للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الراتبة القَبلية للجمعة
القياس في العبادات، والتردد في نية الصلاة
ومن صلى غير ما نوى [*]

(س٢٢-٢٤)
رفع أستاذ من المدارس العليا أسئلة أو (سؤالاً ذا شعب) إلى العلماء كافة
وخصني بالذكر مع ثلاثة منهم فأقول سائلاً من الله تعالى أن يلهمني الصواب،
ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب:
(نص السؤال الأول) :
هل ثبت من طريق شرعي- غير ما رواه ابن ماجه وقد ضعَّفه وجرَّحه أهل
الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الجمعة ركعتين أو أربعًا بنية سنة
الجمعة أو أمر بذلك أو أقره؟
(الجواب) يعني السائل بحديث ابن ماجه ما رواه عن ابن عباس رضي الله
عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعًا لا يفصل في
شيء منهن) . وفي إسناده مبشر بن عبيد كذاب وَضَّاع؛ بل قال صاحب الزوائد:
إسناده مسلسل بالضعفاء: عطية متفق على ضعفه وحجاج مدلس ومبشر بن عبيد
كذاب وبقية بن الوليد مدلس ا. هـ أقول: وقد عَنْعَن كل من الحجاج وبقية وكذا
مبشر فالحديث موضوع، وقال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل.
وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث أمثل من حديث ابن ماجه ولكنها ضعيفة
(منها) حديث أبي هريرة عن البزار: كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا.
ومثلها عن علي رواه الأثرم وقال: إنه وَاهٍ والطبراني في الأوسط، وروى
الطبراني مثله عن أبي مسعود وفي إسناده ضعف وانقطاع، والصواب أنه موقوف
كما رواه عبد الرزاق. ومثله عن ابن سعد عن صفية زوج النبي صلى الله عليه
وسلم وهو موقوف أيضًا. أفاد ذلك كله الحافظ ابن حجر. ولم نطَّلِع في كتب السنة
ولا فيما احتج به من قال بأن للجمعة سنة قبلية على حديث صحيح صريح في ذلك؛
بل الثابت الذي لا خلاف فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته
إلى المسجد إذا زالت الشمس فيؤذن بين يديه فيخطب فيصلي بالناس فريضة الجمعة
فينصرف إلى بيته فيصلي فيه ركعتين.
ولكن ورد أحاديث في الصحاح وغيرها استدل بها القائلون بسنية الصلاة قبل
الجمعة ورد عليهم المانعون استدلالهم (منها) ما رواه أبو داود وابن حبان من
طريق أيوب عن نافع قال: (كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي
بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) .
قال الحافظ: احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها.
وتُعُقِّبَ بأن قوله: (كان يفعل ذلك) عائد على قوله: ويصلي بعد الجمعة ركعتين
في بيته. ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة
انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع
ذلك. أخرجه مسلم، وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإن كان المراد بعد
دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا
زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإذا كان المراد قبل دخول الوقت
فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل
مطلق، وقد ورد الترغيب فيه اهـ.
أقول: وروى أحمد عن عطاء الخراساني عن نبيشة الهذلي عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي
أحدًا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع
حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه - إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أرجو أن
تكون كفارة للجمعة التي تليها) .
وعطاء الخراساني فيه خلاف وثَّقه بعضهم وضعَّفه البخاري، وذكر بإسناد له
عن سعيد بن المسيب أنه قال: كذب عليَّ عطاء ما حدثته هكذا، وقال ابن حبان:
كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به. وهو لم يسمع من نبيشة بل
قال الطبراني: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس. على أن الحديث
كما يتبادر من لفظه في النفل المطلق ولا خلاف في جوازه قبل الصلاة.
وظاهره منع تحية المسجد إذا كان الإمام قد خرج وهو معارض بحديث:
(إذا جاء أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله وفي رواية: (إذا جاء أحدكم والإمام
يخطب - أو قد خرج - فليصل ركعتين) وسببه ما رواه الجماعة عنه قال:
(دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال (صليتَ؟)
قال: لا. قال (فصل ركعتين) وهو مُفَصَّل في رواية أخرى، وقد حقَّق الجمهور أن
هاتين الركعتين هما ركعتا تحية المسجد، ولو كانت سنة قبلية للجمعة لأمر الناس كلهم
بها قبل الخطبة التي كان يبتدر المنبر بها عند الزوال.
وروى الجماعة كلهم (أحمد والشيخان وأصحاب السنن) عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. ولم يذكر قبلها
شيئًا، وورد في معناه أحاديث أخرى، وروى الجماعة ما عدا البخاري من حديث
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل
بعدها أربع ركعات) وفي رواية لمسلم: (من كان منكم مُصَلِّيًا بعد الجمعة فليصل
أربعًا) وهو لفظ أبي داود والترمذي، ولكن لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم
صلى بعدها أربعًا ولا قبلها شيئًا.
(ومنها) ما استدلوا به من عموم ما ورد في الرواتب. قال الحافظ: وأقوى
ما يُتَمَسَّكُ به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة ما صحَّحه ابن حبان من حديث عبد
الله بن الزبير مرفوعًا (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) ومثله
حديث عبد الله بن مغفل (بين كل أذانين صلاة ... لمن شاء) ا. هـ أقول: وقد
رواه الجماعة كلهم، والمراد بالأذانين الأذان والإقامة. والمانعون يقولون: إن هذا
العموم مخصوص بغير الجمعة؛ إذ ثبت - بل تواتر بالعمل الإجماعي - أنه ليس
بين آذانها وإقامتها إلا الخطبة- ولا يعارضه ما صح من صلاة ركعتي تحية المسجد
في وقت الخطبة - وهذا أقوى من تخصيص بعضهم له بغير صلاة المغرب؛ لما ورد
من أنهم لم يكونوا يصلون بين آذانها وإقامتها شيئًا بل كانوا يشرعون في الصلاة في
أثناء الأذان، ولما ورد من حديث بريدة عند البزار من استثناء صلاة المغرب في مثل
حديث عبد الله بن مغفل مع أن هذا ضعيف، وما قبله معارَض بما روي من صلاة
بعضهم لها في الصحيح.
السؤال الثاني:
أيصح القياس في تشريع الصلوات فنصلي سنة قبلية للجمعة قياسًا على
الظهر أو نصلي قبلية للعيد قياسًا على الجمعة؟
(ج) الأصل في القياس الصحيح أن يكون فيما لا نص فيه من كتاب ولا
سنة، وهو ما ورد النص على علته مع نفي الفارق فيما يشاركه في العلة،
والأصل في جميع الأحكام التعبدية أن تثبت بالنص، ولولا ذلك لم يثبت إكمال
الدين ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أكمل المؤمنين دينًا وعبادة،
وكل منهما قطعي. وهذا أساس مذهب الإمام مالك كما بينه الشاطبي في الاعتصام
(يراجع ص ١٢٣ من الجزء الثاني) وقد فصَّلنا هذه المسألة في المنار مرارًا وفي
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: ١٠١) من جزء التفسير السابع، وفيه تفصيل لمسألة القياس الصحيح
والباطل. والتحقيق أنه لا يمكن إثبات عبادة عملية محضة مستقلة بالقياس المحض
لا نحو نية، وما كان من تحقيق المناط وما ثبت بفحوى الخطاب أو لحنه، ولا
يتسع هذا الجواب لبسط هذه المسألة، ولا هي من موضوعه، وقد غلط من جوز
إثبات سنة قبلية للجمعة بالقياس على الظهر، ويغني عن القول بأن كون الجمعة
بدلاً من الظهر يقتضي أن يصلي قبلها وبعدها من الراتبة ما يصلي قبله وبعده،
وهذا ليس بقياس. وللمانعين أن يردوه بما دلت عليه النصوص في الجمعة، وليس
من موضوعنا هنا الترجيح بين الأقوال في المسألة، ووجد من العلماء من قاس
راتبة العيد على راتبة الجمعة، وهو شاذ. وقد اختلف العلماء في الصلاة قبل صلاة
العيد وبعدها بسبب اختلاف الأخبار والآثار. والتحقيق أنه لم تثبت لها سنة قبلها
ولا بعدها ولم يثبت منع خاص للتنفل قبلها أو بعدها، كما قال الحافظ في الفتح.

السؤال الثالث:
(أتجوز نية الصلاة مع التردد في كون المنوي فرضًا أو نفلاً؟ وهل يجوز
للمصلي أن ينوي فرضًا مُعَيَّنًا وركعات معدودات ثم يفعل غير ما نواه؟) .
(ج) لا تتحقق النية إلا بالعزم القاطع، ومن شروطها: العلم بالمنوي وعدم
الصارف عنه بأن يستصحبها حكمًا من أول الصلاة إلى آخرها، فلا يأتي بشيء
ينافيها، كما صرحوا به، ولكن بعض الفقهاء جوَّزوا تحويل الفرض نفلاً لعذر
وتحويل الجمعة إلى الظهر إذا خرج الوقت؛ إذ عدوه شرطًا لصحتها.
قال الشيخ موفق الدين الحنبلي في المغنى: وإذا دخل في الصلاة بنية مترددة
بين إتمامها وقطعها لم تصح؛ لأن النية عزم جازم، ومع التردد لا يحصل الجزم،
وإن تلبس بها بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا تبطل بذلك؛ لأنها عبادة صح دخوله فيها فلم تفسد بنية
الخروج منها كالحج ... إلخ (ثم قال) : وإذا أحرم بفريضة ثم نوى نقلها إلى
فريضة أخرى بطلت الأولى لأنه قطع نيتها، ولم تصح الثانية لأنه لم ينوها من
أولها. اهـ.
ثم ذكر خلافًا عن الحنابلة في نقلها إلى نفل لعذر أو لغرض صحيح أو بدونه،
والراجح عندهم جوازه لغرض صحيح كالشافعية الذين توسعوا في العذر، ومثلوا
له بقول الشمس الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: ولو قلب المصلي صلاته التي
هو فيها صلاة أخرى عالمًا عامدًا بطلت، أو أتى بمنافي الفرض لا النفل كأن أحرم
القادر بالفرض قاعدًا أو أحرم به قبل وقته عامدًا عالمًا - لم تنعقد صلاته لتلاعبه،
فإن كان له عذر كظنه دخول الوقت فأحرم بالفرض أو قلبه نفلاً لإدراك جماعة
مشروعة وهو منفرد فسلم من ركعتين ليدركها أو ركع مسبوقًا قبل تمام التكبيرة
جاهلاً - انقلبت نفلاً لعذره؛ إذ لا يلزم من بطلان الخصوص بطلان العموم. ولو
قلبها معينًا كركعتي الضحى لم تصح لافتقاره إلى تعيين.ا. هـ. والمراد بالخصوص
في كلامه هنا الفرض وبالعموم النفل.
وأما قلب الجمعة ظهرًا فقد جزم به الشافعية في حال خروج الوقت بناء أو
استئنافًا، والمراد بالبناء ما بدأوا به من صلاة الجمعة أربع ركعات وبالاستئناف
قلب ما بدأوا به من فريضة الجمعة نفلاً كما تقدم في المصلي المنفرد، واستئناف
صلاة الظهر بنيته بعد السلام منها. ومذهب الحنابلة أظهر بل هو الظاهر في
المسألة، وهو أن يتموها جمعة وإن خرج الوقت في أثنائها كسائر الصلوات. قال
صاحب الفروع منهم: فإن خرج (أي وقت الجمعة) صلوا ظهرًا فإن كانوا فيها
أتموا جمعة، قال بعضهم نص عليه، وهو ظاهر المذهب وفاقًا لمالك. وعنه قيل
ركعة لا. اختاره الخرقي والشيخ. ثم هل يتمونها ظهرًا وفاقًا للشافعي أو يستأنفونها
وفاقًا لأبي حنيفة؟ فيه وجهان اهـ. وذكر مصحح الفروع أن الصحيح من
الوجهين أن يتمها ظهرًا إن كان قد نوى الظهر وإلا استأنفها. فهذه مدارك
المجتهدين في المسألة، والمختار عندنا منها عدم صحة تحويل صلاة الجمعة إلى
الظهر وأمثاله، والله أعلم.