للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول


كان يا ما كان
ذكرى تمثل إعراض الناس عن أسباب سعادتهم، وضعها في سمط الأساطير
الخرافية التي كان يعتقدها قدماء اليونان المرحوم عالي بك أحد مشاهير كُتاب
الأتراك، فهي جد في قالب هزل، وموعظة في ثوب فكاهة، وقد نقلناها عن
ترجمة الكاتب البارع عمر خيري أفندي زغلول بتصرف كثير وهي:
سنح في خاطر (جوبيتر) الذي كان أكبر المعبودات عند اليونانيين الأولين
أن يجعل الناس كلهم سعداء، ويفيض عليهم الخيرات والبركات، فكاشف بما في
ضميره مستشاريه (نبتون) إله البحر و (بلوطون) إله الجنة، فأظهرا الدهشة
والإعجاب، واستهزآ بفكر مولاهما، ونسباه في أنفسهما إلى أفِن الرأي وسوء
التدبير.
ولقد كان هذا المعبود لا يتوانى في تنفيذ ما يعن له من الخواطر، ولا يتقاعد
عن إخراج مقاصده من القول إلى الفعل، وإن كانت من المستحيلات العادية تفكر
مليًا في هذا الأمر، ثم وجه نظره إلى السماء وحدّق إلى الكواكب السبعة السيارة؛
فتراءى له أن يعهد إليها بتنفيذ إرادته، فأمرها بالاجتماع في مكان واحد، فاجتمعت
فلما رأى أهل الأرض السيارات مجتمعات أخذتهم الحيرة، وشخصوا بأبصارهم إلى
السماء ذاهلين، وطفق المنجمون يخرصون ويخدعون الناس بأن هذا الاجتماع
المدهش علامة على قيام الساعة. ولما اجتمعت السيارات عند المعبود الأكبر دارت
بينهن وبينه هذه المحاورة.
السيارات: ها نحن أولاء قد جئناك - يا مولانا - فمُرنا بما تريد.
جوبيتر: عليكن بتجهيز أنفسكن للسفر، فقد اقتضت إرادتي أن تذهبن
إلى السياحة على سطح الأرض، فقد جعلت لكل منكن دينارًا للنفقة في كل
يوم.
السيارات: ما هو العمل الذي انتُدِبنا له، والخدمة التي سنؤديها؟
جوبيتر: قد ارتأيت أن أجعل الناس ناعمي البال، رافِلين في حُلل السعادة
والهناء، ورأيت من الصواب أن أبيعهم أسباب السعادة بيعًا؛ لأنني إذا أنعمت بها
عليهم إنعامًا بغير مقابل يستهينون بها؛ إذ لا يعرفون قيمتها، ولا يقدرونها حق
قدرها.
السيارات: سمعنا وأطعنا، فما هي بضاعتنا التي سنبيعها؟
جوبيتر: قفن أمامي صفًا، ثم امررن واحدة واحدة.
فامتثلن أمره ولما مرّت الأولى قال لها: أنتِ تبيعين (الذكاء والفَطانة) ، وقال
للثانية: وأنتِ تبيعين (العفة والاستقامة) ، وقال للثالثة: وأنتِ تبيعين (الصحة
والعافية) ، وللرابعة: وأنتِ تبيعين (طول العمر) ، وللخامسة: (الشرف والجاه) ،
وللسادسة: (الصفاء والمسرة) ، وللسابعة: (النقود والثروة) .
هذه الأشياء هي أسباب السعادة، ولا تتم للناس السعادة التي يطلبونها من
معبوداتهم في صلاتهم ومناجاتهم إلا بها، فعليكن - أيتها السيارات - بالجد
والاجتهاد في بيعها منهم؛ ليتمتعوا بالسعادة التي يطلبونها، وينجون من الشقاء
المحدق بهم، الذاهب بهنائهم ورفاهتهم. ولقد كان المعبود الأكبر يُشرف على
السيارات بالأمر والإرشاد، ويَدُلُّهن على طرق السعادة، والمعبودان (نبتون) ،
و (بلوطون) يستهزآن بهذا الرأي المأفون، ويقولان بلسان الاستغراب: إن هذا لشيء
عُجاب، وبعد أن تجهزت السيارات للرحلة الأرضية، وأحضرن بضاعتهن
السماوية في صناديق بديعة الصنع محكمة الوضع، هبطن إلى العوالم السفلية،
فكان نزولهن في عاصمة من عواصم الممالك الشرقية، فطفقت السيارة الأولى تنادي
بأعلى صوتها في الأسواق والشوارع (ذكاء وفطانة للبيع، ذكاء وفطانة طرية عال
هل من راغب، هل من مريد؟!) فأقبل الناس إليه يزفون، من كل حدب ينسلون
فاختلفت فيها الأقوال لاختلاف الوجدان والانفعال، فقال أصحاب الجرائد والمؤرخون
ومؤلفو الروايات والممثلون: هل جُنَّّت هذه الفتاة، أم غلبت على بائعة الفطانة بلادة
الحيوانات؟ ! وقال الشبان - الذين شاهدوا جمالها الرائع -: بئس المبيع وحبذا
البائع؛ فتاة حسناء، وغادة هيفاء، لكننا نغازلها باللحاظ، فلا تدير إلينا طرفًا،
ونناديها بأرق الألفاظ فلا نسمع منها حرفًا، فالظاهر أنها مملوءة بالتعصب،
وذلك مما يوجب التأسف والتعجب، وقالت النساء: لا شك أن هذه الفتاة مختلة
الشعور؛ حيث جاءت بهذه البضاعة التي تكسد في كل مكان وتبور، ولولا نقص
عقلها لعلمت أننا لا حاجة لنا بالذكاء والفطانة، ولا بالعقل والرصانة، فإن عندنا
الأنسجة الحريرية، والحلي الذهبية والجوهرية، وهل تستلفت الفتاة أنظار الشبان
بالفطنة وذكاء الجَنان، أم بالحرير ذي اللمعان والألماس واللؤلؤ والمرجان؟!
وقد أجمعت الآراء على أن تلك السيارة ستموت جوعًا إذا بقيت في تلك
العاصمة؛ لأنه لا يوجد فيها من يرغب في بضاعتها، وبعدما ملت من الجولان،
وتعبت منها القدمان، رأت بابًا مفتوحًا وعليها أمرة (يفطة) أميرية، مكتوب عليها
(نِظَارة المعارف العمومية) ، فقالت: ما أحوج أهل هذه الصناعة إلى ما عندي من
البضاعة، فههنا يحصل الرواج، وأُقابَل بالترحاب والابتهاج، ودخلت الباب مع
الداخلين، وترددت فيه ذات الشمال وذات اليمين، وأنشأت تنادي بصوت يقرع
جميع الآذان، ويستلفت كل ذي جَنان، فأثار نداؤها غضب الرئيس والأعضاء،
وقالوا: ما لنا وللفطانة وللذكاء! ، ثم قرروا - باتفاق الآراء - طرد السيارة من
تلك البطحاء، وصدر أمر الرئيس للحُجَّاب، الذين يقفون خارج الباب، بأن يمنعوا
بائعي الأشياء التي لا تنبغي للمجلس من الدخول، وأنه لا عذر لهم - في إدخالها -
مقبول، فخرجت السيارة تمشي على استحياء، يتنازعها عاملا اليأس والرجاء، ثم
رأت من الحزم تغليب عامل الأمل؛ لأنه لا ينجح بدونه عمل، وقالت: بالصبر
تَنفق السلع الخسيسة، فكيف لا تروج البضاعة النفيسة؟ ! ، ثم مضت في تطوافها
وتجوالها حتى انتهت إلى بناء كبير، قد اجتمع عنده خلق كثير، أخلاط من الوجهاء
والغوغاء، علت لهم جَلَبَة وضوضاء، فصاروا يتخاطبون بالإشارة، حيث لا تُفهم
العبارة، فقالت: لا شك أن هؤلاء الناس قد استحوذ عليهم الخبل والوسواس، فهم
لهذه البلادة والبلاهة في أشد الحاجة إلى الذكاء والفطنة والنباهة، فخاضت غمار
القوم، رافعة صوتها بالسوم، فلم يسمع أحد كلامها، ولا أُجيبت على سوامها،
حتى مرّ بالقرب منها رجلان في يد أحدهما نمط صغير (شنطة) ، ومع الآخر قلم
ودفتر يكتب فيه أرقامًا، فقالت لهما السيارة: هل لكما رغبة في الذكاء والفطانة؟ ،
فتوهم الرجلان أن الذكاء والفطانة نوعان من السهام المالية، قد أُنشئت لهما شركة
مساهمة حديثة، فانصرفا ولم يستوضحا منها عما تقول، وعلمت هي أن ذلك المكان
هو (البورصة) ، فاستأنفت النداء والسوم، فمر بها أحد الدلاَّلين وجرت بينهما هذه
المحاورة، (الدّلال) : ما هي بضاعتك؟ (السيارة) : الذكاء والفطانة،
(الدلال) : ذكاء ... فطانة ... ، (السيارة) : ألا تدري ما هو الذكاء والفطانة؟
(الدلال) : لا، ولكن قد بلغني عنهما شيء، وأذكر أنني سمعت هذين اللفظين من
قِبَل، (السيارة) : إذن خُذْ لك منهما شيئًا ولو يسيرًا، (الدلال) : هل هما من
السهام المقبولة في البورصة؟ (السيارة) : لا، (الدلال) : إذا لم يكونا مقبولين
في البورصة، فلأي شيء جئت بهما إلى هنا.
وبعد انتهاء الحديث، نُمِّي خبرها إلى الشرطة (البوليس) ، فأُلقي عليها
القبض؛ لإقدامها على بيع سهام غير مقبولة في البورصة، ولكن رئيس الشرطة
(القومسير) كان دمث الأخلاق رقيق الجانب، فعذر السيارة بجهلها، وعدم وقوفها
على طباع أهل تلك المدينة، فلم يعاملها بما يوجبه النظام من السجن والتغريم،
واكتفى بطردها وإبعادها عن تلك العاصمة؛ فرجعت أدراجها راضية من الغنيمة
بالإياب!
(سيأتي خبر بقية السيارات)
((يتبع بمقال تالٍ))