدتني كأنني وليد هذه الساعة، لأنني قبل هذه اللحظة لم أكن أرى هذه الأكوان، ولم أحس بما فيها من الأصوات والألوان، ولم أكن اشعر بملائماتي ومؤلماتي، فكأنني كنت غير هذا الموجود الجديد. أين كانت لذتي برؤية هذه القبة، وأُنْسي بما على هذا البساط، وأنَّى كان ابتهاجي بزواهر هذه الزرقاء، وزواخر هذه الغبراء ... ومِن حولي الآن أغاني طيور، ورقص غصون، وأريج زهور، وبدائع نقوش، وترتيب صنوف، وحركات نور وتجليات سكون، وفيّ أنا آثار انفعال من كل هذا قد تحرك بها ما اسمه فكري ثم تحرك بها ما اسمه لساني فسمعتني أقول: (سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً) . سبحانك يا فاطر يا بارئ يا مصور ولك الحمد، أنا متذكر الآن أنني أبصرت هذه المرائي، وسمعت هذه الآمالي أمس لما بزغ الفجر بزوغه هذا، فأين ذهب إبصاري وسمعي بين ذينك الأبصار والسمع اللذين كانا أمس وبين هذين الأبصار والسمع اللذين أتياني الآن وأنا متذكر أن هذا الأمر وقع لي مرارًا كثيرة ألوفًا من المرات فما هذا الاحتجاب ثم الظهور، وأين كان الإحساس محتجبًا قبل أن عرفته أول مرة. رباه، من أسائل عن هذا ... ؟ إن هذه الصوامت التي من حولي لا تجيب، لعلها لا تسمعني، أو لعلي لا أسمعها، أو لعلها لا ذكر لها في هذه المسائل، وكيف أصب على جهلي بشيء يتعلق بي، كيف لا أبحث عن أصل إحساسي وعن احتجابه، ألا يهمني أن أعرف هل أمره كأمر هذه الشجيرات يتحاتُّ ورقها ثم يعود ثم تيبس مرة واحدة فتصير حطبًا ثم رمادًا؟ أم أمره كأمر هذه الشمس يظهر نورها على جهة ثم يغيب عنها ثم يعود إليها وهو لا يزول أبدًا، كيف أقنع للنفس الإنسانية بحالة هذه الشجيرات، وهي لها من الخواص والآثار ما ليس لشيء غيرها في هذه الأرض. كلا سأسائل، ثم كلا سأسائل. رفعت رأسي إلى السماء فألقيت بواهر ولا مجيب، وأهويت به إلى الأرض فألقيت بواهر ولا مجيب. فضاء أمامي، لا أعرف له ساحلاً وحدًّا، تارة يفيض نورًا، وأخرى يحتجب بالظلمات، أراني وأرضي محمولَين فيه ولا أعرف من هذا المتن العظيم إلا أسماء وضعوها له لا تشرح كُنْهًا ولا تؤذن بدلالة كافية. تتلاعب فيه النسمات لعلها ناسية أن الأمر جد، وما هو بالهزل واللعب، وتتناغى فيه الأصوات كأنها تحسب أن في كل موجود دماغًا يأخذ بحظ منها ولعل حسابها خائب. بيني وبين كل ما هو محمول في الفضاء مثلي علاقة قد عرفتها بهذا النور البازغ، فهل بزغ هذا النور لأعرفها أم لتعرفني، وهل كانت لي أم كنت لها أم كنا جميعًا لهذا النور أم كان هو لنا، ولكني أعرف يا نور أنه لولاك ما عرفت شيئًا. سلام عليك أيها النور يا حاملاً نعمة المعرفة إلينا، وشكرًا لمن تسبح أيها النور بجلاله، وتهدينا إلى آيات جماله. بالنور عرفت ما عرفت ولكن لست أدري كيف عرفت، قد نقشت السموات والأرض على عظمتها في لوح لا يكاد يحس في دماغي، فهذا اليمُّ الذي يعجُّ الآن أمام غرفتي أصبح لا شيء عندي على اتساعه لأنه محدود، وهذه الشمس العظيمة التي بدأت تبزغ هذه الساعة قد غدت صغيرة في عيني لأنني أحطت بها، وهذه الأرض التي أراها كسرير لي قد تلاشت في نظري؛ إذ وجدتها هي وكل بحورها ذرةً طافيةً في ذلك اليم الذي لا ساحل له، أدركت في هذه الساعة أن هذه الأشياء كلها مهما عظم حجمها في كالصفر بالنسبة إلى ما لا يتناهى، فعلمت أن ليس فيما أحاط به حسي ما يدفع عن فكري عطشته. راقني جمال هذه الكائنات ثم حيرني منها أنها كلها مسخرة لنا، وما نحن لها بمسخرين فهل نحن على صغر حجمنا أكرم معنى منها؟ . تركت حيرتي ههنا والتفتُّ إلى هذه الشجيرات التي أراها تتزين كعرائس الأنس وسألتها فلم تجب أو لم أفهم حفيفها، وانثنيت إلى هذه اليمامات الراقصة بأعناقها فسألتها فلم تجب أو لم أفهم هديلها، لكنني استأنست بهذه وتلك أكثر من استئناسي بالمتحجرات لا شوق يخالط منها الجنان، ولا حركة لها إلا على يد الإنسان، وطال أنسي بهذه الخضر المترنحات، والورق المتغنيات، حتى كدت أفقه حديثها، وأفسر تبيانها، هذه ذكرتني بمعنى الحياة وأعادتني إلى نفسي وهي ضالتي المنشودة وبها الهدى إلى ما أنشده. لم أجد غير نفسي تجيبني عن نفسي بعد أن ساح حسي وفكري في هذه العوالم المحدودة ... إياها ناجيت، وكلامها وعيت، فهي التي حدثتني أني لست إلا ذرةً صغيرةً جدًّا سابحةً في هذا الفلك، وفي هذه الذرة الصغير ذرات كثيرة كل واحدة منها بالنسبة إلى الذرة الجامعة هي كواحد من ألوف ألوف ألوف الألوف، وفي كل واحدة توجد الحياة ولكن ليست كلها مركزًا للحياة لأننا نجد أن ألوفَ ألوفِ ألوفٍ من هذه إذا أفسد وضعها لا تزول الحياة، ولكن هناك بعض ذرات إذا أفسد وضعها تزول الحياة كلها من جميع هذه الذرات التي يتكون من مجموعها الجسم فهذه الذرات القليلة التي هذا شأنها هي مركز الحياة. أعظم مجالي الحياة في نظري هو الإدراك الفكري وهو قارٌّ في ذرات قليلة لا يحاط بها. أدهشني هذا الموقف الذي وصلت إليه، وهذا المرأى الذي وقفت عليه، حيرني من هذه الذرات أن تسع صور السموات والأرض، وصور أعمال البشر منذ كانوا إلى اليوم، وحيرني منها أن هذه النتائج العظيمة التي تصدر عنها إنما تصدر إذا كانت بوضعها المخصوص، وما أسرع زوال هذه النتائج إذا اختل وضع الذرات. رأيت هذا الأمر العجيب ولكن لا مستقر للفكر عند هذا المرأى، إذ قصاراه أني عرفت شيئًا صغيرًا جدًّا يسع أشياء لا تحصى مع أنني إنما أبغي أن أعرف ما هو ذلك الشيء الصغير مبناه جدًّا جدًّا العظيم معناه جدًّا جدًّا؟ ما هو ذلك الشيء الذي بوجوده على حالة مخصوصة يكون هذا الجسم متحركًا حساسًا يحيط بالسماوات والأرض، وبتغيره يغدو هذا الجسم ترابًا صامتًا صابرًا تحت الأقدام، ما هي تلك الحالة المخصوصة؟ وما هو تغيرها وكيف نظامها؟ هل هو في إحاطته تلك تابع لهذا النظام أم النظام تابع له؟ هل هو يحتاج إلى هذا النظام بعينه أم يستطيع أن يؤلف نظامًا آخر متى تغير نظامه هذا؟ وإن كان تابعًا لهذا النظام بعينه فهل وجدت هذه الصبغة لتزول بأسرع من لمح البصر بالنسبة إلى عمر غيرها على ما يتخلل وجودها من الاحتجابات؟ . محارات بعد محارات، ولكن تلوح خلالها آيات، إذ قد ملأنا رب الوجود أمثالاً، وأتاحت لنا معرفتنا بالأمثال أن حقائق الأشياء محتجبة والظاهر إنما هو آثارها: فهذا النور الذي يملأ الفضاء لا نعلم كنهه، وهذه الشمس وما حولها لا ندري كيف قامت، قصارانا أنَّا عرفنا سبحها في هذا الفضاء لا يسندها عمد، ولا يعتريها سكون، وهي مع ذلك سائرة بنظام، ودائرة بإحكام، لا تخرج عن مستقراتها، ولا تحيد عن مجاريها، ولكن ما هو ذلك السر الذي قامت به هذا المقام سموا شيئًا من ذلك بالجاذبية فهل هذه التسمية دالة على الكنه والحقيقة؟ إن قصارى ما نعرفه من هذه المركبات أنها قابلة للتحلل فإذا حللناها انتهينا إلى عناصر قليل عدها لا تتحول ولا تتحلل هي الأمهات ثم هي تنتهي إلى أم واحدة لا نعرف من أمرها شيئا. المشاهدة هي أكبر وسائط معارفنا، ولكن آلة هذه المشاهدة عاجزة عن أن ترينا الأشياء كما هي، ولو اقتصر الأمر عليها لكانت علومنا بهذه الكوائن خطأ من أولها إلى آخرها. هذه الشمس التي نحن وأرضنا في نظامها الكبير أقل من حبة رمل في جبل عظيم ليست أمام المشاهدة الخصوصية لكل واحد منا إلا كمصباح بسيط يشتعل ساعات وينطفئ ساعات، وما هي إلا بحجم كرة مما يلعب بها اللاعبون. على هذه النسبة من الخطأ نرى كل شيء أقل من حجمه وعلى خلاف وضعه، فقد نرى واحدًا وهو متعدد، وبسيطًا وهو متركب، وساكنًا وهو متحرك، وصغيرًا وهو كبير، حتى نصل إلى ما هو صغير جدًا فلا نراه ألبتة كما دلتنا التجارب بعد أن اهتدينا للآلات الصناعية التي تساعد بواصرنا الطبيعية أيما مساعدة.. بهذه الآلات استطعنا أن نرى أنواعًا من الحيوانات كانت خافية على الأبصار دهورًا دهارير، ولعلنا سنهتدي إلى ما يرينا أصغر من تلك الصغائر، ونحن في مثل هذه الهدايات العظيمة التي جاءتنا هدية من الفاطر على يد التجارب لا نجد ما يمنعنا من الظن بأننا مهما استعنا بالآلات نبقى في مشاهداتنا بعيدين عن كشف الأشياء كما هي وتبقى أشياء كثيرة خافية على أبصارنا وآلاتنا مهما بلغنا بها. فما أكرمك يا عيني عليَّ، أنتِ أنتِ كنت سبب إرشادي إلى حقيقتي إذ لم تريها لأنني عرفت بالتجربة أنك مسكينة عاجزة لا ترين كل شيء ولا ترين شيئًا مما ترينه على وضعه وحقيقته فاضطرت أن أقيس وجودي على وجود غيري.. لا جرم أن لي حقيقة مستترة عنك وراء وجودي الجسمي الذي تشاهدينه كما أن وراء النور حقائق مستترة ولا جرم أن حقيقتي هي سبب وجودي كما أن الحقائق المستترة وراء النور هي سبب وجوده. إن الحقيقة العظمى التي هي باطنة من وراء الأشياء كلها، وظاهرة عليها كلها هي حقيقة واجب الوجود، حقيقة مَن لا بد لوجودنا مِن وُجُودِه، ولا بد لتشكلنا وتنوعنا من فيض تخصيصه وجوده.. هي حقيقة من له الحياة الأزلية الأبدية لأن الحياة التي نعرفها منه صدرت، وله العلم الأزلي الأبدي لأن العلوم التي نعدها من فضلة أتت، وله الإرادة الأزلية الأبدية لأن الإدارة التي نجدها من لدنه أهديت، وله القدرة التامة الشاملة لأن القدرة من عنده نشأت.. هي حقيقة مَن لا مِثال له في كمال وجوده، وعنه صدرت أمثلة الكمال في الوجودات الظاهرة.. هي حقيقة البارئ المصور الذي برأ حقيقة مثال كامل حيّ سميع بصير مريد، وجعل حجابه هذا الهيكل البشري. أصبحتُ لا أرتاب في أن الحقيقة العظمى هي التي تهدينا بآثارها وبإمداداتها إلى كل شيء مما نعرفه، ولكن لشدة ظهورها الذي قد يعادل البطون ربما تخفى، فإذ نطلب معرفة النفس تظهر آياتها العظمى فسبحان الله. من عرف ربه فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه. عرفت الآن من أمر نفسي أو روحي أنها لا يعرف كنهها ولم يزدني جهلي بكنهها إلا إيمانًا بحقيقتها الجليلة المستقلة عن الجسد لأنني لم أعرف من أمر كل جزء من أجزاء الجسد إلا مشابهته لهذه الجمادات التي أمامي وليس فيما أمامي شيء يجمع فيه ما تجمعه هذه الروح. وقد حاولت كما يفعله بعضهم أن أنسب هذه الخواص إلى المجموع المركب من هذه المواد على نظام خاص فلم يسلس له فكري بل جمع عنه كثيرا لتذكره النظام الشمسي وذهابه إلى أنه إنما قام بما يسمونه الجاذبية، ولم تقم هي به فما نفسنا أو روحنا إلا جاذبية النوع وكهربائية الخصائص والمزايا، وهي هي مؤلفة الهياكل وناظمتها، لا بِدْع في ذلك، فالكوائن كلها من أصل لا يرى ولم تنفصل عنه، ولا يكون الأصل تابعًا للفرع ولا ضرورة لتغير الأصل إذا تغير الفرع، ولا يصعب فهم هذا على من عرف كيف يتجسد ما لا يرى فيصير مما يرى، وكيف يتلطف ما يرى فيصير ممالا يرى، الصناعة بهذا ضمينة، والتجربة فيه هادية أمينة، ولا يصعب أيضًا على مَن عرف آيات النفس التي تظهر في بعض الأشخاص لنتعلم بها أن لها شؤونا غريبة جدًّا فوق المعهود منها والمألوف مِن دخولها في قيد الحس، سبحان الله كم لها من انطلاق منه يظهر معه أن لا حاجة لها بهذه الآلات العضلية والعظمية والعصبية. نحن شاهدنا من هذا كثيرًا، وشاهد مثلنا خلق لا يحصون، والباحثون المحققون شاهدوا أيضًا أو نقل إليهم ثقات كثيرون مجموعهم يدفع عن نفوسهم الريب وما علمنا أنهم وجدوا لهذا الامتياز الفائق أسبابًا جلية، غاية ما صنعوا أنهم وضعوا لبعض هذه الأمور أسماء وظن القاصرون أن هذه الأسماء تحل الأشكال، وتحكي حقيقة الحال. وسمعنا سماعًا لا يستطيع الريب معه البقاء أن أشخاصًا يشفون أمراضًا معضلة بغير علاج ولم يقل لنا علماء الأبدان في تعليل هذا الأمر إلا إنه شفاء بالوهم فيا عجبًا ما هو هذا الوهم الشافي ولماذا لا يشفى بالوهم كلُّ شخص؟ ! حالة المنوَّم تنويمًا مغنطيسيًّا هي من الأدلة الصريحة في هذا الباب على شدة غرابة أمر هذا الموجود الصغير الكبير واستعداده لخرق الحجب الكثيفة، وقدَّ القيود الحسية، وعمله الأعمال العظيمة من غير حركة بيديها أو واسطة يأتيها. هذا حديث نفسي وخلاصة ما ظهر لي أن الروح خلق مستقل ذو ظهورات فائقة، واحتجابات محيرة، هو أقسام كثيرة، نصيبنا منه عظيم، وارتقاء نوعنا لولاه عديم، هو الحي السميع البصير المريد المستعد للظهور والاجتنان، المصنوع آية كبرى دالة على جامع الأكوان. وظهر لي أن خصائص الروح الشوق، ولو قلت إنَّ الروح هو الخلق ذو الشوق لما وجدت هذا غريبًا في تعريفها. ولكل روح شوق يناسبها وعلى نسبة شوقها تكون رتبتها وصفها في عالمها الذي هي منه، وفي عالم المثال والعيان الذي دفعها إليه شوقها إلى الظهور. كانت روح هذا السيد بعل سيدتنا خديجة من أعلى الأرواح، وكان شوقها أزكى شوق وأقدسه، كانت عظيمة الشوق إلى رؤية فاطرها ولكن هل الفاطر عز وجل يُرى؟ لعلها حارت زمنًا في هذا الأمر، ولعلها قالت لو كان يُرى لكان محدودًا وكيف يدخل في حد من برأ الحدود، ولعلها عادت إلى زيادة التبصر فقالت هل الرؤية مخصوصة بهذه الباصرة، وهل يشترط أن يكون المرئي متشخصًا، أليس القصد من الرؤية العلم، ألا يمكن العلم بالفاطر مع أنه غير متشخص. هذا ما كانت تحوم حوله هذه الروح العلوية التي كان مظهرها وبيتها الصوري في بيت خديجة، ومطافها ومطارها ملكوت الحق، ملكوت الوجود الأعلى. ولعلها يئست من أن تجد فيما حولها ما يَرْوى أوارها من معرفة فاطرها الذي أشتد شوقها إليه بل لعلها غلب عليها ذلك الشوق حتى أصبحت زاهدة في كل رؤية وكل سمع لأنها تريد أن ترى وتسمع الذي إليه طارت شوقًا ولذلك رأينا (محمدًا) صلى الله عليه وسلم، قد حُبِّبت إليه الخلوة والانفراد؛ ولا سيما إذ شارف الأربعين من سنيه، وكان لغار حراء الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها وطبيب شوقها. مَن ذا الذي يعلم غير الله ما كان يقول هذا المنقطع في ذلك الغار؛ ولكن يصح لنا أن نظن بأنه كان يساقط الدموع ويناجي المقصود المطلوب بقوله: رباه، رباه، كيف الوصول إلى حضراتك؟ كيف السبيل إلى مشاهدات تجلياتك؟ إليك أيها المولى من مزيد حبي قيامي وقعودي، وركوعي وسجودي، ومن مزيد شوقي ذرف دموعي، وفرط ولعي، رحماك رحماك ياربي، كبد تذوب وعين تسيل، وفكر يتدله، وأنت أنت مطلوبي، وأنت أنت ذو الكرم والجود. على هذا المثال كانت حاله وهذا هو العمل الروحي الذي شغل به باله، وقد فهم القريبون من فهم الروح مقدار فوائد هذه النجوى القدسية، وأما البعيدون عن هذا الشوق فيعجبون وينكرون، وليتهم يتذكرون محن الناس وتدلهاتهم بهذه المتغيرات من صور وأشكال لا تتوقف الحياة عليها، ولا يجدون الطمأنينة لديها، هذه المحن والتدلهات أقضى بالعجب لَعَمْرُ الحَقِّ لو كانوا يعقلون، وأما ابتعاد روح عن المحسوسات في سبيل الاقتراب من حضرة مَن لا تدركه الأبصار فسعي وراء مبتغى جليل. العمل الذي فيه لذة لا مضرة على الغير فيها لا ينكره عقل، ولأرباب الأعمال الروحية لذات لا يستبدلون بها كل لذات المفتونين بالمحسوسات فعسى أن يتذكر العقل المستقل هذا المعنى فلا يكبر عليه أن يفهم أقل الحكم في الأعمال الروحية وهي لذة أربابها وانتعاشهم وتفتح بصائرهم لرؤية المعالي كما هي فلا يحزنهم شيء بَعْدُ في نَيْلها ولا تقف هممهم أمام حَزْن في طريقها. كانت السيدة خديجة شديدة الفهم وعظيمة الثقة ببركات هذه العمل الروحي فساعدت عليه ولم تُلُمْ صاحبه ولا عتبته، كانت عظيمة الإيمان بالقوة العظمى، والحقيقة الكبرى، فلم تر بأسًا بل لم تر إلا الخير بتوجه وجه زوجها الكريم تلقاء سوانح الإمدادات الفائضة مِن لدن ذلك الملكوت الذي لا حد له.. كانت قد عرفت أن هذا الغار في (حِراء) الفارغ من كل مشتهى حسي كان حريًا أن يكون مثابة لهذا الشبح الشريف الحامل قلبًا قد فرغ من كل شيء غير الوَلَه بالمعالي القدسية، والشوق إلى الحضرات الربانية، فكانت تُبارِك على هذا الغار الفارغ وتسأل الله أن يملأه معالي وبركات، وقد أجاب الله - تعالى كرمه - سؤلها وكتب (حِراء) في الصف الأول بين الأماكن التي تُتَوج بتمجيد الناس وتحياتهم ومحامدهم، وكم قد ترجمت قرائح الشعراء عن احتراماتهم وتكريماتهم لهذا الغار أو لهذا المطلع الذي فاق بدره البدور، قال قائل منهم: سلامٌ عليك حِراءَ الشهيرْ ... أمطلع ذاك الضياء العظيم سلامُ فؤادٍ ذكورٍ شكورْ ... بقدر الذي قد صحبت عليم *** لأنت يتيمة عقد الوطن ... ففيك أضاء السراج المنير بذكراك يلقى الفؤاد السكن ... فذكراك ذكرى عطاء كبير ((يتبع بمقال تالٍ))