للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من البحرين
في الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي

(س ٧-١٠) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين؛
هل يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة أحمد ومالك
والشافعي وأبي حنيفة، وهل يجوز للعامي ألا يتمسك بمذهب من المذاهب الأربعة ,
وألا يقلد إمامًا من الأئمة الأربعة , وأن يكون مذهبه مذهب من أفتاه، وأن يلقب
نفسه محمديًّا، ويومًا يسأل عالمًا شافعيًّا ويعمل بقوله، ويومًا يعمل بفتوى مالكي ,
ويومًا بفتوى حنبلي، ويتبع الرخص في مسائل العبادات.
وهل يجوز له إذا أفتاه عالم من المسلمين من الفقه أن يقول: ما أقبل الفقه ,
أقبل الكتاب والسنة فقط.
أفتونا على ذلك ولكم من المولى جزيل الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... لمخلصكم خليل الباكر
(أجوبة المنار)
(١) هل ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة؟
إن لأئمة الفقه الأربعة المتبعين فضلاً على الشيخ أحمد تقي الدين ابن تيمية؛
لأنه لم يصر فقيهًا إلا باطلاعه على فقههم، كما أن لأئمة الحديث كأحمد , والشيخين ,
وأصحاب السنن الأربع وغيرهم فضلاً عليه بأنه لم يكن محدثًا إلا بكتبهم.
ولقد كان مثل مالك والشافعي وأحمد أصح منه فهمًا للكتاب والسنة فيما أعتقد؛
لأن اللغة العربية كانت لهم سليقة لا صناعة فقط كعلماء عصره، وهو قد بلغ
رتبة الاجتهاد المطلق، واطلع على ما لم يطلعوا عليه كلهم من الأخبار والآثار؛
لأنه اطلع على ما رووه وعلى غيره وحفظه وعرف ما قالوه هم , وما قاله
غيرهم من أقرانهم في أسانيدها وفي معانيها , فهو في فتاويه يذكر خلاف الأئمة
المجتهدين في المسألة وأدلة كل منهم , ويمحص هذه الأدلة؛ فيتبين الراجح منها
بالدليل، فمن تأمل فتاويه بنظر الإنصاف؛ يرى أن ما رجحه هو الحق في الغالب ,
كما ترى في رسالة أحكام السفر التي خالف فيها الأئمة الأربعة في بعض المسائل
كتحديد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويباح الفطر , ووافقه من جاء بعده من فقهاء
الحديث المستقلين كالشوكاني.
ثم إنه قد حَدَثَ بعد الأئمة الأربعة بدع خلع عليها مبتدعوها ثياب زور عزيت
إلى الدين، فاتبعها خلق كثير من المسلمين، منها ما جاء من شبهات الفلسفة ,
ومنها ما جاء من تصوف الهنود، ومنها ما كان من أوضاع غلاة الشيعة الظاهرية
والباطنية إلخ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم الناس - إن لم يكن أعلمهم -
بمثارات هذه البدع وشبهاتها ومنتحليها، ومن أقدرهم على بيان وجوه مخالفتها للدين
الإسلامي , والاستدلال على بطلانها، ولم يكن الأئمة يعرفون ذلك كله؛ لأنه لم
يكن في زمنهم إلا بعضها، فالأمة الإسلامية محتاجة إلى شيء من علوم ابن تيمية
لا تجده في شيء مما روي عن الأئمة - رضي الله عنهم أجمعين - وأهمه بيانه
لحقيقة التوحيد , وهدم قواعد الشرك والبدع , ودحض شبهات أهلها.
مع هذا كله لا ينبغي لأحد أن يقول: إن ابن تيمية كان أعلم من هؤلاء الأئمة
هكذا على الإطلاق لما فيه من الدعوى بأنه - أي القائل - من طبقتهم , أو أعلم
منهم، ولذلك قدر أن يرجح بعضهم على بعض، ولما فيه أيضًا من إثارة الخلاف
والشقاق بينه وبين أتباعهم , وهم سواد المسلمين الأعظم مما هو في غنى عنه إن لم
يكن صاحب هوى، ولأن الله تعالى قد نفع بعلمهم وهديهم أضعاف من انتفعوا به،
وهذا أمر عظيم , مثاله في المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وأولاده وأحفاده الذي
يظهر من كتبهم أن الشيخ عبد اللطيف كان أوسع علمًا بفنون العربية وأصول الفقه
وفروعه ومصطلح الحديث من جده شيخ الإسلام، ولكن جده هو الذي هدى إلى
العلم الواسع الدقيق بتوحيد الله تعالى الذي هو أساس الإسلام , وقام بالدعوة وهدى
الله به الألوف ومئات الألوف إلى دين الله الخالص , وكان أولاده وأحفاده - ومنهم
الشيخ عبد اللطيف هذا من بعض حسناته , وله مثل أجورهم كلهم رحمهم الله
أجمعين.
****
(٢) هل يجوز لعامي ترك تقليد كل من الأربعة ... إلخ؟
زعم بعض المقلدين من المتكلمين والفقهاء أنه يجب على جميع المسلمين تقليد
أحد هؤلاء الأربعة في الأحكام الدينية العملية من العبادات والمعاملات، وزاد
بعضهم تقليد الشيخ أبي القاسم الجنيد إمام الصوفية كما قال اللقاني في عقيدته
(جوهرة التوحيد) .
ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم
قالوا كما قال هو في شرحه: إنه أراد بسائر الأئمة الثلاثة - أبا حنيفة
والشافعي وأحمد , وهذا ما عليه جمهور متأخري العلماء الرسميين من أهل الأزهر
ومن على شاكلتهم في سائر الأمصار , إلا من آتاه الله حظًّا من الاستقلال في العلم ,
والنظر في الأدلة , واتباع ما تقوم عليه الحجة، وكنا نسمع هذا من مشايخنا منذ
أول عهدنا بطلب العلوم الدينية، وكانوا يحتجون على ذلك بأن هؤلاء الأئمة هم
الذين دونت مذاهبهم وبسطت فيها المسائل وكثرت الفروع بحيث يجد الناس فيها
جميع ما يحتاجون إليه دون غيرها، وكل هذا غير صحيح فإن للظاهرية كتبًا مدونة ,
ولا سيما الإمام أبي محمد ابن حزم وهم من أهل السنة، وكذلك الشيعة الزيدية
والشيعة الإمامية والأباضية قد دون فقه مذاهبهم في مجلدات كثيرة.
هذا وما ذكروه ليس متفقًا عليه عند علماء القرون الوسطى ومن بعدهم ممن
صرحوا بوجوب التقليد، بل قال بعضهم: بجواز تقليد غيرهم من الأئمة كالليث بن
سعد وداود الظاهري وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير
الطبري وسفيان بن عيينة كما تراه في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ
الأزهر في عهده على الجوهرة - وقد ذكر هو وغيره أنهم استدلوا على أصل
وجوب التقليد الذي حصره بعضهم في الأربعة بالعلة المتقدمة بقوله تعالى {فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) , قال: فأوجب التقليد على من لم
يعلم , ويترتب عليه الأخذ بقول العالم وذلك تقليد له.
وأقول: إن هذا الاستدلال ظاهر البطلان , فإن من لا يعلم حكم الله تعالى في
مسألة يجب أن يسأل عن النص فيها من كتاب الله تعالى , أو سنة رسوله صلى الله
عليه وسلم لا عن رأي أحد الأربعة أو غيرهم , والاجتهاد ظن المجتهد في المسألة
الذي أداه إليه بذل الجهد في البحث عنها، وهو ساقط الاعتبار مع وجود النص
بغير خلاف، ولا يجب على أحد من خلق الله أن يدين الله بظن غيره , والتقليد أن
تأخذ بقول لم تعرف له دليلاً، وما المانع أن يقال: إن الجاهل يسأل عن نص
الشارع الذي كلف اتباعه فإن لم يوجد؛ سأل المجتهد عن ظنه , وعن الدليل الذي
استنبطه منه، فإذا اقتنع به واطمأن قلبه أخذ به وإلا فلا، فقد روى أحمد من حديث
أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعا: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب،
والإثم ما لم تسكن إليه النفس , ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون) حديث
حسن , وروى أحمد , والبخاري في التاريخ من حديث وابصة بن معبد رضي الله
عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر
والإثم إلا سألته عنه. فقال لي (ادْنُ يا وابصة) , فدنوت حتى مست ركبتي ركبته ,
فقال: (يا وابصة أخبرك ما جئتَ تسأل عنه , أو تسألني؟) فقلت: يا رسول
الله أخبرني. قال: (جئت تسألني عن البر والإثم) قلت: نعم، فجمع أصابعه
الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: (يا وابصة! استفت نفسك، البر ما
اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر،
وإن أفتاك الناس وأفتوك) وفي طريق إسناده مقال , ورواه أحمد من طريق
آخر باختصار , وهذا المعنَى مروي عن غيرهما من الصحابة , وفي صحيح مسلم
من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا (البر حسن الخلق , والإثم ما حاك في نفسك
وكرهت أن يطلع عليه الناس) , وأخرجه النووي في الأربعين , وقد أورد الحافظ
ابن رجب في شرحه له حديث وابصة , وتكلم على طرقه , ثم قال: وقد روي هذا
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة , وبعض طرقه جيدة ,
فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد
بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإثم؟
قال: (إذا حاك في صدرك شيء؛ فدعه) , وهذا إسناد على شرط مسلم إلخ , ثم
ذكر رواية أحمد لحديث أبي ثعلبة المار بإسناد جيد، والمراد من اطمئنان القلب هنا
ما يعبر عنه في هذا العصر بالوجدان وراحة الضمير، وعليه المعول في
المشتبهات بين الحلال والحرام دون البين منها كما حديث: (الحلال بين , والحرام
بين , وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ
لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام (الحديث رواه الجماعة
كلهم من حديث النعمان بن بشير , وإن من الجاهلين من يقترف المعصية , أو
يطلق امرأته , ثم يستفتي أحد العلماء ويحرف له القول؛ ليفتيه بما يوافق هواه ,
فإن أفتاه بما يحلل له المعصية كأكل مال غيره بالباطل , أو معاشرة مطلقته معاشرة
الأزواج؛ فعل وإن كان قلبه غير مطمئن للفتوى ظانًّا أن الله يعذره بفتوى المفتي
كما يفعل الحكام في الدنيا.
ألا فليعلم كل مسلم أن المفتي ليس شارعًا للدين , وإن كان مجتهدًا , وإنما
وظيفته بيان حكم الله الذي أنزله في كتابه , أو بينه على لسان رسوله صلى الله
عليه وسلم , فإذا لم يكن في المسالة نص عنهما؛ فليس له أن يحمل الناس على أن
يدينوا الله ويعبدوه بمقتضى رأيه واجتهاده الذي هو ظن من ظنونه فضلاً عن حمله
إياهم على العمل برأي غيره مما يقرؤه في الكتب، ولم يكن أحد من الأئمة المجتهدين
بحق - ولا سيما الأربعة - يأمر الناس بالعمل باجتهاده وتقليده في رأيه وفهمه، وإنما
كانوا يبينون للناس ما يفهمون من نصوص الشارع بطرق الدلالة المعروفة عندهم،
فمن وافق فهمه فهم أحد منهم فعمل به؛ كان عاملاً بما اعتقد أن الله شرعه له، ومن
لم يوافقه؛ تركه وعَدَّهُ كأن لم يكن , وليس له أن يدين الله تعالى به , والنصوص
عنهم في ذلك مشهورة سبق لنا ما يكفي منها في (محاورات المصلح والمقلد)
وغيرها , ولا سيما ما نقلنا بعد ذلك عن كتاب (أعلام الموقعين) للمحقق ابن القيم
وسيأتي بعضها.
قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: ٣) , وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ} (الشورى: ١٣) الآية.
وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:
٢١) , وقال في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) فقال عدي بن حاتم عندما سمعها وكان نصرانيًّا فأسلم: يا رسول
الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ فبين له صلى الله عليه وسلم أن المراد بها أنهم كانوا
يحلون لهم ويحرمون عليهم؛ فيتبعونهم. فاعترف بذلك، وما كان يفعله علماء
اليهود والنصارى من التحليل والتحريم , والقول في دين الله برأيهم , وفهمهم
للتوراة والإنجيل من غير أن يكون نصًّا ظاهرًا في الحكم فعله كثير من علماء
المسلمين المقلدين؛ فاتبعهم العوام فيه حتى صارت الجرأة على التحليل والتحريم
موضع العجب والاستغراب عند العقلاء المستقلين؛ بل صار العوام يحلون
ويحرمون، وليس لأحد حق في التحليل والتحريم على العباد إلا ربهم تبارك وتعالي ,
ولكن كان ذلك وهو مصداق ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من اتباع هذه الأمة
سنن من قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع.
حتى إنهم حرموا كثيرًا من العلوم والفنون والصناعات التي تعتز بها الأمم
وتقوى، والمنافع العامة التي تدل نصوص الكتاب والسنة على إباحتها كامتنانه
تعالى علينا بتسخير جميع ما في الأرض لمنافعنا، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما
رواه الدارقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني وحسنه: (إن الله فرض فرائض؛
فلا تعتدوها، وحد حدودًا؛ فلا تقربوها، وحرم أشياء؛ فلا تنتهكوها، وسكت عن
أشياء رحمة لكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها) , ويؤيده ما رواه البزار في مسنده
والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(ما أحل الله في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو
عفو , فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى) , ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: ٦٤) .
ويدخل فيما أحله الله وحرمه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فكأنه مستنبط من كتاب الله وبيان له كما يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره،
أو لأنه بوحي آخر غير القرآن كما يقول آخرون، أو لأن الله تعالى أذن له
بالتشريع باجتهاده كما فهم بعضهم من حديث (إلا الإذخر) .
هذا وإن ما ورد في الكتاب والسنة من أمور الدين المحضة كالعقائد والعبادات
والحلال والحرم؛ فهو قسمان: قسم قطعي الرواية والدلالة وهو التشريع العام الذي
يجب على كل مسلم الأخذ به، ويجب على أئمة العدل إلزام الناس إياه، وقسم ليس
كذلك وهو محل الاجتهاد، فمن فهم منه حكمًا اعتقد أنه مراد الله تعالى ولو بواسطة
بيان غيره من العلماء له؛ وجب عليه العمل به دون من لم يفهم ذلك ولم يعتقده
استقلالاً ولا تبعاً , وليس للأئمة أن يجعلوه تشريعًا عامًّا.
كما يؤخذ ذلك من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه حين نزل
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: ٢١٩) ، وقد وضحنا هذا في مقدمتنا لكتاب
المغني في الفقه، وبناءً على هذا كان ما يجب على كل فرد من أفراد المسلمين
عوامهم وخواصهم وجوبًا عينيًّا معلومًا كله أو جله منتشرًا بين الناس في عصر
السلف الصالح لقلته وجلائه , فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يلقنون
الأعرابي دينه وما يجب عليه في مجلس واحد - فكان ما يحتاج العامي إلى سؤال
العلماء عنه قليلاً، وإنما كانوا يسألونهم عن حكم الله لا عن آرائهم واجتهاداتهم، ومن
المعلوم من تاريخهم وسيرتهم بالقطع أن أحدهم كان يسأل في كل أمر يعرض له من
يلقاه من أهل العلم , ولم يكن أحد يلتزم عالمًا بعينه لا يأخذ عن غيره , وكان علماء
السلف يجيبون كل سائل بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,
ثم صاروا في عصر التابعين يذكرون ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في
المسألة , أو علماؤهم المشهورون إذا كان فيها خلاف، وقد دون رواة السنة وحفاظها ما
رووه من أقوال الصحابة وأعمالهم تبعًا لتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
وعدوا إجماع الصحابة حجة شرعية دون أقوال أفرادهم إلا من احتج بإجماع الخلفاء
الراشدين.
هذا وإن مدار الاجتهاد على القياس , ومن أئمة الشرع من ينكره ألبتة , ومنهم
من لا يقول إلا بما كانت علته منصوصة وما قطع فيه بنفي الفارق , ومنهم من
يدخل هذا المعنى في مدلول النص، ومنهم من منعه في التعبدات، فعلى هذه
الأقوال كلها لا تثبت عبادة مستقلة باجتهاد المجتهد فلا حاجة بمسلم إلى تقليد أحد في
مذهبه , وإنما يأخذ الجاهل عن العلماء ما أوجبه الله وما حرمه عليه بنصوص
الكتاب والسنة القطعية الثبوت والدلالة كما تقدم , هذا هو الضروري فإذا وجد سعته
لطلب العلم واقتنع ببعض الظنيات العملية أخذ بها.
وإنما يثبت الاجتهاد في المعاملات والقضاء وسياسة الحكام بنص حديث معاذ
المشهور فإذا قال علماء السنة: إنه يتعين على الحكام في هذه الأزمنة الاعتماد على
هذه المذاهب المدونة في الأحكام القضائية والسياسية والحربية لأنهم يجدون أكثر ما
يحتاجون إليه فيها كان لقولهم هذا وجه في الجملة - وأما القول التفصيلي في ذلك
فهو: إنه لا يمكن إدارة حكومة إسلامية إلا بعلماء مجتهدين يستفيدون من علم الأئمة
المتقدمين , ويزيدون على ذلك ما تضطرهم إليه حالة هذا الزمان بما تجدد للبشر
فيه من أمور المعايش والسياسات والمعاملات مع الأمم الأخرى، إلا إن وجد
حكومة صغيرة في عزلة عن العالم كله؛ فإنها يمكنها أن تلتزم أحكام مذهب معين لا
تحتاج إلى غيره كما هي حالة أهل نجد في نجدهم وأهل اليمن في يمنهم دون من
خرج منهم للتجارة في الهند أو العراق أو مصر أو سورية دع من اتسعت تجارته
فبلغ بها أوربة.
هذا وإن بعض علماء القرون الوسطَى الذين زعموا وجوب تقليد واحد من
الأئمة الأربعة دون غيره لم يوافقهم جميع أقرانهم في زمنهم , ولا فيما بعده.
قال الباجوري في شرحه بيت الجوهرة المتقدم: وقال بعضهم لا يجب تقليد
واحد بعينه , بل له أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارة وبغيره أخرى , فيجوز
صلاة الظهر على مذهب الإمام الشافعي , وصلاة العصر على مذهب مالك وهكذا.
ثم ذكر أن بعضهم جوز تقليد الأربعة في غير الإفتاء كما قال:
وجائز تقليد غير الأربعة ... في غير إفتاء وفي هذا سعة
والحاصل أن التقليد باطل بنص القرآن , والعمل به مفض إلى إضاعة الدين
لأن من طبع العوام تقليد من يثقون به في كل زمان ومكان , وأنى لهم بتمييز الإمام
المجتهد من غيره , وإننا نرى الملايين ممن ينسبون إلى المذاهب المعروفة يأخذون
بأقوال رجال من الجهلة الدجالين أدعياء طرق التصوف وأدعياء الفقه أيضًا لتلبيسهم
عليهم بالدعاوى الباطلة وإظهار التدين أو بعض الغرائب التي يسمونها كرامات ,
حتى صار الشرك الصريح من أصول عقيدة الدين , والتوحيد المحض من الكفر
المنكر بدعوى أنه احتقار لأولياء الله تعالى وإنكار لكرامتهم إلخ ما شرحناه مرارًا
فلا محل هنا لإعادته.
فالواجب أن يعلم الناس دينهم كما كانوا يعلمون في الصدر الأول من الإسلام
يلقن العوام عقيدتهم من الكتاب والسنة وكذا عباداتهم وما أحل الله لهم وحرم عليهم ,
ويجعل تعليم هذا على درجتين الأولى المجمع عليه الذي كان يقال فيه إنه معلوم من
الدين بالضرورة بحيث يعد جاحده غير مسلم , والثاني ما قويت أدلته من مسائل
الخلاف وكان عليه جمهور السلف بحيث كانت تعد مخالفته شذوذًا، مهما يكن
المخالف فيه جليلاً، وأرى بعد اختبار حال المسلمين منذ ثلث قرن أنه لا يمكن أن
يعرف جمهورهم حقيقة دينهم إلا بهذه الوسيلة التعليمية وإنني أعلم أن الملايين من
المنتسبين إلى هذه المذاهب المدونة الأربعة وغيرها يقلون سنة بعد سنة، واعلمْ
أن أكثرهم لا يعرف ضروريات المذهب معرفة صحيحة وإنما يعرف في الغالب منه
أضر ما فيه , وهو بعض مسائل الخلاف بينه وبين المذاهب الأخرى في بلده أو
قومه , فإن الأصل في الدين الوحدة والاتفاق وأضر ما فيه تعدد المذاهب الاختلاف
والافتراق {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٥) .
فعلم من هذا أن أكثر الناس إذا قالوا: نحن شافعية , أو مالكية مثلاً يكذبون
لأنهم ليسوا على مذهب من ورثوا الانتساب إلى مذهبه عن آبائهم لا في العلم ولا
في العمل لأنهم قلما يعرفون منه إلا بعض مسائل الخلاف في مسائل اجتهادية ليست
من أمور الدين القطعية ولا يضر أحدًا جهلها , ولا العمل بقول أي إمام فيها كما
وضحناه في (محاورات المصلح والمقلد) , وكذا في مقدمتنا لكتاب المغني الشهير
التي جعلناها في أول الجزء الأول منه ونشرناها في المنار , فليراجعها السائل.
فإذا قال من هذه حاله: إنه محمدي أي من أهل ملة محمد صلى الله عليه
وسلم؛ فلا بأس بذلك ولكن ليس له أن يحتقر هذه المذاهب التي قامت على أساسها
حضارة الدول الإسلامية كلها ووجد بها تشريع للإسلام كان يمكن للمسلمين الاستغناء
- بمواصلة الاجتهاد فيه - عن قوانين جميع الأمم التي ما زال يقلدها بعض الدول
الإسلامية ويبعد عن التشريع الإسلامي حتى انتهى بعضها إلى نبذ الشريعة الإسلامية
بجملتها وتفصيلها ويخشى أن يتبعها غيرها من الدول المشابهة لها في سيرتها إذا
استمر علماؤها على جمودهم على تقاليدهم، وحكامها على اقتباس التشريع عن
غيرهم.
***
(٣) هل يجوز تتبع الرخص في العبادات؟
الأصل في أحكام الدين العزائم , وقد شرع الله الرخص كما شرع العزائم ,
وهو يحب أن تؤتى رخصه , كما يجب أن تؤتى عزائمه، وبعض الرخص مقيد
بأحوال محدودة لا يتعداها , كالمجاعة المبيحة لمحرمات الطعام , والسفر والمرض
المبيحين لترك الصيام وللتيمم، وبعضها مقيد بأحوال غير محدودة , بل تحتاج إلى
اجتهاد المكلف كالجمع بين الصلاتين على التحقيق فيه كما بينه شيخ الإسلام في
رسالة في القصر والجمع , فقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ,
كما رواه الشافعي ومسلم غيرهما من حديث ابن عباس وعلله بقوله: لئلا يحرج
أمته , فلا يجوز لمسلم أن يلتزمها دائمًا , فيجعل أوقات الصلوات الخمس المعلومة
من الدين بالضرورة ثلاثًا.
ولا يحظر عليه أن يحرج نفسه إذا تعسر عليه أداء الظهر أو المغرب في
وقتها لشغل ضروري عارض , فيمتنع من تأخيرها إلى ما بعدها ليجمعها معها ,
ومن كان مقلدًا لمذهب يتأول فقهاؤه حديث الجمع في الإقامة؛ فليقبل هذه المسألة
بعدها من باب المثال.
هذا ما يقال في رخص الشرع الثابتة بالنصوص، وأما رخص المذاهب
الاجتهادية فتتبعها وتقليد أصحابها فيها تلاعب بالدين لا يفعله إلا جاهل متهاون.
وإذا كان التقليد المحض بدون بينة ولا بصيرة باطلاً في عزائم الشريعة ,
فكيف يكون صحيحًا في العبث والتلاعب؟
***
(٤) هل يجوز رد الفتوى الفقهية طلبًا للنص؟
إن الله تعالى أمرنا باتباع كتابه واتباع رسوله، ونهانا أن نتبع غيرهما، وإنما
العلماء أدلاء ومبلغون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما الواجب
على من يجهل شيئًا من دينه أن يسأل العالم عن حكم الله ورسوله فيه , لا عن رأيه
أو رأي من يقلده هو فيه كما تقدم شرحه قريبًا , فإذا قال له العالم: حكم الله كذا ,
فله أن يسأله عن النص , ويقول له: لا أقبل قولك ولا ما تنقله من كتاب من كتب
الفقه؛ حتى تبين لي دليله من الكتاب والسنة , قال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد أن
يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين قلناه , وكتب المزني صاحب الشافعي في أول
مختصره في الفقه ما نصه: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس
رحمه الله , ومن معنى قوله: لأُقَرِّبه على من أراده , مع إعلامه نهيه عن تقليده
وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه وبالله التوفيق اهـ.
ورئي مالك يبكي في مرض موته؛ لأنه بلغه أن بعض الناس يعملون بأقواله ,
مع أنه يقول القول ويرجع عنه، وامتنع أحمد عن كتابة شيء في الفقه؛ لئلا
يقلده الناس فيه.
هذه جمل عن الأئمة الأربعة من عمل بها؛ كان منتفعًا بعلمهم , وأكثر ما في
كتب الفقه آراء لمن لم يبلغ رتبتهم من أتباعهم، وأكثر من يسمون العلماء الآن لا
يتقيدون بأقوال الأئمة , بل العمل عندهم على اعتماد بعض المقلدين لهم.
إن الله تعالى لم يأمر باتِّبَاع أحد في الدين غير رسوله صلى الله عليه وسلم ,
وأمر بطاعة أولي الأمر فيما يتعلق بالأحكام المنوطة بهم , لا في عبادة الله تعالى ,
فإلى متى نحجب الناس عن كتاب ربهم وسنة نبيهم , ونكلهم إلى هؤلاء الأشياخ
الأدعياء الذين لا يوجد في الألف منهم عالم , ونخالف الأئمة أنفسهم في ذلك من
حيث ندعي اتباعهم؟