للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبده


الاضطهاد في النصرانية والإسلام
المقالة الثانية لذلك الأستاذ الحكيم والفيلسوف العليم

ذكرت الجامعة في الجزء الثامن من السنة الثالثة في سياق الكلام على ما
جرى لابن رشد أن للناس آراء في: هل الدين المسيحي أوسع صدرًا في احتماله
مجاورة العلم والفلسفة، أو أن الدين الإسلامي هو الأرحم خلقًا والأوسع حلمًا من
الدين المسيحي في قبول أهل النظر في الكون إذا نزلوا بداره، ولاذوا بجواره،
وذكرت أن للقائلين بتسامح الدين المسيحي مع العلم وأهله دون الدين الإسلامي أن
فولتير وديدرُو ورُوسُّو ورِنَان قالوا فيما يضاد الدين ما قالوا ولم يصابوا بضرر،
وابن رشد لم يقل شيئًا سوى أنه قرر ما قال أرسطو وأوضحه مع تصريحه
بسلامة اعتقاده ومع ذلك أهين وبصق على وجهه.
وللقائلين بسعة حلم الإسلام أن الإسلام لم يحكم بإحراق أحد لمجرد الزيغ في
عقيدته، وكم حكمت المسيحية بذلك!
ثم جعلت أهل الرأي الأول آخر من يتكلم وقالت: (فيردُّ عليهم الأولون
بقولهم: هل يجب أن يكون التسامح مع القريب فقط، أم مع القريب والغريب معًا؟
ثم، ألا تذكرون الحروب والفتن التي قامت بين شعوب المسلمين وحكامهم بسبب
الاعتقادات الدينية فأضعفت أمتهم وفرقت كلمتهم، فهل يجوز أن تسموا محاربة
شخص واحد وإعدامه (محاربة للإنسانية) ولا تُسموا كذلك محاربة شعب لشعب
وأمة لأمة) اهـ.
ثم قالت الجامعة: إنها لا تفصل بين القولين، ولكنها فصلت فيهما فصلين
الأول في قولها: (إنا نرى أن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بالسلطة الدينية
بحكم الشرع؛ لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معًا، وبناءً على ذلك فإن التسامح
يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية، فإن الديانة المسيحية قد
فصلت بين السلطتين فصلاً بديعًا مَهَّدَ للعالَم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن
الحقيقي وذلك بكلمة واحدة: (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .
وبناءً على ذلك؛ فإن السلطة المدنية في هذه الطريقة إذا تركت للسلطة الدينية
مجالاً للضغط على حرية الأفراد من أجل اعتقاداتهم الخصوصية فضلاً عن قتلهم،
وسقي الأرض بدمائهم البريئة، فإنها تجني جناية هائلة على الإنسانية، وعلى ذلك
لا يكون في هذه الطريقة من التسامح أكثر مما في تلك إذا بدا منها نقص، ولو كان
هذا النقص أخذ شقيقتها؛ لأنه لا نقص أعظم من نقص القادر على التمام، والفصل
الثاني في قولها: (إن العلم والفلسفة قد تمكنا إلى الآن من التغلب على الاضطهاد
المسيحي ولذلك نما غرسها في تربة أوربا وأينع وأثمر التمدن الحديث، ولكنهما لم
يتمكنا من التغلب على الاضطهاد الإسلامي، وفي ذلك دليل واقعي على أن النصرانية
كانت أكثر تسامحًا) اهـ
* * *
(الجواب الإجمالي)
وإني أعجل في الجواب بما يلاقي هذين الحكمين إجمالاً، أما الأول فإن كان
الإنجيل فصل بين السلطتين بكلمة واحدة، فالقرآن قد أطلق القيد من كل رأي
بكلمتين كبيرتين لا كلمة واحدة، قال في سورة البقرة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد
تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: ٢٥٦) وقال في سورة الكهف {وَقُلِ
الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) .
وأما الثاني فأسأل الجامعة في جوابه: أين الاضطهاد الواقع على العلماء اليوم
عند المسلمين؟ وأين أولئك العلماء المضطهدون؟ وأريد بالعلماء أولئك الذين
يساوون مَن ذكرتهم من فولتير وديدرو وروسو وأمثالهم، وكيف ساغ لها أن تقول
ما تقول، وهي في أرض مصر، ومصر بلاد إسلامية وحالها كما ترى؟ فإذا أرادت
شاهدًا على حال المسيحية والعلم، فلتمر بنظرها اليوم على أسبانيا، ولتقف برهة
من الزمان ثم لتحكم، يمكنها أن تعد من طلبة العلوم المسلمين مئين في مدارس
المسيحيين من جزويت وفرير وأميركان وهي مدارس دينية، خصوصًا مدارس
الجزويت، فهل يمكنني أن أجد طالبًا واحدًا مسيحيًّا في مدرسة دينية إسلامية يباح
الدخول فيها لكل طالب علم من أي ملة؟ لا نجد إلا قليلاً منهم في مدارس الحكومة
لعلمهم أنها مدارس رسمية لم يقم بناء تعليمها على الدين، فهل سمع أن والدًا
اضطهد لأنه بعث بولده إلى مدرسة مسيحية يديرها قسوس مسيحيون؟ ألا يعد
هذا من تسامح الإسلام مع العلم اليوم؟
لولا أن موضوع كلامي محدود باعتبار التسامح بالنسبة إلى العلم والفلسفة
وحدهما لذكرت لصاحب الجامعة أنه يوجد في بلاده طائفتان تعد إحداهما بالألوف
وتزعم كل منهما أن لها نسبة إلى الإسلام وهي تعتقد بما لا ينطبق على أصل من
أصوله حتى أصل التوحيد والتنزيه عن الحلول ولا تقول بفرض من فروضه
المعلومة منه بالضرورة، وأجمع فقهاء الأمة على أنهما من قبيل المرتدين والزنادقة
لا تؤكل ذبائح أفرادهما، ولا يباح لهم أن يتزوجوا من المسلمات، وإنما اختلفوا في
قبول توبة من تاب منهم، ومن العلماء من قال لا تقبل توبته، وهم مع ذلك
عائشون بجوار المسلمين ومضى عليهم ما يزيد على تسعمائة سنة وقد كانوا تحت
سلطان المسلمين والإسلام في أوج القوة، دخلوا في حكم الأتراك وهم أيام كان ملك
فرنسا يستنجد بملكهم وكانت عساكرهم على أسوار فيينا، كان أولئك الذين يراهم
المسلمون قد خرجوا من دينهم وأَسَرُّوا عقيدةً تُنَاقض عقيدتهم قد ظهروا بأعمال
تضاهي أعمالهم وهم جيرانهم وتحت أيديهم وفي مُكْنتهم محوهم، ومع ذلك عاشوا إلى
اليوم ولهم أحبة وأصدقاء بين المسلمين، وللمسلمين بينهم مصافون وأودَّاء، فهل عُهِدَ
مثل ذلك عن المسيحيين؟
غير أن موضوع قولي محدود كما قلت فلا أخرج عنه وأراني أضفت فيه
بكلمتي المجملة، ولكن لا يكفي لبيان ما عرضت به الجامعة في قولها (هل يجب
أن يكون التسامح مع القريب فقط أو مع القريب والغريب إلخ) ولا لتحقيق الحق
فيما حكمت به في حكمها إلا تفصيل تعرض فيه حالة الدينين مع العلم تحت نظر
القارئ على وجه يمكن معه الحكم عن فهم، ولا تلتبس فيه الحقيقة بالوهم.
* * *
(الجواب التفصيلي)
أرى الجامعة جاءت في كلامها بأربعة أمور آتي بها على حسب ترتيب النسق
في تعبيرها.
(الأول) : أن المسلمين قد تسامحوا لأهل النظر منهم ولم يتسامحوا لمثلهم
من أرباب الأديان الأخرى.
(الثاني) : أن من الطوائف الإسلامية طوائف قد اقتتلت بسبب الاعتقادات
الدينية.
(الثالث) : أن طبيعة الدين الإسلامي تأبى التسامح مع العلم وطبيعة الدين
المسيحي تيسر لأهله التسامح مع العلم.
(الرابع) : أن إيناع ثمرالمدنية الحديثة إنما تمتع به الأوربيون ببركة
التسامح الديني المسيحي؛ فلا بد لي من الكلام على كل واحد من هذه الأمور
الأربعة، وأبتدئ منها بالثاني لقلة الكلام عليه.
* * *
(نفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد)
لم يُسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين (الآخذين بعقيدة السلف)
والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة
والمعتزلة مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة
كما لم يسمع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين
غيرها، نعم سمع بحروب تعرف بحروب الخوارج كما وقع من القرامطة وغيرهم
وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في
طريقة حكم الأمة، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل
أن يغيروا شكل حكومة، وما كان من حرب بين الأمويين والهاشميين فهو حرب
على الخلافة وهي بالسياسة أشبه بل هي أصل السياسة.
نعم وقعت حروب في الأزمنة الأخيرة تشبه أن تكون لأجل العقيدة وهي ما
وقع بين دولة إيران والحكومة العثمانية وبين الحكومة العثمانية والوهابيين ولكن
يتسنى لباحث بأدنى نظر أن يعرف أنها كانت حروبًا سياسية ويبرهن على ذلك
بالولاء المتمكن بين الحكومتين اليوم مع بقاء الاختلاف في العقيدة وبين الحكومة
العثمانية وابن الرشيد أمير الوهابيين.
أما الحروب الداخلية التي حدثت بعد استقرار الخلافة في بني العباس
وأضعفت الأمة وفرقت الكلمة فهي حروب منشأها طمع الحكام وفساد أهوائهم وحبهم
الاستئثار بالسلطان دون سواهم ومصدر ذلك كله جهلهم بدينهم وارتخاء حبل التمسك
به في أيديهم، وأكبر داء دخل على المسلمين في هممهم وعقولهم إنما دخل عليهم
بسبب استيلاء الجهلة على حكومتهم.
أقول: (الجهلة) وأريد أهل الخشونة والغطرسة الذين لم يهذبهم الإسلام ولم
يكن لعقائده تمكن من قلوبهم، ولو رزق الله المسلمين حاكمًا يعرف دينه ويأخذهم
بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن الكريم في إحدى اليدين، وما قرر الأولون وما
اكتشف الآخرون في اليد الأخرى ذاك لآخرتهم وهذا لدنياهم وساروا يزاحمون
الأوربيين فيزحُمونهم.
ما لنا وللحكام نعرض لهم؟ الذي عليّ أن أقول ولا أخشى منازعًا: إنه لم
تقع حرب معروفة بين المسلمين للحمل على عقيدة من العقائد أو على تركها، على
أن هذا الأمر الذي جاءت به الجامعة، وألجأتنا إلى الكلام فيه خارج عن الموضوع
بالمرة؛ لأن الكلام في التسامح الديني مع العلم، لا فى تسامح عقيدة مع عقيدة أو
دين مع دين وإلا لأوردنا لها من حروب الطوائف المسيحية بعضها مع بعض
وحروبها مع غيرها ما يستغرق أجزاء الجامعة بقية هذه السنة إذا أوجزنا ما
استطعنا، هل أذكرها بما كان يقع في القسطنطينية من سفك الدماء بين
الأرثوذوكس والكاثوليك على عهد القياصرة الرومانيين؟ هل أذكرها بحادثة
برتملي سنتهلير التي سفك فيها الكاثوليك دماء إخوانهم البروتستانت وأخذوهم في
بيوتهم على غرة وقتلوهم نساء ورجالاً وأطفالاً، بماذا أذكّر الجامعة من أمثال هذه
الوقائع التي اسود لها لباس الإنسانية، وتسلّبت لحدوثها البشرية؟ هل يمكن لأحد
أن يروي حادثة مثلها وقعت بين شعوب المسلمين بعضهم مع بعض لخلاف في
العقيدة مهما عظم الاختلاف.
* * *
(تساهل المسلمين مع أهل العلم والنظر من كل ملة)
ثم أرجع إلى الأمر الأول من الأمور الأربعة؛ لأن الكلام عليه أقل منه على
الأمر الثالث، وإنني لا أستدل على رعاية الإسلام للحكماء من الملل غيرالمسلمة
بقول كاتب مسلم، وإنما أرجع في جميع ما أذكر إلى كتب المؤرخين والفلاسفة من
المسيحيين وأذكر أسماء جماعة من المسيحيين وغيرهم بلغوا من الحظوة عند
الخلفاء وعامة المسلمين وخاصتهم ما لم يبلغه غيرهم قال المستر دراير أحد
المؤرخين وكبار الفلاسفة من الأمريكان: (إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء
لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على
مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال الجسام، ورقوهم إلى المناصب
في الدولة حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا مسنيه)
(هو يوحنا بن ماسويه الشهير) وقال في موضع آخر: (كانت إدارة المدارس
مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود تارة
أخرى، لم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذي ولد فيه
بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.
قال الخليفة العباسي الأكبر المأمون: (إن الحكماء هم صفوة الله من خلقه
ونخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وارتفعوا
بقواهم عن دنس الطبيعة وهم ضياء العالم وهم واضعو قوانينه ولولاهم لسقط العالم في
الجهل والبربرية) .
وقال في موضع آخر: (إن العرب قد زحفوا بجيش من أطبائهم اليهود
ومؤدبي أولادهم من النسطوريين ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما أتوا على حدوده
بأسرع مما أتوا على حدود مملكة الرومانيين) . ولست في حاجة إلى ذكر ما أسس
الخلفاء والملوك من المدارس وأقاموا من المراصد وما حشدوا من الكتب إلى
المكاتب؛ لأن هذا خارج عن بحثنا الآن، وسيرد عليك شيء منه فيما بعد.
***
(طائفة من الحكماء والعلماء الذين حظوا عند الخلفاء)
أذكر ممن اشتهر من الحكماء بالحظوة عند الخلفاء جيورجيس بن بختيشوع
الجنديسابوري طبيب المنصور كان فيلسوفًا كبيرًا علت منزلته عند المنصور؛ لأنه
كانت له زوجة عجوز لا تُشتهى فأشفق عليه المنصور وأنفذ إليه بثلاث جوار
حسان فردّهن، وقال: إن ديني لا يسمح لي بأن أتزوج غير زوجتي ما دامت حية.
فأعلى مكانته حتى على وزرائه.
ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار العامة وخرج إليه ماشيًا يسأل عن حاله
فاستأذنه الحكيم في رجوعه إلى بلده ليدفن مع آبائه فعرض عليه الإسلام ليدخل الجنة
فقال: رضيت أن أكون مع آبائي في جنة أو نار. فضحك المنصور وأمر تبجهيزه
ووصله بعشرة آلاف دينار (وهو المنصور الدوانيقي المشهور بالإمساك وكزازة
اليد) وأوصى من معه بحمله إذا مات في الطريق إلى مدافن آبائه كما طلب، ثم
سأله عمن يخلفه عنده فأشار إلى عيسى بن شهلاثا أحد تلامذته فأخذه المنصور مكان
جيورجيس فطفق يؤذي القسوس والبطارقة ويهددهم بمكانه عند الخليفة لينال منهم
رغائبه فشعر الخليفة بذلك فطرده.
وممن حظي عند المنصور نوبخت المنجم وولده أبو سهل وكانا فارسيين على
مذهب الفُرس ثم كانت ذرية مسلمة لأبي سهل، وكانوا جميعًا منجمين لهم شهرة في
علوم الكواكب فائقة.
وممن حظي بالمكانة العليا عند الخليفة المهدي: تيوفيل بن توما النصراني
المنجم، وكان على مذهب الموارنة من سكان لبنان، وله كتب في التاريخ جليلة
ونقل كتاب أميروس إلى السريانية بأفصح عبارة.
وممن ارتفع شأنه عند الرشيد من الفلاسفة: بختيشوع الطبيب وجبريل ولده
ويوحنا بن ماسويه النصراني السرياني، ولاه الرشيد ترجمة الكتب القديمة طبية
وغيرها وخدم الرشيد ومن بعده إلى المتوكل، وكان يعقد في داره مجلسًا للدرس
والمناظرة ولم يكن يجتمع في بيت للمذاكرة في العلوم من كل نوع والآداب من كل
فن مثل ما يجتمع في بيت يوحنا بن ماسويه.
وممن علا قدره في زمن المأمون يوحنا البطريق مولى المأمون أقامه كذلك
أمينًا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة.
كذلك ارتفع شأن سهل بن سابور، وسابور ابنه وكانا نصرانيين وولي سابور
بن سهل بيمارستان جنديسابور.
وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيبًا عند المعتصم ولما مات جزع عليه
جزعًا شديدًا وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة النصارى وكان بختيشوع
بن جبريل عند المتوكل يومًا فأجلسه بجانبه وكان عليه درَّاعة حرير رومية بها فتق
فأخذ المتوكل يحادثه يعبث بالفتق حتى وصل إلى النيفق (هو ما اتسع من الثوب)
ودار الكلام بينهما حتى سأله المتوكل: بماذا تعلمون أن الموسوس
(المصاب بخبل في عقله) يحتاج إلى الشد؟ فقال بختيشوع: إذا عبث بفتق
دراعة طبيبه حتى النيفق شددناه فضحك المتوكل حتى استلقى.
وفي أيام المتوكل اشتهر حنين بن إسحق النصراني العبادي وهو من أشهر
المترجمين لكتب أرسطو وغيره وامتحن المتوكل صدقه فظهرت له عزيمة لا تفلّ؛
فأقطعه إقطاعات واسعة وكان قد عرف بفصاحة العبارة وحسن الترجمة في زمن
المأمون وهو فتًى؛ فكلفه بترجمة الكتب وكان يعطيه وزن ما يترجم ذهبًا وكانت
بينه وبين الطيفوري النصراني محاسدة أفضت إلى طلب الحكم على حنين في
مجلس الأساقفة بالحُرْمِ من الكنيسة فمات غمًّا لاضطهاد أهل طائفته له مع عزته
وعلو قدره عند الخليفة وهذا الطيفوري أيضًا كان من المقربين عند الخلفاء.
وممن ارتفع شأنه عند الخلفاء والخاصة والعامة في زمنه أيام خلافة الراضي:
متى بن يونس المنطقي النصراني النسطوري كان مفننًا في جميع العلوم العقلية
أخذ عنه أبو نصر الفارابي وانتهت إليه الرياسة في بغداد وكان من أهل دير قنى
ونشأ في مدرسة مارماري وقرأ على روفائيل وبنيامين الراهبين اليعقوبيين.
ومن المقربين عند الخليفة: قسطا البعلبكي من فلاسفة دولة الإسلام وهو
النصراني، طلبه الخلفاء إلى بغداد لأجل الترجمة ثم يحيى بن عدي بن حميد بن
زكريا المنطقي انتهت إليه الرياسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته. وقرأ على متى
ابن يونس وعلى أبي نصر الفارابي.
ومنهم أبو الفرج الطبيب فيلسوف عالم، قالوا: كان كاتب الجاثليق ومتميزًا
في النصارى ببغداد وكان يقرئ صناعة الطب في البيمارستان العضدي وكان
معاصرًا للشيخ الرئيس ابن سينا والرئيس يمدح طبه ولا يحمد فلسفته وله كلام فيه.
وممن كانت له المكانة الرفيعة عند الخلفاء والخاصة والعامة ثابت بن قرة
الحراني الصابئ من طائفة الصابئين المعروفة، وتربى في بيت محمد بن موسى
بن شاكر الفلكي المشهور وبلغ في علوم الفلسفة مبلغًا لم يدانه فيه غيره، وله تآليف
كثيرة في المنطق والطب والرياضيات وبلغ عند المعتضد مقامًا تقدم فيه عنده على
وزرائه، ووُلِدَ ثابت هذا سنة إحدى عشرة ومئين بحران ثم كان ابناه إبراهيم وسنان
على قدم أبيهما، ومن حفدته أبو الحسن ثابت بن قرة، وكان ثابت وإبراهيم وسنان
صابئين ولهم من المنزلة ما علمت ومدحهم كثير من شعراء المسلمين وهم صابئة.
ماذا أعد للجامعة من الفلاسفة والحكماء من الملل المختلفة الذين وسعهم صدر
الإسلام، ولم يضن عليهم بالرعاية والاحترام، هل تريد أن أتمم الكلام بذكر كثير
من فلاسفة الإسلام المسلمين الذين نالوا أسمى الدرجات وأعلى المقامات عند الخلفاء
والملوك، هل أنا في حاجة إلى ذكر فيلسوف الإسلام أبي سيف يعقوب الكندي وهو
بصري الأصل.
أين الأمير إسحاق الذي كان أميرًا للمهدي والرشيد على الكوفة
وهو من ذرية الأشعث بن قيس أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
عالمًا بالطب والفلسفة والهيئة والحساب والموسيقى واشتغل بالترجمة، كما اشتغل
غيره بها فترجم كثيرًا من كتب الفلسفة وأوضح الغامض منها، وكانت له المكانة
العليا عند المأمون والمعتصم وولده أحمد، هل أنا في حاجة إلى ذكر بني موسى بن
شاكر محمد وأحمد والحسن الذين اشتغلوا في مساحة الكرة الأرضية ومعرفة محيطها
وقطرها وما كان لهم من المنزلة عند الأمراء والخلفاء؟ أأذكر ابن سينا ومنزلته في
قومه ووصوله إلى مسند الوزارة عند شمس الدولة؟ أم أذكر الفارابي وما كان له
من المكانة عند سيف الدولة بن حمدان.
لا ريب أن أبا العلاء المعري يصلح أن يكون رجلاً ممن تعني الجامعة بنشر
تراجمهم وقد قال ما لم يقل بمثله فولتير وروسو، وقد مات مع ذلك على فراشه
وقبره اليوم مزار يُرْحَل إليه في بلده.
أظن أنه يسهل بعد سرد ما عددناه أن يعرف قراء الجامعة أن الإسلام كان
يوسع صدره للغريب كما يوسعه للقريب بميزان واحد وهو ميزان احترام العلماء
للعلم، ويسهل عليَّ أن ألتمس العذر للجامعة بأنها عندما كتبت ما كتبت تمثلت لها
بعض حوادث قيل: إنها حدثت للدين وما حدثت له، بل كان سبب حدوثها إما سياسة
خرقاء أو جهالة عمياء أو تَأْرِيث بعض السفهاء، لا أطيل خوف الإملال وأنتقل
الآن إلى الأمر الثالث وهو المقابلة بين طبيعة الدينين، وهو أهم مما سبق ومما
سيلحق.
* * *
(طبيعة الدين المسيحي وأصوله)
(تمهيد) ظنت الجامعة أن الدين المسيحي فصل بين السلطة الدينية
والسلطة المدنية؛ ولذلك كان في طبيعته التسامح، أما الدين الإسلامي فمن أصوله
أن السلطان ملك وخليفة ديني وذلك مما يصعب معه التسامح في رأيها.
ليس هذا بكافٍ في بيان طبيعة كل من الدينين واستعدادها للتسامح مع العلم أو
مع أية عقيدة تخالفها بل لا بد من بيان أركان الدين وأهم أصوله التي ترجع إليها
جميع الفروع، وعنها تصدر الآثار الحقيقية.
عند النظر في أي دين للحكم له أو عليه في قضية من القضايا يجب أن يؤخذ
ممحصًا مما عرض عليه من بعض عادات أهله أو مُحْدَثَاتهم التي ربما تكون جاءتهم
من دين آخر، فإذا أريد أن يحتج بقول أو عمل لاتباع ذلك الدين في بيان بعض
أصوله فليؤخذ في ذلك بقول أو عمل أقرب الناس إلى منشأ الدين، ومن تلقوه على
سذاجته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه، وإنني أوجز القول في إيراد الأصول
الأولى التي وردت في الأناجيل المعروفة الآن في أيدي المسيحيين وجاءت في كلام
أئمتهم الأولين. ثم إيراد ما جر إليه الأخذ بتلك الأصول بحكم طبيعة الدين.
* * *
(الأصل الأول للنصرانية الخوارق)
أول أصل قام عليه الدين المسيحي وأقوى عماد له هو خوارق العادات، تقرأ
الأناجيل فلا تجد للمسيح عليه السلام دليلاً على صدقه إلا ما كان يصنع من
الخوارق وعددها في الأناجيل يطول شرحه؛ ثم إنه جعل ذلك دليلاً على صحة الدين
لمن يأتي بعده فجعل لأصحابه ذلك كما تراه في الإصحاح العاشر من إنجيل مَتَّى
وغيره، وإذا تتبعت جميع ما قال الأولون من أهل هذا الدين تجد خوارق العادات من
أظهر الآيات على صحة الاعتقادات، ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي
يصدر مخالفًا لشرائع الكون ونواميسه، فإذا ساغ أن يكون ذلك لكل من علا كعبه
في الدين؛ لم يبقَ عند صاحب الدين ناموس يعرف له حكم مخصوص.
زاد الإنجيل على هذا أن الإيمان ولو كان مثل حبة خردل كافٍ في خرق
نواميس الكون كما قال في الإصحاح السابع عشر من متى: (فالحق أقول لكم لو
كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك،
فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم) وفي الحادي عشر من مرقس: (٢٣
لأني الحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل انتقل وانطرح في البحر، ولا يشك
في قلبه بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له ٢٤ لذلك أقول لكم:
كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم) .
فكل بحث يؤدي إلى أن للكون شرائع ثابتة، وأن للعلل والشرائط أو الأسباب
أو الموانع أحكامًا في معلولاتها أو ما شرطت فيه أو ما تسبب عنها أو ما استحال
وجوده لوجودها كان مضادًا لهذا الأصل في أي زمن، وقد كان كل علم من علوم
الأكوان لا بد فيه من هذا البحث فكل علم مضاد لهذا الأصل، ثم إن صاحب
الاعتقاد بهذا الأصل لا يحتاج إلى البحث في الأسباب والمسببات؛ لأن اعتقاده في
الشيء أن يكون وإرادته لأن يكون كافيان في حصوله فهو في غنًى عن العلم،
والعلم عدو لما يعتقد، فما أصعب احتماله إذا جاء يزاحمه في سلطانه.
* * *
(الأصل الثاني للنصرانية سلطة الرؤساء)
وبعد هذا الأصل أصل آخر وهو السلطة الدينية التي منحت للرءوساء على
المرءوسين في عقائدهم وما تُكنه ضمائرهم، وقد أحكم هذه السلطة ما ورد في
١٦-١٩ من إنجيل متى: (أعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه على
الأرض يكون مربوطًا في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في
السموات) وفي ١٨-١٨ منه: (الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في
السماء) .
فإذا قال الرئيس الكهنوتي لشخص: إنه ليس مسيحيًّا صار كذلك، وإذا قال:
إنه مسيحي فاز بها فليس المعتقد حرًّا في اعتقاده يتصرف في معارفه كما يرشده عقله
بل عَيْنَا قلبه مشدودتان بشفَتَيْ رَئيسه؛ فإذا اهتزت نفسه إلى بحث أوقفها قابض على
تلك السلطة، وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم فقد جرت عليه
النصرانية خمسة عشر قرنًا طوالاً.
* * *
(الأصل الثالث للنصرانية ترك الدنيا)
وبعد هذين الأصلين أصل ثالث، وهو التجرد من الدنيا والانقطاع إلى الآخرة
تجد هذا الأصل في الأناجيل وفي أعمال الرسل وكلما قرأت في الكتب الأولى
عثرت به، وتجد الأوامر الصادرة بالانقطاع إلى الملكوت من عالم الملك صريحة
في الإصحاح السادس والعاشر والتاسع عشر من إنجيل متى فما جاء في السادس:
(لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ٢٥؛ لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما
تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون، أليست الحياة أفضل من الطعام،
والجسد أفضل من اللباس (إلى أن قال) ٣٣ ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره
وهذه كلها تزاد لكم ٣٤ فلا تهتموا للغد؛ لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره،
وقال في التاسع عشر: ٢٣ الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات
٢٤ وأقول لكم. إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت
الله) وفي العاشر: (٩ لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا نحاسًا في مناطقكم ١٠ ولا
مزودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا، إلخ) .
وحث على الرهبانية وترك الزواج وفي ذلك قطع النسل البشري قال في
(١٩من متى) : (يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع
أن يقبل فليقبل) ثم إن ملكوت السموات قد نيط أمره بالإيمان المجرد عن النظر في
الأكوان، فماذا يكون حظ صاحب الاعتقاد بهذا الأصل من النظر في أي علم،
والعلم لا دخل له في شئون الآخرة والدنيا قد حرمت عليه، لا ريب أن همه يكون
في الصلاة وصرف القلب بكليته إلى العبادة دون سواها وليس الفكر في الخليقة من
العبادة عنده، فإن عبادة الإنجيل ليست شيئًا سوى الإيمان والصلاة.
* * *
(الأصل الرابع للنصرانية الإيمان بغير المعقول)
وبعد هذه الأصول أصل رابع، وهو عند عامة المسيحيين أصل الأصول لا
يختلف فيه كاثوليك ولا أرثوذكس ولا بروتستانت، وهو أن الإيمان منحة لا دخل
للعقل فيها وأن من الدين ما هو فوق العقل بمعنى ما يناقض أحكام العقل وهو مع
ذلك مما يجب الإيمان به قال القديس أنسيلم: (يجب أن تعتقد أولاً بما يعرض على
قلبك بدون نظر ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت) فليس الإيمان وهو الوسيلة
الفردة إلى النجاة في حاجة إلى نظر العقل والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل
فيه نظره، وقول القديس: (ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت) نوع من
التفصيل على النزعة البشرية إلى الفهم وعلى الميل الفطري إلى تصور ما يتعلق
به الاعتقاد وإلا فمجرد الإيمان كافٍ في الخلاص، ثم الويل كل الويل لطالب
الفهم إذا أدى اجتهاده إلى شيء يخالف ما تعلق به إيمانه، فكأن معنى الفهم أن يخلق
المؤمن لنفسه ما يسلي به نفسه على إيمانه بغير المفهوم.
* * *
(الأصل الخامس للنصرانية الكتب المقدسة
حاوية كل ما يحتاج إليه البشر في المعاش والمعاد)
ثم ينضم إلى الأصول الأربعة أصل خامس، وهو أن الكتب المعروفة بالعهد
القديم والعهد الجديد تحتوي على كل ما يحتاجه البشر إلى علمه، سواء كان متعلقًا
بالاعتقادات الدينية والآداب النفسية والأعمال البدنية مما يؤدي إلى نيل السعادة في
الملكوت الأعلى، أو كان من المعارف البشرية التي يتأتى للعقل الإنساني أن يتمتع
بها قال تيرتوليان - وهو أفضل من وصف الاعتقاد المسيحي في نهاية القرن
الثالث قبل أن تعرض عليه البدع الكثيرة -: (إن عقائد المسيحية أسست على
الكتب السماوية، ودليل صحة هذه الكتب قِدَمُها، وكونها أقدم من كتاب أميروس،
وأقدم من أقدم أثر معروف عند الرومانيين، وأقدم من تأسيس الحكومة الرومانية
نفسها، والزمن ناصر الحقيقة، ثم تحقق النبوّات التي وردت فيها) ثم قال: (إن
أساس كل علم عندهم هو الكتاب المقدس، وتقاليد الكنيسة، وأن الله لم يقصر
تعليمنا بالوحي على الهداية إلى الدين فقط، بل علمنا بالوحي كل ما أراد أن نعلمه
من الكون؛ فالكتاب المقدس يحتوي من العرفان على المقدار الذي قدر للبشر أن
ينالوه من جميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض وما فيها،
وتاريخ الأمم مما يجب تسليمه مهما ضارب العقل أو خالف شاهد الحس، فعلى
الناس أن يؤمنوا به أولاً، ثم يجتهدوا ثانيًا في عمل أنفسهم على فهمه؛ أي على
تسليمه أيضًا كما ترى، وقال بعض فضلائهم: إنه يمكن أن يؤخذ فن المعادن بأكمله
من الكتاب المقدس.
* * *
(الأصل السادس للنصرانية
التفريق بين المسيحيين وغيرهم حتى الأقربين)
ينظم تلك الأصول كلها أصل سادس وهو آخرها فيما أرى، ذلك الأصل هو
الذي ورد في الصحاح العاشر من إنجيل متّى وهو: (٣٤ لا تظنوا أني جئت
لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا ٣٥ فإني جئت لأفرق
الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها ٣٦ وأعداء الإنسان أهل بيته)
وقد صرح في عدة مواضع من الإنجيل أن الإخلال بشيء من محبة المسيح أو
بالانقياد إلى جميع ما أوصى به موجب للهلاك، وإن كان قد جاء في مواضع كثيرة
أن الإيمان وحده كاف في الخلاص غير أن روح الشدة التي جاءت في قوله: (لا
تظنوا أني جئت لألقي سلامًا إلخ) هي التي بقي أثرها في نفوس الأولين من
المعتقدين بالدين المسيحي وعفت على آثار ما كان يصح أن تستشعره النفوس من
بعض الوصايا الأخر.
* * *
(نتائج هذه الأصول وآثارها)
من هنا أعرض المسيحيون الأولون عن شواغل الكون وصدوا عن سبيل
النظر فيه إظهارًا للغنى بالإيمان والعبادة عن كل شيء سواهما، وحجروا على همم
النفوس أن تنهض إلا إلى الدعوة إلى ذلك الإيمان وتلك العبادة ووسائل الدعوة هي
الإيمان والعبادة كذلك، فإذا نزعت العقول إلى علم شيء من العالم وضعوا أمام
نظرها كتب العهد القديم وحصروا العلم بين دفاتها استغناءً بالوحي عن كل عمل
للعقل سوى فهمه من عباراته وليس يسوغ لكل ذي عقل فهمه بل إنما يتلقى فهمه
من رؤساء الكنيسة خوفًا من الزيغ عن الإيمان السليم (البروتستانت رأوا أنه يجوز
تفسير الكتاب لغير الكنيسة) .
ثم إن إلقاء السيف ووضع التفريق بين الأقارب والأحبة إنما جاء حافظًا لذلك
كله فإذا خطر على قلب أحد خاطر سوء يرمي إلى معارضة شيء من أمور الإيمان
المقررة وجب قطع الطريق على ذلك الخاطر، ولم يجز في شأن صاحبه هوادة ولا
مرحمة، كما أفهمه المسيح بعمله على حسب ما ورد في الإنجيل فقد قيل له: ٤٧
(أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك ٤٨ فأجاب وقال للقائل له: من
هي أمي ومن هم إخوتي ٤٩ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي) ونحو
ذلك مما يدل على وجوب المقاطعة بين من يعتقد بالدين المسيحي ومن يحيد عن
شيء من معتقده، ولا يخفى أن الشيء يكون بذرة ثم نبتًا ثم شجرًا فانظر إلى ما صار
أمر هذه البدايات بحكم الطبيعة.
وقر في نفوس المسيحيين أن السلامة في ترك الفكر والأخذ بالتسليم وتقرر
عند القوم قاعدة أن: (الجهالة أم التقوى) (وكثير من أهل الأديان مسيحيين
ومسلمين لا يزالون يجرون على هذه القاعدة ببركة ما ورثوا عن أبناء الزمن الغابر)
فحصروا التعليم في الأديار ومنعت الكنيسة أن ينشر التعليم بين العامة إلا ما كان
دعوة إلى الصلاح وتقرير الإيمان على وجه ظاهر وبقي غير القسيسين في جهالة
حتى بأمور الدين وحقائقه وأسراره، ظهرت ذات الذنب التي تنسب إلى هالي في
سنة ١٦٨٢ فاضطربت لظهورها أوربا ولجأوا إلى البابا واستجاروا به فأجارهم
وطردها من الجو فولّت في الفضاء مذعورة من لعنته ولم تعد إلا بعد خمس وسبعين
سنة! !
لم يكن يسمح لأحد أن يبدي رأيًا يخالف صريح ما في الكتاب وعندما أظهر
بلاج رأيه في أن الموت كان يوجد قبل آدم أي إن الحيوانات كان يدركها الموت
قبل أن يحظى آدم بالأكل من الشجرة قام لذلك ضوضاء وارتفعت جلبة وانتهى
الجدال والجلاد إلى صدور أمر إمبراطوري بقتل كل شخص يعتقد بذلك، يقول
المؤرخ: وهكذا عُدَّ الاعتقاد بأن الموت كان يزور الأحياء قبل آدم جريمة على
الملك.
أحرقت كتب البطالسة والمصريين بالإسكندرية على عهد جول قيصر ثم إن
تيوفيل بطريرك الإسكندرية انتحل أدنى الأسباب لإثارة ثورة في المدينة لإتلاف ما
تبقى في مكتبة البطالسة بعضه بالإحراق وبعضه بالتبديد، قال أوروسيوس المؤرخ:
إنه رأى أدراج المكتبة خالية من الكتب بعد أن نال تيوفيل الأمر الإمبراطوري
بإتلافها بنحو عشرين سنة.
ثم جاء بعد تيوفيل ابن أخته سيريل، وكان خطيبًا مفوهًا له على الشعب سلطان
بفصاحته، وكان في الإسكندرية بنت تسمى هيباتي الرياضية تشغل بالعلوم والفلسفة
وكان يجتمع إليها كثير من أهل النظر في العلوم الرياضية، وكان لا يخلو مجلسها
من البحث في أمور أخر خصوصًا في هذه المسائل الثلاث: (من أنا، وإلى
أين أذهب، وماذا يمكنني أن أعلم) .
فلم يحتمل ذلك القديس سيريل مع أن البنت لم تكن مسيحية بل كانت على دين
آبائها المصريين فأخذ يثير الشغب عليها حتى قعدوا لها وقبضوا عليها في الطريق
وهي سائرة إلى دار ندوتها وجردوها من ثيابها وأخذوها إلى الكنيسة مكشوفة العورة
وقتلوها هناك ثم قطع جسمها وجرد اللحم عن العظم وما بقي منها ألقي في النار،
يقول المؤرخ راوي هذه القصة: ولم يسأل سيريل عما صنع بهيباتي ولم تنظر
الحكومة الرومانية فيما وقع عليها، ولعل ذلك كان أول ما تقررت تلك القاعدة:
(الغاية تشفع للوسيلة) .
ما من عقيدة ظهرت في المسيحية وأريد تقريرها من فريق ونازع فيها فريق
إلا وقد سالت لها الدماء فليراجع التاريخ لتتمثل أرض مصر مصبوغة بدماء
المسيحيين من فريقين مختلفين عندما أريد تقرير عبادة العذراء واتخاذها لله أمًّا.
وكان ذلك في طبيعة الدين: أن من لم يتبع المسيح فهو هالك والهالك لا يستحق
الحياة، ألم تر في الإصحاح الخامس من الأعمال إلى قصة الرجل الذي باع جميع
ما عنده وعندما جاء إلى بطرس أعطاه الثمن وادخر لنفسه شيئًا أخفاه عنه فاطلع
بطرس على حقيقة الأمر ووبخ الرجل وتصرف فيه بسلب حياته من طريق
المعجزة ثم جاء امرأته وكان لها اطلاع على ما أخفى زوجها ولم تنهه فوبخها
بطرس وأخبرها بموت زوجها فماتت هي أيضًا. فإذا كان الله يسلب الحياة جزاء
على اختلاس الرجل شيئًا من مال نفسه لم يقدمه هدية للرسل فكيف تكون الحياة من
حقه إذا خالف خلفاء الله في الأرض ونابذهم فيما يعتقدون.
قال البابا أنوسان الثالث عند الكلام في مصادرة الذين يخالفون العقيدة
الكاثوليكية: (لا يجوز أن يترك لأولاد الجاحدين سوى الحياة وترك الحياة لهم مَنٌّ
وإحسان) فلم يقصر الجزاء على الجاحدين ولكن عدّاه إلى أولادهم وعدّ ترك الحياة
لأولادهم يتمتعون بها ضربًا من الإحسان عليهم؛ لأنه لا حق لهم في أن يعيشوا وقد
جحد آباؤهم.
* * *
(مقاومة النصرانية للعلم)
لا أجد في التاريخ ذكرًا للعلم والفلسفة بعد ظهور المسيحية في مظهر القوة
لعهد قسطنطين وما بعده إلا في أثناء المنازعات الدينية التي كان يفصل فيها تارة
بسلطان الملوك وأخرى بجمع المجامع وثالثة بسفك الدماء فتخمد شعلة العلم وينتصر
الدين المحض. وإنما الذكر كل الذكر لما كان بين المسيحية وما جاورها من الملل
الأخرى من الحروب الدينية للحمل على العقيدة بما كان يعتقد المسيحيون، وما كان
يقع بني ملوك أوربا من التسافك في الدماء بإغراء رؤساء الكنيسة، وأمر ذلك
معروف عند من له إلمام بالتاريخ وليس من موضوعنا الكلام فيه.
ولكن أرى شبه نزاع بين العلم والدين ظهر في أوربا بعد ظهور الإسلام
واستقرار سلطانه في بلاد الأندلس واحتكاك الأوربيين بالمسلمين في الحروب
الصليبية.
رجع الآلاف من الغزاة الصليبيين إلى بلادهم وحملوا إلى الناس أخبارًا
تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة من أن المسلمين جماعة من
الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة وأجلوا عنها دين التوحيد ونفوا منها كل فضيلة
وإخلاص، وهم وحوش ضارية وحيوانات مفترسة، فلما قفل الغزاة إلى ديارهم
قضوا على قومهم أن أعدائهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة ذوي ود ووفاء وفضل
مجاملة.
ثم كان الخليفة الْحَكَم الثاني جعل من بلاد الأندلس فِرْدَوْسًا كما قال الفيلسوف
الأميركاني، وكان اليهود والنصارى يتلاقون في تلك البلاد تحت ظلال الأمن
والحرية، قال بطرس المحترم الشهير: إنه رأى كثيرًا من العلماء يأتون إلى تلك
البلاد لتلقي العلوم الفلكية حتى من بلاد إنكلترا وأولئك الذين يسعون إلى طلب العلوم
من أي بلاد جاءوا كانوا يجدون فيها رحبًا وسعة وكان قصر الخليفة يشبه أن يكون
مصنعًا للكتب نسخ وتذهيب وتجليد، إلخ ما قال.
ثم انتشرت صناعة الورق التي اخترعها العرب ثم اكتشفت المطبعة وسهل
على الناس أن ينشروا آرائهم بعد أن تنبهت أفكارهم بما جلب إليهم رسل العلم الذين
حملوه إليهم عن أهالي أسبانيا ومن حملوه مما جاورهم ثم انساب إلى العقول شيء
مما سماه الأوربيون فلسفة ابن رشد، عند ذلك اهتمت المسيحية بالأمر وأخذت
تحارب كل ما يظهر على ألسنة الناس أو يرد على أسماعهم مما يخالف ما في
الكتب المقدسة وتقاليد الكنيسة.
قال دي رومنيس: إن قوس قزح ليست قوسًا حربية بيد الله ينتقم بها من عباده
إذا أراد بل هي من انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء. فجلب إلى روما وحبس
حتى مات ثم حوكمت جثته وكتبه فحكم عليها ألقيت في النار، وقيل في علة الحكم:
إنه أراد الصلح بين كنيستى روما وإنكلترا، وأي ذنب أعظم من هذا الصلح؟ هو
أضخم بلا ريب من ذنب القول بأن قوس قزح من انعكاس ضوء الشمس في نقط
الماء.
* * *
(مراقبة المطبوعات ومحكمة التفتيتش)
أنشئت المراقبة على المطبوعات وحتم على كل مؤلف وكل طابع أن يعرض
مؤلفه أو ما يريد طبعه على القسيس أو المجلس الذي عين للمراقبة وصدرت أحكام
المجمع المقدس بحرمان من يطبع شيئًا لم يعرض على المراقب أو ينشر شيئًا لم
يأذن المراقب بنشره، وأوعز إلى هذا المراقب أن يدقق النظر حتى لا ينشر ما فيه
شيء يومئ إلى مخالفة العقيدة الكاثوليكية ووضعت غرامات ثقيلة على أرباب
المطابع يعاقبون بها فوق الحرمان من الكنيسة (كأن الحكومة العثمانية على ما
تنشر بعض الجرائد أخذت نسخة من قرار المجمع المقدس لتجري عليه مراقبة
المطبوعات ولكن للسياسة لا للدين) أنشئت محكمة التفتيش لمقاومة العلم والفلسفة
عند ما خيف ظهورهما بسعي تلامذة ابن رشد خصوصًا في جنوب فرنسا وإيطاليا
أنشئت هذه المحكمة الغربية بطلب الراهب توركماندا.
قامت المحكمة بأعمالها حق القيام ففي مدة ثماني عشرة سنة - من سنة
١٤٨١ إلى سنة ١٤٩٩ حكمت على عشرة آلاف ومئتين وعشرين شخصًا بأن
يحرقوا وهم أحياء فأحرقوا وعلى ستة آلاف وثمانمائة وستين بالشنق بعد التشهير
فشهروا وشنقوا، وعلى سبعة وتسعين ألفًا وثلاثة وعشرين شخصًا بعقوبات مختلفة
فنفذت ثم أحرقت كل توراة بالعبرية.
ماذا كانت وسائل التحقيق عند هذه المحكمة المقدسة؟ وسيلة واحدة هي أن
يحبس المتهم وتجرى عليه أنواع العذاب المختلفة بآلات التعذيب المتنوعة إلى أن
يعترف بما نسب إليه، وعند ذلك يصدر الحكم ويعقبه التنفيذ، قرر مجمع لاتران
سنة ١٥٠٢ أن يلعن كل من ينظر في فلسفة ابن رشد، وطفق الدومينكان يتخذون
من ابن رشد ولعنه ولعن من ينظر في كلامه شيئًا من الصناعة والعبادة، لكن ذلك
لم يمنع الأمراء وطلاب العلوم من كل طبقة من تلمس الوسائل للوصول إلى شيء
من كتبه وتحلية العقول ببعض أفكاره.
اشتدت محكمة التفتيش في طلب أولئك المجرمين طلاب العلم والسعاة إلى
كسبه، ونيط بها كشف البدعة فيها مهما اشتد خفاؤها - في المدن وفي البيوت، في
السراديب، في الأنفاق، في المخازن، في المطابخ، في المغارات في الغابات،
في الحقول فوفت بما كلفت به مع البهجة والسرور اللائقين بأصحاب الغيرة على
الدين عملاً بالقول الجليل (ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا) كان يؤخذ الرهبان في
صوامعهم، والقسوس في كنائسهم، والأشراف في قصورهم، والتجار بين
بضائعهم، والصناع في مصانعهم، والعامة في بيوتهم ومزارعهم، وحيثما وجدوا،
وأينما ثقفوا، ويوقفون أمام المحكمة وتصدر الحكام عليهم يوم اتهامهم.
قرر مجمع لاتران أن يكون من وسائل الاطلاع على أفكار الناس الاعتراف
الواجب أداؤه على المذهب الكاثوليكي أمام القسيس في الكنيسة (أي الاعتراف
بالذنوب طلبًا لغفرانها) تذهب البنت أو الزوجة أو الأخت لأجل الاعتراف بين يدي
القسيس يوم الأحد فيكون مما تسأل عنه عقيدة أبيها أو زوجها أو أخيها وما يبدر من
لسانه في بيته وما يظهر في أعماله بين أهله، فإذا وجد القسيس متلقي الاعتراف
شيئًا من الشبهة في طلب العلم غير المقدس على من سأل عنه رفع أمره إلى
المحكمة فينقضُ شهابُ التهمة عليه، فإذا سأل عن الشاهد الذي عول عليه في إتهامه
لا يجاب وإنما يقام التعذيب مقام شخص الشاهد وهو من أهله حتى يعترف أوقعت
هذه المحكمة المقدسة من الرعب في قلوب أهل أوربا ما خيل لكل من يلمع في ذهنه
شيء من نور الفكر إذا نظر حوله أو التفت وراءه أن رسول الشؤم يتبعه، وأن
السلاسل والأغلال أسبق إلى عنقه ويديه من ورود الفكرة العلمية إليه، وقال
باغلياديس ما كان يقوله جميع الناس لذلك العهد: (يقرب من المحال أن يكون
الشخص مسيحيًا ويموت على فراشه) .
حكمت هذه المحكمة من نشأتها سنة ١٤٨١ إلى سنة ١٨٠٨ على ثلاثمائة
وأربعين ألف نسمة منهم نحو مائتي ألف أحرقوا بالنار أحياءً.
* * *
(اضطهاد المسيحية للمسلمين واليهود والعلماء عامة)
لما كان ابن رشد هو الينبوع الذي تفجر منه ماء العلم والحرية في أوروبا
على زعم القسوس، وكان ابن رشد أستاذًا يتعلم عنده كثير من اليهود وقد اتهموا
بنشر أفكاره وآرائه ثم هو مع ذلك مسلم صب غضب الكنيسة على اليهود
والمسلمين معًا فصدر الأمر في ٣٠ مارس سنة ١٤٩٢ بأن كل يهودي لم يقبل
المعمودية في أي سن كان وعلى أي حال كان يجب أن يترك بلاد أسبانيا قبل شهر
يوليو (تموز) ومن رجع منهم إلى هذه البلاد عوقب بالقتل وأبيح لهم أن يبيعوا ما
يملكون من عقار ومنقول بشرط أن لا يأخذوا في الثمن ذهبًا ولا فضة وإنما يأخذون
الأثمان عروضًا وحوالات، ومن ذا الذي يشتري اليوم بثمن ما يأخذه بعد ثلاثة
أشهر بلا ثمن؟ (يعنى أن أموال اليهود تكون مباحة بعد جلائهم الذي يتم في يوليو) ،
وصدر أمر توركماندو أن لا يساعدهم أحد من سكان أسبانيا في أمر من أمورهم،
وهكذا خرج اليهود تاركين كل ما يملكون ناجين بأرواحهم على أنه لا نجاة لكثير
منها فقد اغتالها الجوع ومشقة السفر مع العدم والفقر، وفي فبراير (شباط) سنة
١٥٠٢ نشر الأمر بطرد أعداء الله المغاربة (المسلمين) من أشبيلية وما حولها -
من لم يقبل المعمودية منهم يترك بلاد أسبانيا قبل شهر (نيسان) وأبيح لهم أن
يبيعوا ما يملكون على الشرط الذي وضع لليهود، ولكن وضع للمسلمين شرط
آخر وهو أن لا يذهبوا في طريق يؤدي إلى بلاد إسلامية ومن خالف فجزاؤه
القتل، فهؤلاء المساكين نفوا جميعًا إلى القتل إن لم يكن قتل الجزاء عند الرجوع،
فالموت ملاقيهم بالتعب مع العري والجوع.
ألا يعجب القارئ إذا رأى أن برونو يحرق بالنار حيًّا بعد حبس طويل سنة
١٦٠٠ لأنه قال بقول الصوفية في وحدة الوجود وقال: إن هذا العالم يحتوي على
عوالم كثيرة. الحمد لله رب العالمين.
ظهر القول بكروية الأرض - ذلك الأمر الذي عرفه المسلمون وصار رأيًا لهم
في أول خلافة بني العباس ولم تتحرك له شعرة في بدن - فأحدث اضطرابًا شديدًا
في عالم النصرانية ولا يسع هذا المقال ما وقع من الحوادث في شأنه.
هل يصدق القارئ أن ما قصده كريستوف كولمب من السفر في المحيط
الأطلانطيقي لعله يكتشف أرضًا جديدة كان من الأمور التي اهتمت لها الكنيسة
وحكم مجمع سلامانك بأنه مخالف لأصول الدين، ثم أعيد النظر فيه وعرض على
أقوال الآباء من كريزيستوم وأوغستين وجيروم وغريغوار وبازيل وإنبراوز
وعلى رسائل الرسل والأناجيل والنبوات والزبور والأسفار الخمسة ولم ينتج هذا
العرض شيئًا، ولكن ساعده على ما قصد بعض الملوك رغم الكنيسة كما هو معلوم،
قال كريستوف كولمب بأن الذي أوحى إليه هذا القصد النبيل هي كتب ابن رشد،
من هنا نفهم لِمَ قامت له الكنيسة وقعدت؟
ما أشد تمسك الكنيسة بهذا الأصل الجليل (السلطة للقسوس والطاعة على
العامة) كل رأي لم يصدر عن ذلك المصدر الديني الذي يربط ويحل في الأرض
والسماء فهو باطل تجب مقاومته بكل ما يستطاع، لهذا حكم على غاليلي الذي ذهب
إلى أن حركة الكواكب هي على النظام المعروف عند الفلكيين اليوم.
* * *
مقاومة الكنيسة للحقن تحت الجلد: هل تدري ماذا حصل من المقاومة
لإدخال الحقن تحت الجلد بمادة المرض؟ اكتشف هذه الطريقة الطبية عند المسلمين
في الأستانة ثم نقلتها إلى أوروبا امرأة تسمى ماري مونتاجو سنة ١٧٢١ فقامت
قيامة القسوس وعارضوا في استعمالها واحتيج في تعضيدها إلى التماس المساعدة
من ملك إنكلترا، وعادت هذه الشدة في المعارضة عندما اكتشفت طريقة تطعيم
الجدري.
* * *
مقاومة تسهيل الولادة: أي مقاومة لم يلاقها اكتشاف تخدير المرأة عند
الولادة حتى لا تحس بألم الطلق، اكتشاف أميركاني رأت حضرات القسوس فيه أنه
يخلص المرأة من تلك اللعنة أو تلك العقوبة التي سجلت عليها في سفر التكوين؛ إذ
جاء في الإصحاح الثالث منه: (وقال للمرأة تكثيرًا أكثر أتعاب حملك بالوجع تلدين
أولادًا) .
* * *
مقاومة السلطة المدنية وحرية الاعتقاد: نشر البابا منشورًا في سنة ١٨٦٤
جاء فيه لعن كل من يقول بجواز خضوع الكنيسة لسلطة مدنية أو جواز أن يفسر
أحد شيئًا من الكتب المقدسة على خلاف ما ترى الكنيسة أو يعتقد بأن الشخص حر
فيما يعتقد ويدين به ربه، وفي منشور له سنة ١٨٦٨ أن المؤمنين يجب عليهم أن
يفدوا نفوذ الكنيسة بأرواحهم وأموالهم، وعليهم أن ينزلوا لها عن آرائهم وأفكارهم
ودعا الروم الأرثوذكس والبروتسانت إلى الخضوع للكنيسة الرومانية على هذه
الوجه.
في سنة ١٨٧١ كان النزاع بين حكومة بروسيا والبابا في عزل أستاذ في
إحدى الكليات رأى رأيًا لا يروق للحزب الكاثوليكي فحرمة البابا وطلب من
الحكومة عزله وكانت إحدى المعضلات السياسية غير أن عزيمة بسمارك نصرت
مدنية القرن التاسع عشر على سلطان الكنيسة وأبقت الأستاذ وجعلت التعليم تحت
السلطة المدنية.
* * *
مقاومة الجمعيات العلمية والكتب: لا أذكر الجمعيات العلمية (الأكادميات)
التي ألغيت والاجتماعات التي عطلت لا لشيء كان فيها سوى هداية البشر إلى
منافعهم وتنوير بصائرهم بكشف ما احتجب عنهم من سر الخليقة بالبحث النظري
ومن الطريق العقلي من غير استشارة المسيطر الإلهي وهو الكنيسة، ولكن أذكر
شيئًا واحدًا وهو أن الكردينال أكسيمنيس أحرق في غرناطة ثمانية آلاف كتاب بخط
القلم فيها كثير من ترجمة الكتب المعول عليها عند علماء أوربا لذلك العهد.
* * *
(البروتستانت أو الإصلاح)
ربما يقول قائل: إن هذا الذي ذكرت هو عمل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية
ولكن قد قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة
ويبيحون لعامة أهل الدين أن ينظروا فيها ويفهموها وقد رفعوا تلك السيطرة عن
الضمائر والعقول، ومن عهد ظهور الإصلاح والرجوع إلى أصول الدين الأولى
بزغت شمس العلم بالمغرب وبسط للعلم بساط التسامح، وذلك لا يمكن أن يكون إلا
جريًا مع طبيعة الدين.
لا أذكر في الجواب عن ذلك إلا ما ذكر البروتستانت أنفسهم في تاريخ
الإصلاح: استمرت عقوبة الموت قانونًا يحكم به على كل من يخالف معتقد الطائفة
وقد أمر كلفان [١] بإحراق سيرفيت في جنيف؛ لأنه كان يعتقد أن الدين المسيحي كان
قد دخل عليه شيء من الابتداع قبل مجمع نيقة، وكان يقول: إن روح القدس
ينعش الطبيعة بأسرها، فكان جزاؤه على هذا أن شوي على النار حتى مات وهكذا
أحرق فايتي في تموز سنة ١٦٢٩.
كان لوتير أشد الناس إنكارًا على من ينظر في فلسفة أرسطو وكان ذلك
المصلح يلقب هذا الفيلسوف بالخنزير الدنس الكذاب، ونحو ذلك من الألقاب التي لا
بأس بها إذا صدرت من أهل الغيرة على الدين في طريق الدفاع عنه! ! وكان
كلفان أقل شتمًا للفيلسوف من لوتير لكنه لم يكن أحسن ظنًا به ولا أوسع صدرًا لمن
يطلع على شيء من كتبه، وكان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف (المعلم
الأول) فتأمل الفرق بين الفريقين! !
قالوا: البرتستانت قاموا يطالبون بالحرية في فهم الكتب المقدسة وبإبطال
السلطة على غفران الذنوب والتجارة ببيع الثواب والسعادة الأخروية وإبطال عبادة
الصور، ولكنهم لم يغيروا شيئًا من الاعتقاد بأن الكتب المقدسة هي نبراس الهداية في
طريق العلم البشري كما أنها منبع نور الإيمان بالدين الإلهي، وأنه لا يباح للعقل أن
ينساق في نظره إلى ما يخالف شيئًا مما حوته وأنه لا حاجة إلى شيء من العلم
وراء ما ورد فيها، وبالجملة إنهم لم يبطلوا أصلاً من الأصول الستة التي تقدمت إلا
أنهم قالوا بمنع غلو الرؤساء في سلطتهم المبنية على الأصل الثاني في سابق قولنا.
قالوا: ولهذا لم يكن مذهب الإصلاح أخف وطأة على العلم ولا أفضل معاملة
له من الكاثوليك؛ لأن كلا المذهبين يرجع إلى طبيعة واحدة (وهي القائمة على
الأصول الستة) ولم يكن لأهل النظر العقلي جزاء في كلا الملتين إلا القتل وسفك
الدم.
لو كنت ممن يحب الجدال في الدين لعددت فيما ذكرته من عناصر الدين
المسيحي ما تضمنه قول بعض الناقدين عند الكلام على الحروب المسيحية
واضطهادات الكنيسة (ما أهون الدم على من يمثل في عبادته أكل الدم وعلى من
يعتقد أن خلاص العالم الإنساني من الخطيئة إنما كان بسفك الدم البريء على يد
المعتدي الأثيم) لكني في بحثي هذا لا أريد أن أستعمل قوة الخيال، ولا أن أذكر ما
يعد من قبيل الجدال، وإنما آتي بما هو حكاية حال، ليس للناظر فيها مقال.
* * *
(الفصل بين السلطتين في المسيحية)
بقي علينا الكلام فيما جعلته الجامعة أساسًا للفصل بين السلطتين الدينية
والملكية وبه كانت طبيعة الدين المسيحي أدعى إلى التسامح مع العلم في نظرها،
لو سلمنا أن في تلك العبارة معنى الفصل كما قالت الجامعة، وقال كثير غيرها ممن
أرادوا مقاومة السلطة الدينية فماذا يفيد الفصل إذا كان دين الملك نفسه يقضي عليه
بمعاداة العلم؟ أفلا يغلب اعتقاد الملك وما يملك نفسه مما فيه نجاته الروحية على
مطالب الملك؟ وكم من ملك جعل مصالح مملكته قربانًا لسلطان عقيدته، هب أن
مصالح الملك تكون دائمًا أغلب على النفس من حكم العقيدة وقاهر الإيمان والوجدان
وقد أقام الدين سلطتين منفصلتين: إحداهما تحل وتربط في الأرض وفي السماء فيما
هو من خاصة الدين والأخرى تحل وتربط في الأرض فيما هو من خصائص الدنيا،
أفلا يكون هذا الفصل قاضيًا بتنازع السلطتين وطلب كل واحدة منهما التغلب على
الأخرى فيمن تحت رعايتهما معًا؟ وهل يسهل على السلطة الدينية أن تدع رعاياها
تتصرف في أبدانهم وأموالهم بل وفي عقولهم أيدي الملوك بما تقتضيه مصالح الملك
الفاني إذا كان ذلك التصرف مخالفًا لما جاء في كنز المعارف وهو الكتب السماوية
وتأويل الرؤساء الروحيين وسنتهم فإذا همت هذه السلطة بالمعارضة أفتصبر
الأخرى؟ هذا هو الذي وقع في العالم المسيحي منذ ظهرت سلطة الدين.
كيف يتسنى للسلطة المدنية أن تتغلب على السلطة الدينية وتقف بها عند حدها
والسلطة الدينية إنما تستمد حكمها من الله ثم تمد نفوذها بتلك القوة إلى أعماق قلوب
الناس وتديرها كيف تشاء والملك لا قوة له إلا بأولئك الناس المغلوبين للسلطة
الدينية؟ لا يتأتى للملك أن يغالب تلك القوة إلا بعد أن يتناول من الوسائل ما لا يعد
لإضعاف سلطتها، نعم هذا الفصل يسهل التسامح لو كانت الأبدان يحكمها الملك
يمكنها أن تأتي أعمالها على حدة مستقلة عن الأرواح التي تحيا بها والأرواح كذلك
تأتي أعمالها بدون الأبدان التي تحمل قواها.
ثم هل هذا هو معنى قول الإنجيل؟ القصة على ما جاء في الإنجيل أن بعض
المرائين أراد أن يتسقط المسيح ليأخذ عليه ما ينم به فسأله: أيجوز أن نعطي جزية
لقيصر؟ فأجاب لم تجربوني ائتوني بدينار لأنظر إليه، فأتوه بدينار فقال: لمن
هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له لقيصر، فقال: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله
فمعناه الظاهر من سياق القصة أن صاحب السكة التي تتعاملون بها إذا ضرب
عليكم أن تدفعوا منها شيئًا فادفعوه له، أما قلوبكم وعقولكم وجميع ما هو من الله
وعليه طابع صنعته فلا تعطوا منه لقيصر شيئًا، والعلم ليس مما عليه طابع قيصر
بل عليه طابع الله، فلا يمكن أن يكون العلم تحت سلطة غير السلطة الروحانية
الدينية، فأي تسامح مع العلم في هذا.
* * *
(اعتقاد المسلمين في المسيح والمسيحية)
هذا الذي عرضناه من طبيعة الدين المسيحي وأوردناه من مشاربه فيما بعد
نشأته وما وقع من حوادث مع طلاب العلم ورواد المعارف في كل زمن إلى ما
يقرب من أيامنا هذه كل ذلك مأخوذة من تاريخهم الذي كتبوه عن أنفسهم ومن
نصوص كتبهم الدينية التي يتوكأون عليها فيما ذكرنا من سيرتم وأعمالهم.
أما رأيي ورأي أهل العقيدة الصحيحة من المسلمين في المسيح عليه السلام
ودينه فهو على غير ما رآه القارئ، إنا نعتقد أن المسيح روح الله وكلمته ورسوله
إلى بني إسرائيل بُعِثَ مصدقًا لما بين يديه من التوراة وجاءهم من الدين بما فيه هدى
لهم ورشاد في شئون معاشهم ومعادهم ولم يطالبهم بتعطيل قوة من قواهم التي وهبهم
الله تعالى إياها بل طالبهم بشكر الله تعالى عليها ولا يشكر حق الشكر إلا باستعمالها
جميعها فيما أعدها الله له.
والعقل من أجل القوى بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها والكون جميعه هو
صحيفته التي ينظر فيها وكتابه الذي يتلوه، وكل ما يقرأ فيه فهو هداية إلى الله وسبيل
للوصول إليه، وكل ما صح عندنا عن السيد المسيح لا يخالف شيء منه هذا الذي
نعتقد، فإن صح عنه شيء يكون في ظاهره مخالفة لهذه الأصول أمكننا تأويله حتى
يرجع معناه إليها أووكلنا الأمر فيه إلى الله وقلنا (لا علم لنا إلا ما علمتنا) ؟
الدين دين الله وهو دين واحد في الأولين والآخرين لا تختلف إلا صوره
ومظاهره، وأما روحه وحقيقة ما طولب به العالمون أجمعون على ألسن الأنبياء
والمرسلين فهو لا يتغير - إيمان بالله وحده وإخلاص له في العبادة ومعاونة الناس
بعضهم لبعض في الخير وكف أذاهم بعضهم عن بعض ما قدروا، وهذا لا ينافي
الارتقاء في الدين بارتقاء عقول البشر واستعدادهم لكمال الهداية، ونعتقد أن دين
الإسلام جاء ليجمع البشر كلهم على هذه الأصول، ومن أهم وظائفه إزالة الخلاف
الواقع بين أهل الكتاب ودعوتهم إلى الاتفاق والإخاء والمودة والائتلاف وهذا ما
عمل عليه المسلمون قرنًا بعد قرن بحسب قوة تمسكهم بالإسلام.
فإذا سأل سائل بماذا كان ذلك الذي قدمت فيما سبق هو اعتراف فضلاء
الأوربيين أنفسهم في منافاة طبيعة الدين للعلم واشتداده في معاداته فما هذا الانقلاب
الذي حصل في أوربا، وما هذا التسامح الذي يتمتع به العلم اليوم في أقطارها؟
فجوابه في الكلام على الأمر الرابع مما ذكرت الجامعة، وهو يكون بعد عرض
طبيعة الدين الإسلامي وما يليق أن يكون له مع العلم وما انجر إليه الحال بمقتضى
تلك الطبيعة، وما عرض عليها مما سترها وحال بينها وبين أثرها في أخريات
الأيام؟ وسنوجز القول فيه كما أوجزناه فيما مضى.
((يتبع بمقال تالٍ))