للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


منشور للإمام يحيى حميد الدين

جاءنا من اليمن المنشور الآتي مطبوعًا في مطبعة (المقام الشريف) بصنعاء،
متوجًا بعد البسملة بختم الإمام يحيى حميد الدين الرسمي الملقب فيه بأمير
المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، وهو في دعوة المسلمين إلى جمع الكلمة
والاعتصام بالكتاب والسنة، والاستمساك بالعترة الطاهرة، وترك الخلاف والفرقة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: ١٠٨) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران:
١٠٤) .
الحمد لله الهادي إلى السَّنن القويم، وكل خير عميم، بقوله عز وجل:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) * {وَلاَ تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل
عمران: ١٠٥) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: ١٥٣) .
والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ذي الخلق العظيم، المبعوث
رحمة
للعالمين من رب العرش الكريم، بالشريعة السمحة الكافلة بخيريْ الآخرة والأولى،
القائل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا - المؤمنون كرجل واحد إن
اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله - يد الله على الجماعة - لا
ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض - المؤمن أخو المؤمن يكف عليه
ضيعته ويحوطه من ورائه - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم
الساعة) وعلى آله المخصوصين برعاية التقديم والتكريم، قرناء الذكر الحكيم،
الذين ورد فيهم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا: كتاب
الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض. أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى.
أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة، وعلى أصحابه الذين قاموا
بنصرته وبإيضاح طريقه المستقيم، وبذلوا أنفسهم ونفيسهم في مرضاة الرب العليم.
أما بعد فهذا بلاغ وافٍ، وبيان شافٍ، أردنا به نصح إخوان الدين، وايقاظ
همم المسلمين، وحررناه إلى كل مطلع عليه من العلماء العاملين، وإخواننا أهل
الدين، وفقهم الله لصالح القول والعمل، وحرسهم بطاعته عن مزالق الزلل.
وحياهم بشريف السلام، ورحمة الله وبركاته على الدوام.
إنه قد عُلم ما دهى الإسلام والمسلمين من داء التفرق والاختلاف،
والمخاصمات التي أُغلقت بها أبواب الوفاق والائتلاف، حتى فشل المسلمون وذهبت
ريحهم وصاروا كأنهم أدنى عنصر في العالم غير مهاب الجناب، ولا مصون من
الاغتصاب، إلى أن طمعت في استئصالهم وإخضاعهم الدول الأجنبية، وخصوصًا
العرب الذين هم منشأ هذا الدين ومبدأ ظهوره، وأفق تجليات نوره، وهم الذين أعز
الله بهم الإسلام، وملكوا أكثر العالم، وإن فتحت لهم قاراته وحصين قصوره، لِمَا
كانوا عليه من التوحيد ديانة وسياسة وعلمًا وعملاً، والتعاضد والتعاون لا يبغون عنه
حِوَلاً، ولا يرضون بسواه بدلاً، حتى خضعت لهم الرقاب، وذللت لهم الصعاب،
وضربت بعزهم الأمثال، وسعدت بصولتهم الأجيال، وقد استبان في هذا القرن شؤم
التفرق والاختلاف، وأنه السبب الوحيد لتمزيق الأجانب بلاد المسلمين ثم الأخذ
والاختطاف، وانهدام ذلك المجد الشامخ، والعز الباذخ، وحل بكثير من المسلمين
ذوي العقول عظيم التأسف والندم، ولكن بعد أن صاروا في أشراك الاقتناص وبعد
زلة القدم.
وقد آن لنا معشر المسلمين أن ننظر لأنفسنا بعيون الاستبصار، وأن نجيد
آراءنا لما يكون به عزنا وشرفنا ورجوع أيامنا التي ارتقينا فيها صهوة كل عز
وانتصار، وليس لنا إلى ذلك من سبيل، إلا باتباع ما أرشدنا إليه الرب الجليل،
من الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق والتنازع واتباع صراط الله المستقيم. وترك
اتباع السبل المتفرقة المضلة عن سبيله كما جاء في الذكر الحكيم. وإدارة كل
شئوننا على منهاج شريعة الله عبادة ومعاملة ودفاعًا. وكفى بهدي الله لنا وسيلة إلى
نيل كل مطلوب، ودفع كل مخوف ومرهوب، ولقد قمنا بمقامنا هذا الحرج طلبًا
لخدمة الله بإصلاح ما نقدر عليه من أحوال المسلمين والدعاء إلى الله وطاعته،
بامتثال أوامره ونواهيه والانقياد لشريعته، وقد حصل لنا في أكثر هذه البلاد المرام،
وترتبت الأعمال على مراضي الرب العلام، ولم نزل نجدد الإرشاد إلى كثير
من البلاد، راجين الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين لما به حفظ دينهم وبلادهم،
وحوزتهم وعزهم وكيانهم، ولما كانت بلاد اليمن قطعة واحدة وأهلها متحدو العنصر
والديانة متفقو اللغة متقاربو الأنساب من الأشراف والقبائل، لا اختلاف بينهم في
شيء فربهم واحد ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ودينهم واحد، بلا اختلاف يعول
عليه إلا من لا معرفة له بالشريعة، ولا بواضح مناهجها الوسيعة، وأما أهل الديانة
والعرفان، وأولو العقول التي بها تعرف طرائق الإحسان فهم يعرفون أن أهل
القطعة المباركة اليمنية كأهل مدينة واحدة، ومع هذا فالواجب علينا جمع الكلمة،
واتحاد الرأي وتوحيد الطريقة، وعقد الولاء على الحقيقة، حتى نكون كالجسم
الواحد وكالبنان أو كالبنيان، كما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم وآله
وصحبه أهل الإيمان.
وقد عممنا دعوتنا هذه التي هي دعوة حق إلى كل من بلغته، وحررنا هذا
الكتاب مع غيره إلى أهل جهاتكم وما والاها من العلماء الأعلام، والرؤساء الفخام،
والمشايخ والأفراد، ندعوكم بدعوة الحق إلى ما أسلفناه في هذا الكتاب، ونقول:
هلموا أيها الإخوان إلى ما به عز الدنيا والدين، والوصول إلى الخير المستبين؛
لنعمر أمور ديننا ودنيانا، على طريقة الأسلاف الذين هم أسوتنا ومُقتَدَانا، وليس
المراد مُلكًا نشيده، ولا مالاً نستزيده، ولا جاهًا نستفيده، وإنما المراد اجتماع
المسلمين بالمحجة البيضاء والصراط المستقيم، وسنقر كل بلاد بيد رؤسائها،
ونحيل إليهم مجرى أعمالها ومرساها، هلموا إلينا للعمل بكتاب الله وسنة رسول الله
والسلف الصالح: نحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، نأمر بالمعروف،
وننهى عن المنكر المخوف، ونمنع التظالم، ونأخذ على يد الظالم، ونحقن الدماء،
ونعمل بشريعة خالق الأرض والسماء، ونجري الأعمال على محور إرشادات ذي
الجلال، فكل ما خالفها فهو الباطل المُضْمَحِلّ، وما وافقها فهو الحق المستفحل،
بإرشادات الشريعة صلاح الدين والدنيا، وقد خاب من عدل عنها. ولم يتم للسلف
الصالح نصرة الدين وفتح الأقطار الشاسعة إلا بالعمل بإرشادات شريعة الله.
ونقول أيضًا: أيها العلماء الأعلام، أنتم المكلفون بِبَثِّ ما علمكم الله ونَشْرِهِ
للناس، وثمرة العلم إنما هي العمل والإرشاد إلى ما به ذهاب البأس، فقد أخذ الله
عليكم ميثاقه الأكيد، وألزمكم القيام بالتعليم والوعظ والنصيحة للعامة وإرشادهم إلى
الخير والمزيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من عقاب الله،
والإنذار بسخطه ومقته على من أعرض عما أوجبه الله عليه، ولم يوجب الله على
العامة السؤال بقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل:
٤٣) حتى أوجب عليهم البيان بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: ١٨٧) وقال صلى الله عليه وآله
وصحبه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم [١]
عهد الله أحق ما أدي [٢] ) فشمروا كثَّر الله سوادكم عن ساق الهمة في هذا السبيل،
وبيِّنوا وعظوا وانصحوا لتفوزوا بالأجر الجزيل، وأحيوا سنة السلف الصالح في
هذا الجيل، فقد قام بالدعوة إلى آل محمد من السلف الصالح مَن به يُقْتَدَى، ويُقْْْتََفَى
أثره وبنور إرشاده يُهْتَدَى، منهم الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة رضي الله عنهما.
واعلموا أن هذا الذي ندعوكم إليه هو أمر محبوب عند كل بني الإنسان،
خصوصًا عند الدول المتمدنة فإنها تعتبر هذا من الأمور الواجبة على الأمم،
وخصوصًا الحكومة البريطانية، وإنَّا نؤمل منها غاية المساعدة [٣] لأمور مهمة،
مما تتقوى به هذه الدعوى المبنية على أساس متين، فهي الدولة المفتخرة بمحبتها
للعرب، وإعانتها لهم في كل ما يتم به الأرب، خدمة للإنسانية ورعاية لحقوقها
التي ترشد إليها الضمائر الوجدانية.
وقد وصل إلينا رؤساء البيضا [٤] في هذه الآونة وأعلمناهم ما ندعو إليه، وما
نُحَرِّض الناس عليه، وضربنا لهم الأمثال، بأحوال الجهات التي نفذت فيها أحكام
ذي الجلال، وما ضرب فيها من العدل والإحسان والأمان، وما ارتفع عنها من
الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان، ثم كان عزمهم من لدينا متقلدين الطاعة،
منخرطين في سلك الجماعة، ونحن إن شاء الله على أهبة إرسال شرذمة من
الأجناد، إلى هاتيك البلاد؛ لصلاح أحوالها، ومحق أهوالها، ونسأل الله تعالى أن
يأخذ بنواصي الجميع إلى مراضيه، ويوفقنا إلى سلوك السبيل الأقوم واجتناب
معاصيه، ويفتح لسماع نصيحتنا وإرشاداتنا أسماع كافة الإخوان، إنه الكريم المنان،
فهذا ما ندعوكم إليه، ونأمركم به، وهو معذرة إلى الله، وحجة عليكم عند الله
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: ٨٨) والسلام عليكم. بتاريخه في ٤ ذي القعدة الحرام سنة ١٣٤١ هـ.
((يتبع بمقال تالٍ))