للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة ديوان حافظ - تتمة

أما قول أصحاب العَرُوض أن الشعر هو الكلام المقفَّى الموزون، فليس هذا
من بيان الشعر في شيء، فكم رأينا على تلك القاعدة التي رسموها كلامًا ولم نر فيه
شيئًا من الشعر.
ولقد وُفقت جماعة المنطق بعض التوفيق حيث قالوا: إن الشعر هو كل ما
أحدث أثرًا في النفس، وخيره ما كان موزونًا. فلم يحبسوه في تلك الأوزان وتلك
القوافي، بل وسَّعوا له المجال فجعل يتنزه بالتنقل من رياض المنظوم إلى جنان
المنثور، فإذا عثر به خيال الشعر نظمه تارة ونثره أخرى، وحسبكم دليلاً على
ذلك ما جاء في قول بشار بن برد وهو خير ما يُضرب به المثل هنا حيث قال
ناظمًا:
هززتك لا أني وجدتك ناسيًا ... لأمري ولا أني أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجًا وإن كان ماضيا
وحيث قال ناثرًا: (والله لقد عشت حتى أدركت أناسًا لو أخلقت الدنيا لما
تجملت إلا بهم،واليوم أعيش في قوم لا أرى بينهم عاقلاً حصيفًا، ولا كريمًا
شريفًا، ولا من يساوي مع الخبرة رغيفًا) ألا ترون أن في منظومه ومنثوره هذين
روحًا من الشعر لم تكن في الثاني بأقل أثرًا في نفس السامع منها في الأول،
ويدخل في ذلك ما كتب به أبو الطيب المتنبي إلى صديق له كان يعوده وهو مريض
فلما أبَلَّ انقطع عنه: (لقد وصلتني معتلاًّ، وقطعتني مُبِلاًّ، فإن رأيت أن لا
تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله) أليس في هذه الجملة
النثرية تلك الروح التي تجدونها في نظم الشاعر الكبير؟ ومن اطلع على شعر
المعري ورسائله علم أنه شاعر في نظمه ونثره.
هذا هو الشعر وتلك حقيقته، أما طريقة عمله فخيره ما جاء عن غير كد ولا
تعمُّل، وخير الشعراء من توخى في شعره السهولة، وتحامى طريق التعسف
والتكلف، وتَنكَّب عن المعاظلة في الكلام والتماس الألفاظ النافرة والقوافي القلقة،
ولقد كان همُّ الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة، فإذا ظفروا
بها أودعوا فيها المعاني النفيسة، فكانت معانيهم تحت ألفاظهم كالحسناء تحت
الأطمار، وأما شعراء الحضارة فطفقوا يلتمسون الألفاظ فيسكنون فيها المعاني
الدقيقة فكانت معانيهم كالعروس في معرضها يوم جلائها.
وأفضل الشعراء من كان عالمًا بمواضع الإسهاب والإيجاز فهو إذا أسهب أجاد
وإذا أوجز أفاد، ولا أعرف شاعرًا استطرد به جواد الإسهاب وسلِم من العثار مثل ابن
الرومي ذلك الذي كان أطول الشعراء نفسًا وأكثرهم غوصًا على المعاني، ولقد
أدمنت النظر في شعر بشار بن برد، فألفيت الرصانة والتجويد وبناء القافية على
الأساس المتين، والجمع بين متانة البدو وسلاسة الحضر، وأكثرت من مطالعة
شعر مسلم بن الوليد فعلمت أنه يجري مع ابن برد في ميدان واحد، وسرحت
الطرف في شعر أبي نواس فرأيته حلو الفكاهة إذا هزل، مُرَّ المراس إذا جَدّ،
وهو إذا صحا كان أكثر الشعراء تفننًا في ضروب الكلام، ورجعت البصر في شعر
أبي تمام فألفيت فيه التفاوت والصنعة مع كثرة الابتداع والقدرة على الابتكار،
ورأيت في جيده ما لم أره في جيد غيره من حسن الصياغة وبعد الغاية، وأنعمت
النظر في شعر البحتري فلمحت فيه حسن الديباجة وطلاوة الانسجام، وأكثرت
التأمل في شعر أبي الطيب فإذا شعره حي يتفزر، ولم أر في الشعراء نفسًا أعلى
من نفسه، ولا طريقًا إلى المعالي أخصر من طريقه، وخير شعره ما كان في الحكم
والأمثال، ولو سلمت أقواله من ذلك التفاوت ولم يكن أسلوبه عاقًّا لأساليب اللغة
العربية لكان أشعر شاعر في الإسلام، ولقد ذهب الشريف الرضي بحسن اختيار
اللفظ وصقله وسلامة الذوق في انتقاء المفردات والأساليب، وجمع متنبي الغرب
ابن هانئ الأندلسي في شعره بين جزالة العرب ورقة الأندلس، وانفرد ابن المعتز
بحسن التشبيه، واختص العباس برقة الشعور وحلاوة التركيب، ولم أر فيمن
ذكرنا من يداني شيخ المعرة في صفاء الذهن وقوة الذاكرة وسعة الاطلاع وغزارة
المادة.
ولا يقوم بنفس أحدكم أن الشعر كان للعرب دون غيرهم؛ فإن لكل أمة قسمتها
منه، وأن لها نصيبها من الشعراء، تلكم أمة الفرس وهذا (قاآنها) صاحب الشاه نامة
أي ديوان الملوك قد بلغ في أمته مكانًا عظيمًا، واشتمل ديوانه على سبعين ألف
بيت من الشعر، وهذا عمر الخيام الذي تفتح اليوم الأندية باسمه في إنجلترا
وأميركا وتتهافت شعراء المغرب على مطالعة منظوماته، وقد نُقش اسمه في ذلك
العهد على أكثر من اثني عشر ناديًا.
أسلفنا أن الشعر قديم وُجد مع الشمس، وأن لكل أمة حظًّا منه، فما بلغ بنا
التاريخ إلى أمة، ولا وقف بنا عند جيل إلا ورأينا لواء الشعر عليه معقودًا، ولقد
حمله بنتاور في الفراعنة، وهومير في اليونان وفرجيل في الرومان، وقد كثر
نبوغ الشعراء في هذه الأمة، ولا تزال دواوين أكثرهم محفوظة في مكتبة مولانا
السلطان وسائر مكاتب الآستانة العلية إلى اليوم، ولو شئنا أن نذكر كل أمة
وشاعرها لضاق بنا المقام.
أما الشعر العربي وما كان من أمره في الجاهلية والإسلام فأخباره
طويلة مودعة في بطون الكتب فلا حاجة إلى ذكرها.