للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

(س ١٢ - ١٧) أسئلة من الأستاذ صاحب الإمضاء في سمادون (المنوفية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله ومَن
تبعه بإحسان إلى يوم الدين: من طالب الإرشاد صاحب الإمضاء إلى حضرة
صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا محرر المنار، سلام عليكم، أما بعد:
فأرجو الإفادة التامة الموضحة بالأدلة القطعية على الأسئلة الآتية، لا زلتم
محط رحال السائلين، وناطقًا بالصواب ومُعْليًا شأن الإسلام والمسلمين.
ونص الأسئلة هو: (١) ما سبب التعارض الواقع في كتب المذاهب الأربعة
عند الكلام على تعدد الجمعة من حيث جوازه ومنعه؟ ، فمثلاً رُوي في كتب
الشافعية أن مذهب الإمام الذي نص عليه هو منع التعدد مطلقًا، وقول بالجواز
مطلقًا. ولم أَرَ الأخير إلا في كتابٍ صغيرٍ اسمه (مرقاة الصعود) للشيخ نووي،
مع خلو الكتب الواسعة منه، وهي أقوال ظاهرة التناقض. وقد ورد في كتب
المالكية أن للإمام مالك قولاً واحدًا وهو المنع، ثم إذا قرأت في كتبهم تجد ما
يقتضي قولهم بجواز التعدد بشرط الحاجة، ثم بالجواز المطلق. ومثل ذلك في كتب
الحنبلية وفي كتب الحنفية أن للإمام ثلاثة أقوال ويذكرون القول بالمنع، وروايتين
في الجواز إنما يفيدان الجواز بشرط الحاجة، ثم يذكرون القول بالجواز المطلق،
وأن عليه الإمام السرخسي الحنفي وأتباعه ... هل ذلك التضارب وقع من نفس أئمة
المذاهب؟ وعليه فما تأويله؟ أو وقع من المقلدين وعليه فما سببه؟ ، وفي أي
عصر وقع؟ وما عين الصواب في المسألة وما وجهه وما دليله؟ .
(٢) هل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة أو سنة أو بدعة؟ وإذا قلتم بالثاني
أو بالأول فما دليله الصريح من الكتاب أو السنة، وهل يقبل في العبادات ما يحتمل
أن يكون دليلاً، وهل عمل السلفِ الصالحِ - أهلِ القرون الثلاثة الأولى المشهود
لهم بالخيرية، والمأمورين نحن باتباع سنة الرسول وسنتهم - بهذه الصلاة أو ثبت
أن أحدًا منهم أو من الأئمة المجتهدين كان يصليها بعد صلاته الجمعة، وهل صلاها
الإمام الشافعي ولو مرة؟ وإذا قلتم بالثالث فمَن اخترعها، ولأي سببٍ، وفي أي
عصرٍ، وهل يُعمل بقوله، ويحمل الناس خصوصًا العوام على فعلها، واعتقاد
وجوبها أو سُنّيتها وهل إذا رد حنفي على شافعي بأن هذه الصلاة بدعة اخترعها
بعض المتأخرين عندما اعتورهم الشك في صحة الجمعة، وأن في فعلها والقول بها
إفسادًا لعقيدة العوام؛ إذ هم يعتقدون فرضيتها وتعدد الفرض في اليوم؟ وهل يصح
من الشافعي أن يقول: إن مذهبنا غير مذهبكم، ولا يُرد بمذهب على مذهب، وهل
لقوله هذا دليل من القواعد الأصولية المتفق عليها أو من الكتاب أو السنة؟
(٣ و ٤) هل المصلحة اليوم في العمل باعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ
واحدًا كما هو طريقة رسول الله، وأبي بكر وعمر في أول خلافته، أو العمل
باعتباره ثلاثًا كما أمضاه عمر - للتخلص من المحلل والحيل التي يعملها فقهاء
البلاد من اعتبار العقد الأول باطلاً بالنسبة لمذهب الشافعي وتجديد العقد عليه، أو
من اعتبار مجرد العقد على غير الزوج كافيًا في التحليل بدون ذوق عُسيلته، أو
من اعتبار مجرد الخلوة بزوجٍ صغيرٍ لم يبلغ الحُلُم، وبيات المرأة عنده ليلةً أو
أكثر تحليلاً. وما قيمة تلك الحيل من الصحة والفساد. وما جزاء فاعلها شرعًا
وقانونًا؟
(٥و٦) هل شرع الطلاق لغير حل عقدة النكاح عند اليأس من التوفيق بين
الزوجين بعد التحكيم، حتى أصبح الرجل في حلٍّ من أن يطلق امرأته بأقل سببٍ
وبدونه من غير تحكيم؟ وهل ينعقد اليمين بغير الله تعالى، أو اسم من أسمائه أو
صفة من صفات ذاته؟ حتى أصبح الطلاق، وأيمان المسلمين، ورسول الله،
والنبي، وديني وذمتي وغير ذلك - أيمانًا مغلظةً يحنث الحالف بها إن لم يبر
بالمحلوف عليه، وهل كان ذلك معروفًا عند أهل القرون الثلاثة الأولى، وما معنى
حديث: (مَن حلف بغير الله فقد عظَّمه، ومن عظَّم غير الله فقد كفر) وما
مقتضاه؟
(٧) ما معنى: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا
بالتقوى) ، و (المسلمون متكافئون في الحقوق) وغير ذلك من أحاديث الرسول
مع اعتبار الفقهاء الكفاءة في النكاح في الحسب والنسب والحرفة والثروة أمرًا
ضروريًا يطلبه الدين، مع ظهور التضاد؛ إذ أحد الطرفين يقول بالمساواة، وعدم
الامتياز إلا بالتقوى، والطرف الآخر يقول بالتفريق بين بعض الناس، وبعضٍ في
غير التقوى.
(٨) وما هو المقياس الذي قِيسَتْ به الحِرَف حتى حُكم على بعضها بالخسة،
وبعضها بالشرف مع كونها لا بد منها جميعًا، بل ربما كانت الحرفة التي نقول
بخستها ألزم من حرفة نقول بشرفها، وما سبب الحديث القائل: (كسب الحَجَّام
خبيث) مع كوْنه ينفر الناس من تعاطي صناعة الحجامة، وهذا ربما يستلزم
إبطالها مع شدة الحاجة إليها، مع أن في حديث آخر ما يقتضي تعاطيها، وهو:
(لو كان في شيءٍ مما يتداوى به الناس خير لكان في شرطة مِحْجم) إلخ.
(٩، ١٠) هل في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ
رُدُّوهَا} (النساء: ٨٦) نص صريح على حل أنواع التحية من: نهارك سعيد،
وليلتك سعيدة، وغير ذلك، أو هناك حديث صحيح بيَّن المراد من الآية، ويمنع
غير (السلام عليكم) ، وعليه فما هو؟ ، وهل يرد السلام على مَنِ ابتدأ به من
غير المسلمين؟ .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طالب الإرشاد
... ... ... ... ... ... ... ... محمد مقبول حلاوه
الجواب عن المسألتين المتعلِّقتين بتعدد الجمعة وصلاة الظهر معها:
الخلاف بين المذاهب في هذه المسألة كغيره من الخلاف والتعارض في
المسائل الاجتهادية، وأسبابه معروفة، وقد ألف بعضهم فيها رسائل خاصة، ولا
نرى من حاجة إلى ذكر جميع مسائل الخلاف في الجمعة، ودلائل المختلفين أو
تعليلاتهم، وشبهاتهم، وأشخاصهم؛ لأنها إضاعة للوقت فيما لا يتعلق به عمل،
وليس فيها أدلة قطعية؛ إذ لا خلاف في القطعي، وإنما بُني الخلاف على أمر متفق
عليه، وهو أن عدم التعدد مطلوب شرعًا إذا تيسر، وإنما المفيد هو الجواب عن
المسألة الثانية وهي: هل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة، أم سنة، أو بدعة؟ .
والجواب عنها أنها بدعة؛ لأنها مما حدث بعد الصدر الأول، ولم يرد بها
نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع من الصحابة، وهو الإجماع الذي يُعتَد به
في المسائل الدينية دون سواه، ولا هي مما يثبت بالقياس؛ لأنها من المسائل
التعبُّدية الموقوفة على النص؛ إذ لو جاز أن تثبت العبادات بظنون المجتهدين
واقيستهم لما صح أن يكون قد أكمل الله الدين على لسان رسوله، ولكن إكمال الدين
ثابت في محكم القرآن وبالإجماع، ولجاز أن تتجدد في الدين عبادات كثيرة يكون
المتعبدون بها أكمل دينًا من الرسول وأصحابه، وذلك مما يعلم بطلانه بضرورة
الدين، ولكن القائل بوجوب صلاة الظهر أو سُنِّيتها بالشرط الذي أداه إليه اجتهاده
معذور في اجتهاده إذا لم يدعُ أحدًا إلى تقليده فيه، ومثل هذا التقليد لم يدعُ إليه،
ولم يقل به أحد من الأئمة المجتهدين، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من الصحابة أو علماء
السلف المجتهدين صلى الظهر بعد الجمعة، وقد جاء الشافعي بغداد وفيها عدة
مساجد، ولم يُنقل أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة، ولو فعل لم يكن فعله شرعًا
يُتبع.
وقد فصلنا القول في المسألة في المجلدين السابع والثامن، فليراجعها الأستاذ
السائل، وإن وجد بعد مراجعتها حاجة إلى سؤال آخر مفيد في المسألة فله ذلك.
الجواب عن مسألة الطلاق الثلاث باللفظ الواحد:
لا يمتري أحد من المختبرين لحالة المسلمين في هذا العصر - ولا سيما في
مثل هذه البلاد - في أن مفاسد إمضاء وقوع الطلاق الثلاث باللفظ الواحد قد كثرت،
وأن عدم إمضائه والعمل فيه بما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومدة خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر - هو أصلح مما جروا عليه في آخر
خلافة عمر، وإن ما كان يقصد إليه عمر من منع الناس به من طلاق البدعة،
ومخالفة السنة إن كان قد أفاد في عصره فامتنع الناس كلهم أو جُلهم من ذلك الطلاق-
فالأمر في هذا الزمان على خلاف ذلك؛ إذ عمَّت البدع، وجهلت السنن، وكثر
خراب البيوت وفسادها بكثرة الطلاق، وتحليل المطلقات، واستغلال المرتزقين
بالفتوى والتحليل ووكالة الدعاوى والقضاء لجهل الناس بتحليل ما يعتقدون تحريمه
بالحيل الباطلة.
الجواب عن مسألة الحيل وتحليل المطلقات وأمثاله:
وأما هذه الحيل التي يسمونها شرعية فلو كانت مشروعة في دين الله بإطلاقٍ
لكان الشرع هادمًا لنفسه، وجميع الحقوق والحدود فيه أمورًا صورية يمكن لكل أحد
التفصِّي منها، والتمتع بالمفاسد التي وردت النصوص القطعية بحظرها، والإغراء
بالفسق والفجور وأكل أموال الناس بالباطل وبالكفر أيضًا، فإن من هذه الحيل أن
ترتد المرأة عن الإسلام ليفسخ نكاحها، وأن تمكن المرأة ابن زوجها من نفسها
لينفسخ نكاحها، وتحرم عليه أبدًا، وأن يسكر مريد الزنا، ثم يزني ليسلم من الحد
بناءً على قول مَن يقول: إن السكران لا يؤاخَذ - إن كان متعديًا - بسُكره، وأن
يهَب المكلف بالزكاة أو الحج ماله الذي ثبت به ذلك عليه لامرأته أو ولده قبيل
انتهاء حول الزكاة أو خروج ركب الحج، ثم يسترده بعد ذلك، وأمثال هذه المفاسد
كثيرة، ولما ظهرت في بلاد الإسلام، وعلم بها بعض الأئمة الأعلام، قالوا: إن
مَنْ أفتى بها فقد قلب الإسلام ظهرًا لبطنٍ، ونقض دين الله عُروةً عروةً، بل
صرحوا بأن الذي يقول بذلك أو يرضى به يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة.
وقد صح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب الناس على مِنبر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (لا أُوتَى بمحلل ولا محلل له إلا
رجمتهما) ، وقد أقره سائر الصحابة على ذلك، فلم يخالفه فيه أحد كما خالفه ابن
عباس وغيره في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد. والروايات عن
الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار في بطلان هذه الحيل كثيرة. وقد استقصى
المحقق ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) دلائل بطلان الحيل، وما احتج به
المجوزون لها مع الرد عليهم وإبطال شبهاتهم.
وأظهر أسباب هذا الفساد في الأمة (التقليد) الذي مقتضاه اتباع العلماء في
كل آرائهم وظنونهم الاجتهادية، والاجتهاد كله ظنون، وبعض الظن إثم، وليس
أحد منهم معصومًا في اجتهاده، بل لكل عالِم زلاَّت، حتى إن إجماع المجتهدين بعد
الصحابة لم يقم دليل قطعي على أنه حجة، فهو غير مجمَع عليه، وقد خالف
جمهور أئمة الفقه كثيرًا من علماء الصحابة والتابعين، فقاعدة التقليد التي عليها
المنتمون إلى المذاهب - وهو أنه يجب على كل مُنتمٍ إلى مذهب أن يعمل بكل ما
اعتمده المؤلفون فيه - بدعة لم يقل بها إمام مجتهد قط، بل حرَّمها جميع
الأئمة، أي أثبتوا تحريم الله لها، ولكن المقلدين يخالفونهم في أصول مذاهبهم وهم
لا يشعرون.
هذا، وإن من الأحكام - التي تدخل في عموم الحيل - ما هو صحيح، وما
لا يخل بمدلول نصوص الشرع، ولا ينقض حكمته فيه ومراده من درء المفاسد
وحفظ المصالح، وقد جعل ابن القيم الحيل قسمين: محرمة وجائزة، فالأولى أن
تكون الحيلة نفسها محرمة، والمقصود بها محرمًا، أو تكون مباحة ويقصد بها
المحرم، والثانية أن تكون الوسيلة مشروعة والمقصود بها مشروعًا، وقد سرد
أمثلة كثيرة لكل قسم منهما، ولعلنا نعود إلى تلخيص ذلك في مقالة أو مقالات؛ فإنه
مما يحتاج إليه كل مَن يحب أن يكون على بصيرة من دينه.
وما ذكره السائل من الحيل المألوفة في تحليل المطلقة كله باطل، فأما اعتبار
العقد الأول باطلاً على قول بعض الفقهاء، الذين يشترطون في صحة العقد ما لا
يشترطه غيرهم، كاشتراط الشافعي الولي العدل والشهود العدول، وجعل الطلاق
غير واقع لانتفاء الزوجية فهو مفسدة ظاهرة؛ فإن الزوجين يلزمهما ما التزما من
العقد، وما يترتب عليه بعد العمل بمقتضاه مع اعتقاد صحته وهو المعاشرة
الزوجية واستحلال البضع، حتى إذا فُرض أنهما كانا قد تعاقدا على مذهب قام
الدليل عندهما على صحته، ثم تغير اعتقادهما، فإن هذا التغيير لا يؤثر بعد انتهاء
العمل، فلا يجب على مَن كان يمسح بعض رأسه في الوضوء أن يعيد كل صلاة
صلاها إذا صار يعتقد أن مسح جميع الرأس واجب، بل يجب أن يعمل بهذا
الاعتقاد بعد ظهور ترجيحه له، والمسائل المدنية أولى بالنفاذ، والمضي على
الصحة بالتزامها والعمل بها لما يترتب على عدم الالتزام من المفاسد المتعلقة
بالنسب والإرث وغير ذلك، وقد صرح بعض العلماء المحققين بأن العمل ببعض
المسائل المختلف فيها وحكم الحاكم بها - يرفعان الخلاف حتى كأنه لم يكن، ولا
يتسع هذا الموضع للتطويل بالاستدلال ونقل الشواهد على ما ذُكر.
وأما التحليل بمجرد العقد أو الخلوة بزوج صغير لم يبلغ الحلم فهو مخالف
لنصوص الكتاب والسنة المثبتة بأن التي طُلقت ثلاث مرات لا تحل للأول حتى
تنكح زوجًا غيره نكاحًا صحيحًا عن رغبة، وهو لا يتحقق إلا بذوق العُسيلة، وقد
أطال شيخا الإسلام ابن تيمية في كتاب (إبطال التحليل) ، وابن القيم في (إعلام
الموقعين) - في بيان ذلك ودفع شبهات المشتبهين وتأويلات المحتالين، ويستحق
أولئك المحللون التعزير، ولكن أين مَن يفعله؟ !
الجواب عن مسألة الطلاق قبل التحكيم:
إنما شُرع الطلاق مع عدِّه مكروهًا شرعًا ومبغضًا من الله عز وجل؛ لأجل
حل عقدة الزوجية إذا تعذر أو تعسر على الزوجين إقامة حدود الله تعالى في
الزوجية بأن يقع بينهما من التباغُض والشقاق ما لا يستطيعان عليه صبرًا. وإرادة
الإصلاح والاستعانة عليها بتحكيم حَكَم من أهله وحكم من أهلها - مما شرعه الله
تعالى بنص كتابه، ولكن ليس في هذا النص ولا في غيره دليل على توقف صحة
الطلاق على تقديم التحكيم عليه واليأس من الإصلاح به، وأما ما جرى عليه الناس
في مثل هذه البلاد المصرية من الإسراف في الطلاق، وبنائه على أوهى الأسباب-
فهو مما يبغضه الله ويكرهه شرعه، وينبغي لحكام المسلمين اتخاذ الوسائل
لتلافيه؛ سدًّا لذرائع الفساد فيه.
الجواب عن مسألة الحلف بغير الله:
لا يجوز في الإسلام الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته، وقد نقل الحافظ ابن
عبد البر الإجماع على ذلك، وقال بعض العلماء: إن عدم الجواز فيه يشمل التحريم
والكراهة، وقد فصلنا القول في هذه المسألة من قبل، فراجعه في تفسير آية
الإيمان من أواخر سورة المائدة (ص ٣٣ - ٤٨، ج٧ تفسير) وفي المنار.
وأما الحديث الذي ذكره السائل فقد رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي
وحسنه، والحاكم، وصححه من حديث ابن عمر بلفظ: (مَن حلف بغير الله فقد
كفر) ، وفي رواية أحمد: (فقد أشرك) . ولا أذكر له رواية باللفظ الذي أورده،
فإن لم تكن الزيادة التي ذكرها مروية فهي تفسير؛ إذ المراد على وجهٍ أن مَن
يحلف بغير الله؛ لأنه يعظمه كما يعظم الله، ويتدين بالحلف به ويلتزم البر تعظيمًا
له كما كانوا يحلفون بالأصنام وبالكعبة - فقد كفر، وأوَّله بعض العلماء تأويلاً آخر.
الجواب عن مسألة التفاضل بالتقوى ومعارضته بكفاءة النكاح:
لا شك في أن الإسلام قد أبطل ما جرى عليه كثير من الأمم من تفضيل بعض
الناس على بعض بأنسابهم، أو حصر بعض المناصب الدينية أو المدنية فيهم، أو
بقوتهم وثروتهم، وقرر أن الناس إنما يتفاضلون بالعمل الصالح المعبَّر عنه بتقوى
الله تعالى، كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ،
وبالإيمان والعلم، كما قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١) ولا يتعارض هذا مع الكفاءة في الزواج؛ لأن مسألة الكفاءة
من المسائل التي فيها عرفُ الناس طرقَ عيشتهم وعلائق التوادّ، والتحاب
بالمصاهرة بينهم، فإذا حكم بأن الرجل الفقير ليس كفُؤًا للمرأة الغنية فليس معنى
ذلك أنها أفضل عند الله منه أو أحق بالتكريم من الناس، بل معناه أنه لا يستطيع
أن يقوم بنفقتها بما تعودت من أساليب المعيشة في طعامها ولباسها، وأن هذا قد
يعود بالضرر والعار على أهلها، فكان لهم أن يعارضوا في تزوجها به، يقال مثل
ذلك في انتفاء الكفاءة بين الطبقات الدنيا من الصُّنَّّّاع والعمال وبين بيوت الشرف
والإمارة، فإن كان في هذا شيءٌ منتقَد فالذنب فيه على الرأي العام، والعرف
المحكم بينهم، وقد فصلنا القول في ذلك بمقال كتبناه بمناسبة تزوج الشيخ علي
يوسف (رحمه الله) ببنت السيد عبد الخالق السادات، وفسخ القاضي العقد بدعوى
عدم الكفاءة. وقد نشرت تلك المقالة في الجزء العاشر من مجلد المنار السابع،
ومما بيناه فيها أن المسألة اجتهادية، وليست من أصول الشريعة المنصوصة في
الكتاب والسنة، وأن العبرة فيها بالتعيير الذي يُخشى أن يكون سببًا للشقاق في
الأسرة، فإذا رضيت المرأة وأولياؤها بأن تتزوج بمَن لا يعد كفُؤًا لها في العرف -
صح ذلك. فكيف تعد هذه المسألة الاجتهادية العرفية معارِضة لأصل ثابت
بنصوص الكتاب والسنة؟ !
الجواب عن مسألة الحرف الخسيسة والشريفة وكَسْب الحَجَّام:
إن حاجة الناس إلى جميع الحرف لم يمنع اتفاقهم في كل زمان ومكان على
أن بعضها شريف، وبعضها دنيء أو خسيس، فلا يوجد أحد من البشر يسوِّي بين
ربان السفينة ووقَّاد النار فيها، ولا يجعل الكُناسة والكُساحة بمنزلة الطبابة أو
الصحافة، وإن من حِكَم الله في خلق البشر متفاوتين في الاستعداد العقلي والنفسي-
أن يقوم كل فريق منهم بما يحتاج إليه المجموع من العلوم والأعمال؛ ولذلك
اختلف العلماء في الجمع بين حديث: (كسب الحجام خبيث) ، وقرنه بمهر البغي
وثمن الكلب، وهو في صحيح مسلم والسنن الثلاث - وبين مدحه (صلى الله عليه
وسلم) للحجامة، وحثه عليها وإعطائه الحجام أجرة حجمه له. ففي حديث أنس
المتفق عليه أنه (صلى الله عليه وسلم) احتجم، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين
من طعام، وكلم مواليه، فخففوا عنه. وكذلك حديث ابن عباس المتفق عليه قال:
(احتجم النبي (صلى الله عليه وسلم) وأعطى الحجام أجره، ولو كان سُحتًا لم
يعطه) . وفي لفظ للبخاري في البيوع: (ولو كان حرامًا لم يعطه) ، وفي لفظ له
في الإجارة: (ولو علم كراهية لم يعطه) . وجمهور المسلمين من السلف والخلف
على أن كسب الحجام حلال، وأجابوا عن حديث مسلم المذكور آنفًا، وما في معناه
بأجوبة: (منها) أن الحجامة مكروهة كراهة تنزيه لدناءتها في العرف، وخص
الكراهة بعضهم - ومنهم الإمام أحمد - بالأحرار دون العبيد، (ومنها) أن النهي
عن احترافها، وكسبها منسوخ، ورجحه الطحاوي الحنفي، (ومنها) أنها مما
يجب من إعانة المرء لأخيه، فيكره أخذ أجر عليها؛ لأنه ينافي المروءة، قاله ابن
الجوزي الحنبلي، (ومنها) أن محل الجواز إذا كانت الأجرة على عمل معلوم،
ومحل الزجر إذا كان مجهولاً، قاله ابن العربي المالكي.
الجواب عن مسائل التحية والسلام بدءًا وردًّا:
بينا في تفسير الآية أن لفظ (التحية) فيها على إطلاقه يصدق بكل ما يحيي
الناس به بعضهم بعضًا. وإن ما ورد في التحية بلفظ السلام، وكونه تحية الإسلام
ليس في شيء منه ما يدل على تقييد الإطلاق في الآية، ولا سيما الرد، وإنما
غايته أنه يستحب تفضيله على غيره من التحيات، ولا سيما تحيات غيرنا؛ إذ
الإسلام يرفعنا عن دركة الأمم التابعة إلى درجة الأئمة المتبوعين، وإن السلام على
غير المسلمين بدءًا وردًّا مشروع أيضًا، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافًا بينًا، تحقيق
الحق فيه من قبل في فتوى نُشرت في مجلد المنار الخامس، وذكرناها في تفسير
آيه التحية المشار إليها آنفًا، ومما أوردناه فيها دليلاً لذلك حديث: أبي أمامة عند
الطبراني، والبيهقي: (إن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا، وأمانًا لأهل
ذمتنا) ولكن سنده ضعيف، وحديث الصحيحين: (وأن تقرأ السلام على مَن
عرفتَ، ومَن لم تعرف) فراجع التفصيل في جزء التفسير الرابع، أو في المجلد
الرابع عشر من المنار (ص ٤٩٥ - ٥٠٠)
***
منع الحج هل يجوز لأحد؟
(س ١٨) من صاحب الإمضاء (المكي) بمصر
أيها السيد الرشيد:
ما قولكم - دام فضلكم - في السؤال الآتي: هل يجوز لأي مسلمٍ منْع مسلمٍ
من أداء فريضةٍ من فرائض الإسلام في أي مكانٍ كان، وفي أي ظرفٍ كان؟
أفيدونا بالجواب في مجلتكم المنار الأغرّ أنار الله بها المسلمين، وهداهم، وأثابكم
بأحسن الأعمال خيرًا عظيمًا.
(ج) قد علمنا من السائل أنه يريد بسؤاله منع ملك الحجاز حسين بن علي
للترك، وأهل نجد من أداء فريضة الحج لما بينه وبين الفريقين من العداوة
السياسية.
والجواب عن هذا من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، وهو أنه لا
يجوز لأحدٍ منع أحد من إقامة دينه، وأداء فرائضه، ومَن استحل ذلك فحكمه معلوم
بالضرورة، لا خلاف فيه بين المسلمين في كفره، ونحن لا نعتقد أن ملك الحجاز
يستحل هذا العمل مطلقًا، ولكنه يعذر نفسه بأن في دخول أعدائه الحجاز خطرًا
على ملكه، ويقال إنه يأذن للنجديين في دخول الحجاز لأجل الحج عزلاً، وهم لا
يأمنون على أنفسهم من انتقامه إذا لم يكونوا مستعدين للدفاع عن أنفسهم في بلاده،
ولم يبلغْنا من غير السائل أنه يمنع أفراد الترك من الحج، أو لا يظن أنه يخاف
منهم تضرُّرًا؛ إذ ليس في استطاعتهم أن يؤذوه إلا بالكلام، وإزالة هذا الأذى في
إِبَّانه، وأخذه بربانه هنالك من أيسر الأمور عليه لكثرة جواسيسه في البلاد، على
أن السياسة لا تقف عند حدود الدين؛ ولذلك بيَّنَّا في المنار أن الحجاز يجب أن
يكون على الحياد، لا يحارب أحدًا، ولا يحاربه أحدٌ، ولا يصح أن يكون دار ملك
يُعادِي ويُعادَى، ويُقاتِل ويُقاتَل؛ لأن ذلك يفضي إلى منع كثيرٍ من المسلمين من
إقامة ركن من أهم أركان دينهم، وإذا لم يسعَ المسلمون إلى تأمين حرم الله تعالى،
وتمكين كل مسلم من أداء فريضة الحج - إذا أرادها - يكونون آثمين كلهم، نعم،
إن الذي يجب عليه هذا قبل كل أحد هو إمام المسلمين وخليفتهم، ولكن ليس لهم في
هذا الزمن إمام مُطاع، والذي يعترف له أكثر المسلمين بالخلافة واقع تحت سيطرة
بعض الدول غير المسلمة؛ ولذلك أفتى بعض علماء الهند والقوقاس بسقوط
فريضة الحج في هذه الأيام، معللين ذلك بخروج الحرمين من سلطة الإسلام،
ووقوعها تحت سيطرة غير المسلمين، وسنبيّن ما في فتواهم من الخطأ في جزء
آخر، وقد أذاع بعض الأجانب - الذين اتخذوا ملك الحجاز عدوًّا لهم - أن بلاد
الحجاز غير آمنة، وأن حكومتها تصادر الحجاج، والحق أن الحجاز في أمن تام،
وأن الملك حُسينًا يُعنَى بأمر الأمن كل العناية، وما تأخذه حكومة الحجاز من
الرسوم لنفسها، وما سمحت به من زيادة أجور الجِمَال التي تنقل الحجاج - كل
ذلك مما يسهل احتماله، وهي لا تصادر - فيما نعلم - إلا النقود الفضية العثمانية،
فمَن كان لا يملك غيرها، ويلحقه غُبن بيعها بأقل من ثمنها فربما يعد غير مستطيع
للحج في هذه الحال.