للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مشروع بناء مسجد في باريس

خطر هذا المشروع للخواجه (ليون لامبير) المقاول في مصر من عدة شهور
وكاشف به بعض وجهاء مصر، فعلم منهم أنه لا يرجى نجاحه، إلا إذا كان تحت
رئاسة فقيد الإسلام والشرق الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فأرسل أحد أولاده
(فنيكسي لامبير) بكتاب منه إلى الإمام عندما ذهب إلى رمل الإسكندرية مريضًا،
فمنعناه من مقابلته؛ لأن صحته لا تسمح له بالكلام ولا الفكر في الأعمال، فعاد إلى
مصر وأرسل إليّ بعد ذلك كتابًا في ٢١ يوليو يرجوني فيه رجاء مؤكدًا أن أعرض
المشروع على الإمام في الوقت المناسب، وأرسل معه قائمة كتب في أعلاها
(أسماء المتحدين على مشروع بناء جامع في مدينة باريس تحت رياسة فلان) ... إلخ
ورغب إليَّ أن أكلف الإمام بإمضاء القائمة، ثم أعرضها على بعض وجهاء
الإسكندرية، ثم أرسلها إليه لكي يتيسر له إمضاؤها من وجهاء مصر، وإنني لم أرَ
فرصة مناسبة لمذاكرة فقيدنا في هذا المشروع لأعرف رأيه فيه، وبعد أن توفاه الله
تعالى بلغني أن الرجل رغب إلى شيخ الأزهر أن يجعل المشروع تحت رياسته؛
فقبل فعسى أن ينجح المشروع ويبنى المسجد في مكان يسهل على المسلمين في
باريس القصد إليه والصلاة فيه ولا يكون كجامع لوندن (لوندره) الذي حدثنا عنه
الأستاذ الإمام - رضي الله عنه - بما يأتي، قال:
خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند ان يجمع من المسلمين مالاً يبني به
مسجدًا في لوندرة فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندرة فبنى مسجدًا في خارجها
على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من المسلمين
في لوندره؛ فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد. وقد اشترى الرجل أرضًا لنفسه
عند الجامع، وبني فيها بيتًا لنزهته؛ إذا علم بأن بعض أمراء المسلمين أو أغنيائهم
زار لوندرة يبحث عنه ويدعوه إلي داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار أمير الأفغان
لهذا العهد لوندره - وكان يومئذ ولي العهد للإمارة -أجاب دعوة هذا اليهودي، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه. ولا يخالن أحد أن الأمير كان مبسوط الكف لكل
أحد يتصل به، أو يخدمه فقد كان خالد أفندي أستاذًا للغة التركية في مدرسة كمبردج
(مهمندارا) للأمير في لندن لزم خدمته وأعد له كل وسائل الراحة وهو لم ينعم عليه
إلا بجنيه واحد لم يقبله.
العبرة في هذا المقام أن المسلمين قد فتنوا بهؤلاء الأجانب فتونًا، فالخواجه
المجهول منهم يحظى عند كبيرهم وصغيرهم ويسهل عليه أن يبلغ منهم ما لا يبلغه
أوسعهم علمًا، وأبعدهم فهمًا، وأشدهم غَيْرَة، وأطهرهم سريرة؛ فلو أن مسلمًا
حاول جمع المال من الهند أو مصر لبناء مسجد في لندن أو باريس- لعجز، ولكن
الأجنبي لا يعجز عن استخدام نفوذ كل كبير فيهم حتى رجال الدين، وما أحوجنا
إلى رجال يسبرون غور الأجانب يستفيدون من خيارهم ما ينفع الأمة، ويتوقون شر
شرارهم، ويدفعونه عنها كما كان يفعل الأستاذ الإمام، رحمه الله تعالى، وجزاه
عن هذه الأمة أفضل الجزاء.