(٨) الحديث مع سكرتير الجنرال غورو مكثت مع موسيو روبير دوكيه ساعةً وأربعين دقيقةً، وقد افتتح الكلام بالثناء عليَّ بقوله: إنه بلغه أنني مِن أشهر علماء الإسلام في هذا العصر، ومن الخطباء المؤثرين، والكُتاب ... فتلطَّفت في الشكر، والتنصُّل، ونقل الحديث إلى الموضوع، فشرعت أولاً في مقدماتٍ اجتماعيةٍ، تتألف منها أقيسة منطقية، تُفهَم مِن سياق الكلام، وإن لم تُذكر بأسلوب تأليف المُنتَج مِن الأشكال، وأذكر المهم مِن ذلك بالاختصار، قلت: (١) أن للقوى الأدبية تأثيرًا في البشر لا تُغني عنه القوى المادية، كما يرشد إليه قول المسيح عليه السلام: (ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان) ؛ ولذلك تجتهد الدول والأمم العليمة بطبائع الاجتماع في إعلان فضائلها، وتبذل في ذلك مالاً كثيرًا بوسائلَ كثيرةٍ، كما تجتهد في الدفاع عن نفسها إذا وصفت بشيءٍ مِن الرذائل، ولو بحقٍّ، وقد استفادت هذه الدول والأمم فوائدَ عظيمةً بإقناع الكثير مِن الناس بأنها هي المقيمة لأركان العدل والحرية والمساواة بين الناس، والقائمة بأمر تحرير الشعوب المظلومة من الظلم، والاضطهاد خدمة للإنسانية، ولكن هذه الحرب الأخيرة قد هدمت - منذ عقد الهدنة إلى اليوم - ما بَنَتْه هذه الأمم، ودولها في قرنٍ، بل في قرنين، ولا سيما إنكلترة، وفرنسة اللتين ملأتا الدنيا دعوى وفخرًا مدة أربع سنين بأنهما حاربتا لتحرير الأمم، والشعوب المظلومة، وأنهما لا يبغيان فتحًا ولا جرَّ مغنمٍ، ولا تحكيم القوة العسكرية في بلدٍ ولا شعبٍ، بل القضاء على القوة العسكرية إلخ، فلما انتهت الحرب بظفرهما طفقتا تقتسمان جميع ما تقدران على الاستيلاء عليه بالقوة حتى بلاد حلفائهما، وأصدقائهما باعترافهما إلخ. (٢) إن الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثته الحرب في الشرق قد نفخ في جميع الشعوب روح الشعور بحقها في الحرية؛ حتى حفَّزَها لطلب استقلالها بكل ما يملك مِن الوسائل، وهذا الشعور إذا دبَّ في الشعوب يتعذر معه دوام استعبادها، كما جربت دول أوربة في شعوبها، فإذا لم تقدر الدول الاستعمارية هذا الانقلاب حق قدره، وتجاري طبيعة العمران بترك سيطرة القوة؛ فإنها ستلاقي عقابًا كبيرةً يتعسر أو يتعذر عليها اقتحامها، ومشاكل عظيمة يصعب حلها إلخ. (٣) إن أوربة قد هدمت ما كان لها مِن حسن الصيت والمكانة الأدبية في الشرق بما فعلته في هذه الحرب، وبعد الحرب، فلم يبقَ فيه أحد يصدق للأوربيين قولاً، أو يحسن بهم ظنًّا، أو يراهم للفضل أو العدل أهلاً، بل صار العوام متفقين مع الخواص على أن المدنية الأوربية ماديةٌ محضةٌ، لا يبالي أهلها بغير التمتع بالشهوات، والتحكم في استعباد الضعفاء، وأنه لا يصد دولها عن الظلم، والعدوان، وتخريب العمران إلا الضعف، والعجز، وأن كل ما يتبجَّحون به من دعوى العدل، والمساواة، والحرية، والإنسانية - إفكٌ وتزويرٌ، ورياءٌ وتغريرٌ، وقد صار أشد الناس نفورًا مِن الترك في سورية يفضلونهم عليكم عن اعتقاد، حتى إن بعض التجار وغيرهم من الناس - الذين لا يحفلون بالسياسة - يسألونني سؤال بحثٍ على الحقيقة: لماذا كنا نعتقد أن الإفرنج أرقى من الترك، وأعدل وأرحم وأبعد عن التعصب الديني والمحاباة، مع أن الأمر بالضد كما تبين لنا الآن، وكنت أجيبهم ببيان الفرق بين الإدارة في بلاد الدول، وفي مستعمراتها، وبيان حالة سورية الخاصة في هذا الوقت ... (٤) إن السوريين - وإن اختلفت أديانهم، ومذاهبهم وتربيتهم، وبعد بالاستقلال التام عهدهم - لا يرضون بأن يكونوا تحت سيادة أجنبية عنهم، أما الأكثرون منهم - وهم المسلمون - فإنهم لم يكونوا يشعرون في عهد الترك بأنهم خاضعون لسلطةٍ أجنبيةٍ إلا في السنين الأخيرة التي ظهرت فيها العصبية الجنسية التركية، وأما النصارى فجُلهم في لبنان، الذي كان مستقلاًّ في إدارته، ولم يكن في حكومته غير واحدٍ أو اثنين مِن الترك في مركز المتصرفية، وكان ما يكلفون من الواجبات في الولايات أخف مما يكلف المسلمون، وقد كان الذين يعلقون آمالهم فيكم منهم يظنون أنكم ستؤسسون لهم ملكًا مسيحيًّا مستقلاًّ، تلتزمون فيه حمايتهم من الخارج، وتتركون لهم السيادة والسلطان في الداخل، فبدا لهم منكم ما لم يكونوا يحتسبون مِن السيطرة التامة العامة في جميع أنحاء لبنان، وثقل الضرائب المالية، فبدءوا يتحولون عنكم، حتى إن أحد أهل الاختبار مِن أنصاركم قال لي: لو خير موارنة لبنان أنفسهم بين فرنسة والترك لفضَّل ثمانون في المئة منهم الترك! . وسترون مِن السوريين ما لم يكن يخطر في بالكم مِن الجهاد في سبيل الاستقلال في مشارق الأرض ومغاربها. (٥) إن الأسماء الجديدة التي يخترعها المستعمرون آنًا بعد آنٍ - لتلطيف وقْع سيطرتهم على الشعوب - لم تعد تخدع شعبًا مهما يكن جاهلاً، فكيف ينخدع بها الشعب السوري الذي لا يخفى على زعمائه، ولا على أدبائه شيءٌ مِن أمور العالم وناهيك بالأسماء، والأقوال التي تنقضها الأفعال كأفعالكم، وأفعال حلفائكم الإنكليز باسم الانتداب لمساعدة السوريين على النهوض بأمر استقلالهم المقرر في عهد عصبة الأمم، فإنكما قبل أن يتم الصلح بينكما وبين أصحاب البلاد بحسب القانون الدولي وهم الترك، وقبل أن يتقرر الانتداب المتوقف على هذا الصلح - تتصرفون في البلاد تصرف المالك للأعيان الموروثة، وقد زدتم على تصرف الإنكليز في سورية الجنوبية أنكم رفعتم عَلمكم على المعاهد الرسمية في ولاية بيروت، ومتصرفية لبنان، واستبدلتم بطوابع البريد المؤقتة طوابع حكومتكم، وهو ما لم تفعلوه في تونس، وجعلتم لغتكم رسمية (هذا وما فكيف لو) . (٦) إن المعروف لدى جمهور الباحثين مِن الفرق بين الاستعمار الفرنسي والبريطاني أن جُل فائدة فرنسا منه اقتصادية، وأما الإنكليز فلهم وراء المنافع الاقتصادية مقاصد أخرى دينية وسياسية، هي عندهم أهم مِن المنافع المالية، فهم يطمعون في تنصير المسلمين، وجعْلهم إنجيليين، حتى إن رئيس وزارتهم قد استهوته نشوة السرور بفتح القدس، فصرح في مجلس الأمة بأن هذه آخر حرب صليبية، وهو ما كانوا يكتمونه مِن قبل، فلا عجب بعد هذا إذا أظهرت جميع كنائسهم الابتهاج بهذا الفتح الصليبي الديني، ثم إنهم يطمعون في سيادة العالم كله، ويظنون أنهم قد صاروا على مقربةٍ من الوصول إلى هذه الغاية، ومن مبادئ ذلك إتمام تأسيس الإمبراطورية الإفريقية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية، وجعْل الإمبراطورية الآسيوية مِن حدود الصين إلى البحر الأحمر الذين يرون أنه قد صار بحرًا بريطانيًّا صرفًا، وناهيك بما تقاسونه - قبل كل أحدٍ - مِن احتلالهم للقسطنطينية، وللسيطرة على البحر الأسود مع البحر الأبيض الذي لهم فيه السيادة العليا، ولا تطمع فرنسة بشيءٍ مِن ذلك. لأجل هذه المطامع يخاف المسلمون من الإنكليز على دينهم - كما يشهد عليهم فيلسوفهم ومؤرخهم الكبير غوستاف لوبون، وملكهم - ما لا يخافون مِن الفرنسيس، وإن كانوا أشد منهم وطأةً في الاستعمار، ثم إن فرنسة قد خسرت في هذه الحرب مِن الرجال والأموال ما لم تخسر مثله إنكلترة، وخرب قسمٌ عظيمٌ مِن بلادها، وهبطت الثقة بماليتها، ولم تشاركها إنكلترة في هاتين المصيبتين، ففرنسة إذًا أجدر من إنكلترة بالشعور بالحاجة إلى عطف الشعوب عليها، وحصرهما في إصلاح ماليتها، وتوفير مواردها، وتعمير بلادها، والتوسل إلى ذلك باستعادة مكانتها الأدبية في العالم، وإن استيلاءها على سورية، واستعمارها إياها ينافي ذلك كله؛ فإنه يحمِّلها نفقات كثيرة، ويجعل العالم العربي كله خصمًا لها، وهي في غِنًى عن ذلك بما نقترحه عليها. (٧) قلت: إن الشعوب الشرقية قد استيقظت مِن رقدتها الاجتماعية، وتذكرت أنها أمةٌ، حقها أن تكون حرةً لا أَمَةً، وفي مقدمتها الأمة العربية ذات التاريخ المجيد مِن طريفٍ وتليدٍ، وزعماء هذه الأمة يقدرون ارتقاء النظام الاجتماعي، والاقتصادي، والفنون العملية في أوربة قدرها، ويودون أن يقتبسوا لبلادهم ما تحتاج إليها منها، ويرون أنه لا بد لهم مِن الاستعانة بأمةٍ مِن الأمم الغربية الراقية في العلوم، والفنون، ولكنهم ينفرون مِن كل دولةٍ لها مطامع استعمارية في بلادهم، ويفضلون غيرها عليها، وإن لم تعتدِ على استقلالهم، ولا أفضل عندهم مِن الأمة التي تعترف حكومتها لهم باستقلالهم وحريتهم، فهم يخطبون ودَّها ويكافئونها على صداقتها لهم بكل ما يبلغه حولهم وقوتهم من المنافع الاقتصادية، والأدبية، فيفضلون تجارتها، ولغتها، وفنونها، وصناعتها على غيرها ويضمنون لها أن تنتفع منهم بالصداقة، أضعاف ما ترجو بالعدوان الموجب للعداوة، بل يبثُّون الدعوة لجعْلها صديقة الشرق، والعالم الإسلامي كله، فالشعوب العربية عامةً، والشعب السوري خاصةً مِن أقدر الشعوب على بثِّ هذه الدعوة، وعلى ما يقابلها، ويضادّها؛ لما لهم في أنفسهم وفي بلادهم المقدسة مِن المزايا. وإنني كنت قد عرضت هذه الصداقة على الدولة البريطانية بمذكرة أرسلتها إلى رئيس وزرائها (مستر لويد جورج) ، ذكَّرته فيها بما يهدد دولتهم مِن الأخطار، وعداوة شعوب الشرق والغرب، ولا سيما العالم الإسلامي الذي حاولوا هدم ما بقي مِن بناء استقلاله، وصرحت لهم بأنهم إذا كانوا لا يحفلون بعداوة أمة يتجاوز عدد نفوسها ثلاثمائة مليون - وهي المالكة لجُل الشرق الأدنى، والأوسط بسبب ضعفها - فليعلموا أنها لن تكون أضعف مِن ميكروبات الأمراض، والأوبئة التي تفتك بالأقوياء، وبأن صداقة هذه الأمة لا يمكن أن تُنال بمثل السياسة التي سلكوها في المسألة العربية، وإنما السبيل إليها واحدة، وهي الاعتراف بالاستقلال المطلق للشعوب الإسلامية الكبرى: العرب، والترك، والفرس، ولم أنسَ تخصيص مصر بالذكر، وإن كانت عندي من الأمة العربية، وبينت له أن دولتهم إن فعلت ذلك بإخلاص فإنها تدرأ عن نفسها أخطار الشرق، وتربح منه أضعاف ما تطمع فيه بالعبث باستقلال شعوبه، ومحاولة وضعها تحت سيطرتها إلى آخر ما فصَّلته في تلك المذكرة، ولكن لويد جورج لا يزال ثملاً بخمرة الظفر بالدولة الألمانية، والاستعلاء على جميع الدول الأوربية، ويتوهم أنه قادر على حل جميع المشكلات بأخاديع الوعود، ونُذُر الوعيد، وضروب التغرير، وبدر الدنانير، (وأن صيحة مصر لا تزيد على صرخة طفلٍ، وثورة العراق لا تعدو ثوران هِرٍّ، وأن هيجة الهند كهيجة دعد وهند، وغضبة الأفغان كغضبة فيروز ومَرجان) . وغرضي الآن أن أعرض على فرنسة ما عرضته على إنكلترة قبلها، فهي أجدر بقبوله لانتفاء المانع، وثبوت المقتضي اللذين ذكرناهما آنفًا، وليس من المصلحة أن يعارضه الاستمساك باستعمار هذه الحصة التي أعطيتموها مِن سورية باسم الانتداب على ما فيها مِن المُنَغِّصات والمشكلات، فإذا طبتم نفسًا باستقلالها أمكنكم أن تعترفوا باستقلال جميع هذه الشعوب الشرقية، وفي مقدمتها العرب والترك وأن تبنوا ذلك على ما كنتم تصرحون به منذ أُوقدت نار الحرب إلى أن أطفئت مِن الرغبة عن الفتح والاستعمار إلى جعْل الظفر في الحرب قاضيًا على الاستيلاء والاستعلاء بالقوة، ووسيلة إلى حرية الشعوب، وإعطائها حق تقرير مصيرها، واختيار شكل حكومتها وإدارتها، وحينئذٍ تنفردون بالسلطة الأدبية في العالم كله التي حاول الدكتور ويلسون أن يجعلها لأمته، فباء بالخيبة والخسار بعد أن كان منها قاب قوسين أو أدنى، وأنا أضمن لكم إجماع الأحزاب السورية على أن يكون ربحكم المادي والأدبي مِن سورية باختيارها فوق ما تمنون به أنفسكم بقوة احتلالكم إياها. ثم إننا دخلنا باب المناقشة في الموضوع بعد أن قال موسيو روبير دوكيه: إن هذا مشروع عملي قابل للتنفيذ، وليس خياليًّا، ولكنه يفتقر إلى بحثٍ دقيقٍ بين العقلاء مِن الفريقين (السوريين والفرنسيس) فإن الإسراع في تنفيذه - ولا سيما جلاء الجيش عاجلاً كما تطلبون - يعقب مشاكلَ كثيرةً، ربما تأتي بخلاف المراد. وليس لي أن أنقل في هذه الرحلة كل ما قاله؛ فإن مِن الأصول المتبعة عند الكُتَّاب أن يستأذنوا في نشر أمثال هذه المسائل مَن ينقلون عنهم آراءهم فيها، ولا سيما إذا كان لهم صفةٌ رسميةٌ تلحقها تبعة ومسئولية، وحسبي مِن تصريحه هذه الكلمة المجملة منه، وهو أن استقلال سورية أمرٌ يمكن تنفيذه، واعتراف فرنسة به باتفاقٍ يضعه العقلاء مِن الفريقين، وقد صرحت له بأن القطع في هذا الأمر مِن جانب الفرنسيس لا تملكه إلا حكومتهم العليا في باريس، فما على مندوبهم السامي في سورية ورجاله إلا أن يمحصوه، ثم يرفعوه إلى حكومتهم العليا، وإذا كان مثل موسيو روبير دوكيه يقول باسمه، واسم الجنرال غورو - الذي هو أمين سره - إن هذا المشروع حقيقي لا خيالي فأجدر بمثل موسيو بوانكاره وموسيو مليران أن يقتنعوا به إذا حاول إقناعهم به مَن هم أهلٌ لذلك، ولكن البحث في تمحيص المسألة وقف عند ذلك الحديث، فلم يهتم أحدٌ مِن كبراء أهل بيروت، ولا من غيرهم أن يعيدوا الكرَّة، فيبحثوا مع الجنرال غورو في المسألة فيما أعلم، على أنني حدثت كل مَن رأيته أهلاً للوقوف على ذلك فيه فسُرَّ به، وقدَّره قدْره على تفاوت الأفكار في اليأس منه والرجاء فيه. وأما عذري في تلك العودة إلى البحث في ذلك فهو أنني لما عدت مِن بيروت إلى دمشق اشتغلت مع سائر أعضاء المؤتمر، وغيرهم مِن الأحزاب السياسية في شأن إعلان استقلال البلاد السورية، ووضع القانون الأساسي لحكومتها. وفي أثناء ذلك وقعت المشادّة والمحادّة بين الملك فيصل والجنرال غورو، حتى انتهى ذلك بزحف الثاني بجنده على دمشق، وإخراج الأول منها، ثم عدت إلى مصر في أول فرصة أمكنني فيها السفر كما أذكر بعد، على أن فرنسة شرعت - بعد ذلك - في عقد اتفاق بينها وبين حكومة أنقرة التركية، فتركت للترك كليكية وجزءًا مِن ولاية حلب السورية، وتوسلت بذلك إلى بث الدعوة بأنها صديقة الإسلام، ونصيرة الخلافة الإسلامية. (للرحلة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))