(٤) المقالة الثالثة (الإسلام هو الإصلاح الأكبر) مقال آخر آتي به اليوم تتميمًا لمقالي السابق (الدين في نظر العقل الصحيح) وإيضاحًا لما أجملته هناك في مسألة الإصلاح الإسلامي في الأرض. ولا أريد أن أذكر المسائل التي شارك الإسلام فيها غيره من الأديان الأخرى، ولكني ذاكر ما امتاز به عنها ليتضح للأهل الإنصاف، أنه هو الإصلاح الأكبر بلا خلاف. *** التوحيد والتنزيه: أتى القرآن بالتوحيد الخالص والتنزيه المطلق فقال {قُلْ هُوَ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١) {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (الأنعام: ١٠٣) {َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: ١١) وتحاشى ما يوهم التشبيه والتجسيم إلا ما اقتضته ضرورة التعبير اللغوي حتى أنه أزال في مثل قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: ٢٧) ما يتبادر منه من التمثيل بالمخلوقين بقوله بعده {وَلَهُ المَثَلُ لأَعْلَى} (الروم: ٢٧) ففاق بذلك جميع الكتب الأخرى الممتلئة بالتشبيهات والتمثيلات حتى الساقطة الباردة منها. وأبان بمثل قوله {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: ٤٤) وقوله {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (مريم: ٩٣) أن لا شجر، ولا حجر، ولا بشر تجوز عبادته من دون الله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) فعرف الإنسان حقيقة حاله، وأن لا يليق به أن يخاف أحدًا سوى الخالق - تعالى - فخلص بذلك من الأوهام المحيطة به من كل جانب. هدأ الله بعد ذلك روعه منه، وأعلمه أنه به رؤوف رحيم، بل أشفق عليه من الأم على ولدها، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. فأحبه المسلم لإحسانه إليه وقربه منه مع جلاله وخاف من عقابه إذا هو عصاه. فمن غمره الملك بنعمه كان له محبًّا ولكنه يخاف أن يقع منه ما يغضبه. ومع ذلك إذا عصاه الإنسان ثم رجع إليه وجد بابه مفتوحًا وغفرانه واسعًا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم} (الزمر: ٥٣) اللهُ أكبر. أين هذا الاعتدال في العقيدة من إفراط قوم يظنون أن الله لا يحب الإنسان إلا إذا قتل نفسه لتكفير ذنبه فأوقعهم ذلك في الإشراك الحقيقي وإن أنكروه وفي التشبيه والتجسيم وما خالف المعقول والمنقول. وأين ذاك الاعتدال من تفريط آخرين يعتقدون أن الله بعيد عنهم ولا يبالي بهم ولا يريد بهم خيرا. يزعم بعض من يدعي العلم من قسيسي المسيحيين أنه لم يرد في كتاب المسلمين ما يدل على حب الله لهم وحبهم له بل كل ما فيه الخوف والانزعاج منه فلذا أورد هنا ما ورد في القرآن الشريف في ذلك المعنى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: ١٦٥) {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: ٥٤) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: ٢٢٢) {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ} (البقرة: ١٧٧) {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه} (الإِنسان: ٨) وفيه من ذكر الرضى والرأفة والرحمة والغفران ما لا يوجد في كتب المسيحيين أنفسهم ويكفيك أن كل سورة مبتدأه بالرحمن الرحيم. فهل إله المسلمين قاس كما يهذون؟ إلا أن التعصب يعمي ويصم. والخلاصة: أنه بهذه العقيدة الصحيحة اجتثت جذور الوثنية من الأرض وكذا كل عقيدة اتفقت معها في الحقيقة وإن اختلفت عنها في الشكل وتبع ذلك طهارة العقول من الوساوس والخرافات التي أحاطت بالأمم الأخرى، فأي إصلاح أكبر من هذا؟ *** المساواة: قرر الإسلام أن أفراد البشر عند الله سواء وأنه لا ينظر إلى صورهم وأزيائهم بل إلى قلوبهم. وأن رحمته تعالى لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا وعذابه لمن عصاه ولو كان شريفًا قرشيًّا فلا فرق بين الغني والفقير، والصعلوك والأمير، والحر والعبد إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) فرفع بذلك كل امتياز موهوم بين الأفراد، ولم يجعل لأحد على الآخر سلطانًا إلا ما اقتضته حدود الشريعة؛ لدفع الأذى وحفظ الأمن وفيما عدا ذلك لا مسيطر على الإنسان إلا الله وحده، وليس بيننا وبينه تعالى حجاب أو واسطة {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١-٢٢) فلا كاهن ولا رئيس في الدين ليقرب الناس من رب العالمين. زال بذلك كل ما كان وضعه رؤساء الأديان الأخرى من الحجْر على العقول وعلى ما منحه الله لنا من الحرية كدعوى التوسط بين الله والناس في غفران الذنوب وإباحة ارتكاب بعض المحرمات في مقابلة دريهمات يأخذونها ومنع الناس من قراءة كتبهم الدينية إلى غير ذلك من المفاسد التي وقع فيها الأمم الأخرى بسبب عبارات وردت في كتبهم فهموها بهذا المعنى بحق أو بغير حق واستمروا على العمل بها إلى ما بعد مجيء الإسلام بعدة قرون ثم أخذ بعض الطوائف في الإصلاح بمثل ما أتى به ديننا القويم من قبل. أمكن المسلم بسبب ذلك أن يقف بين يدي الله تعالى وحده ويقرأ كتابه بنفسه ويفهم منه ما شاء أن يفهم فلا توسط ولا مراقبة ولا حجر. والناس غيره في عبودية وذل وغباوة وجهل. ذم الإسلام بعد ذلك التقليد ونهى عن متابعة الأهل في شيء إلا بدليل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧٠) وأمر المسلم أن ينظر في القول ليميز صدقه من باطله. بدون نظر إلى قائله {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) فأي دين أتى بمثل هذا كله؟ . *** العقل والعلم بالحقائق رائد الإيمان الصادق: امتاز القرآن الشريف عن غيره من الكتب الدينية بمخاطبة العقل في جميع العقائد والتحاكم إليه عند التخالف والتعاند، فلم يقرر عقيدة أو يرد أخرى إلا بالدليل العقلي. أي كتاب غيره أقام الدليل على حدوث العالم بحركات الأجرام السماوية؟ تذكر حجة إبراهيم على قومه في سورة الأنعام مثلا تأمل قوله في الرد على مَنْ عَبَدَ مريم والمسيح {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} (المائدة: ٧٥) وقوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: ٥٩) ردًّا على من اتخذ ولادته بدون أب دليلاً على ألوهيته. وقوله في إثبات النبوة: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور: ٣٣-٣٤) وقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: ١٦) وقوله {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: ٤٨) وقوله في عدم استحالة البعث {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (يس: ٨١) إلى غير ذلك من الآيات التي هي أساس علم الكلام كما بينا ذلك في المقال السابق. ولم يكتف بإقامة الحجة على العقائد فقط، بل لا تجد في الغالب أمرًا أو نهيًا إلا أتبعه بالدليل ولم يرض بالاستسلام والرضوخ بدون معرفة السبب فقال مثلاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣) أي أن الصيام الذي يقوي الإرادة، ويربي النفس على مراقبة الله تعالى ويعرفها مقدار النعم عند فقدها أعظم معد للتقوى. وقال في الحدود {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٧٩) وقال في الأخلاق: {وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: ٣٤) وغير ذلك كثير مما لم يأت في كتاب سواه فلا تجد صحيفة منه خالية من قوله: (لعلكم تعقلون. تتفكرون. يا أولي الألباب. لأولى النهي. لذي حجر ... إلخ إلخ) ثم ما ورد فيه بشأن العلم والعلماء كثير {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: ٤٣) {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٨) {َمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} (آل عمران: ٧) {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} (الزمر: ٩) وبذلك كله صار المسلم لا يبالي بعقيدة خالفت العلم الصحيح أو ناقضت حكم العقل فبينما تجد غيره يرضخ لعقيدة لا يفهمها ولا يمكنه أن يعبر عنها بما يجعله يفقهها بل يذعن ويسلم ثم يقيم الصلوات والأدعية لترسخ بالقوة في ذهنه؛ بينما تجد ذلك في غيره تجده هو يشق الحجب بفكره ويرقي إلى الملكوت الأعلى بعقله عملاً بقول كتابه {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: ١٠١) لا يطالب القرآن أحدًا بالإيمان لمجرد سرد قصص عن المعجزات وخوارق العادات بل أمر بالتدبر والنظر فيه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: ٢٤) وخالف بذلك سائر الكتب الأخرى وفتح للعقل بابًا واسعًا للبحث فيما أتى به حتى يجزم بأن صدوره من مثل محمد العربي الأمي صلى الله عليه وسلم ضرب من المحال. ولم يرد أن يغلق دونه الباب بتعداد حكايات لم تخل أمة من نسبة أمثالها إلى مؤسسي دينهم بل قد ورد في كلام بعضهم كالمسيح مثلاً ما يدل على إنكاره لها إن صحت الرواية عنه. وذلك قوله: (جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي) يريد بذلك أنه كما آمنت أهل نينوى بيونس لمجرد الوعظ فتؤمن الناس بي أيضًا؛ لهذا السبب بعينه بدون معجزة، وما ورد بعدها من قوله: (لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال) قال فيه المحققون من المسيحيين أنفسهم: إنه تفسير من جانب كاتب الإنجيل، وهو غلط لوجهين (الأول) : أن المسيح لم يمكث في بطن الأرض - على قولهم - إلا يومًا وليلتين كما هو صريح جميع الأناجيل و (الثاني) : أنه بعد قيامته لم يظهر لأحد من هؤلاء الطالبين، ولم يشاهده سوى بعض النساء وبعض المعتقدين فيه. فكيف يكون ذلك آية مقنعة للمخالفين؟ وخلاصة القول: إن هذه العبارة تنفي جميع المعجزات، ومع التساهل لا تبقي واحدة، وقد بينا لك حالها، فهذا هو شأن جميع الأديان التي لا حجة لها إلا أمثال هذه الأقاصيص والأعجوبات؛ فهل تقارن هذه بالدين الذي لا عقيدة ولا أمر ولا نهي ولا حكم فيه،إلا ويتبعه الدليل العقلي من نفس كتابه؟ فلله دره من دين أحيا العقل بعد أن أماتوه، ونهض به إلى حظيرة العلم بعد أن دفنوه، فأي إصلاح أكبر من هذا؟ *** رفع وهْم عن الناس في مسألة تأثير الشياطين: أتى الإسلام والناس جميعًا واهمون في مسألة تأثير الشياطين: رسخ في عقول الأمم كافة أن الأرواح الخبيثة مسلطة على الإنسان بالأذى؛ فإذا رأوا مفلوجًا أو مشلولاً، أو مجنونًا، أو أبكم، أو أصم، أو مصابًا بأي مرض آخر نسبوا ذلك إليها ؛ فامتلأت قلوبهم رعبًا منها، وخافوا من الأماكن القديمة، أو الخالية، أو المظلمة، أو من سقوط شيء على الأرض أو من دخول محال التغوط إلى غير ذلك من الأوهام التي لا يزال أثرها في نساء أهل مصر إلى اليوم. ويا ليت الأمر كان قاصرًا على ما ذكر، بل ظهرت نتيجة ذلك في أعمالهم وكانت سببًا في ضررهم ضررًا بليغًا؛ فإذا أصيب أحدهم بمرضٍ ما، تداووا بالعزائم والطلاسم وإيقاد البخور أو زيارة بعض القبور أو تعليق أوراق أو الاستنجاد براقٍ! حتى يتمكن الداء، وتستفحل العلة؛ فلا يقوى الطبيب على استئصالها أو إيقاف سيرها، ويموت الشخص ضحية للجهل والوهم؛ هذا كان شأن الأمم في هذه المسألة، وهذه كانت أفكارهم، وكانت تأتيهم الأديان، ولا تزيل عنهم هذه الخزعبلات المميتة للنفوس والأجسام، بل إن بعضها أيدها تأييدًا ونص على صحتها صريحًا؛ فنجد أن كل صحيفة من كتبها تدل على أن الشياطين هي علة هذه الأمراض كالصرع وأنواع الشلل، والبكم، والصمم، وأنواع الجنون، والعتاهة، وغير ذلك مما عرفت أسباب أكثره العلوم الطبية الحديثة، وما لا تعرفه قاسته على غيره لوجود التشابه العظيم بينهما، ولشفاء بعضه باستعمال العلاجات المادية المحضة كالمواد الكيميائية ونحوها. أتى الإسلام والناس على هذه الحالة فلم يشأ أن يتركهم وشأنهم يخبطون خبط العشواء في الليلة الدهناء، بل أصلح هذه كما أصلح غيرها مما يميت النفس والجسم معًا صغيرًا كان أو كبيرًا، وذلك بالإفصاح أن ليس للشيطان على الإنسان من سلطان إلا بالإغراء والوسوسة أن يؤذيه في جسمه أو عقله أو إحدى حواسه بشيء مطلقًا، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم} (إبراهيم: ٢٢) وقال تعالى في خطابه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر: ٤٢) وما ورد فيه من قوله: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: ٢٧٥) هو على سبيل التمثيل والتشنيع الذي ورد مثله في كل لغة مهما كان اعتقاد قائله فهو على حد قوله في مقام آخر: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات: ٦٥) [١] وتلك عبارة واحدة لم يرد غيرها. فليطالع القارئ العهد الجديد للنصارى مثلاً ليعلم الفرق بين هذا وذاك. بمثل هذه الحقائق التي قررها القرآن صار المسلم الحق لا يعبأ بالشيطان، ولا يخشى منه أذى أو ضررًا، إلا ما كان دعوة لشهوة، أو نحوها مما يجب عليه أن يحترس منه؛ فإذا أصابه مرض ما لم يستشف بقديس أو قسيس كما يفعل غيره بل يطلب الطب والدواء، ويأتي البيوت من أبوابها، فأعظم به من كتاب لم يهمل شيئًا فاسدًا إلا أصلحه. فبأي كتاب يمكن أن نقارنه؟ . الله أكبر أن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا الاعتقاد الصحيح لا يكون إلا باقتناع العقل بدليل لا بإرهاب أو ترغيب. فمن لم يطمئن قلبه بالبرهان لا يحصل له الإيمان، وإن تظاهر بشيء منه فهو منافق كذاب، فلا معنى لإدخال عقيدة في القلب، بواسطة التهديد بالقتل أو الضرب، وهذا ما لا جدال فيه، وعليه فاستعمال القوة للحمل على اعتقاد هوس وجنون وسعي فيما لا يمكن أن يكون؛ لهذا نهى الله المؤمنين عن الإكراه نهيًا صريحًا في عدة مواضع من كتابه العزيز {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: ٢٥٦) {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: ٩٩) ثم طيب قلوبهم بنحو قوله {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: ١٠٥) وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّك} (هود: ١١٨-١١٩) ففقه المسلمون أن ليس من وظيفتهم بالنسبة لغيرهم ما نهاهم الله عنه. أمروا بالقتال، ولكن لا للعقيدة بل لدفع الأذى وأمن الفتنة وحماية الدعوة {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال: ٣٩) الفتنة هي ما يفتن به المرء في دينه من أنواع الأذى والاضطهاد والمعنى: قاتلوهم حتى يأمن كل منكم على نفسه، ويكون دينه كله خالصًا لله لا يشوبه خوف أحد، أو كتمان شيء لعدم إغضابه أو إظهار آخر لا يدين به لأجل إرضائه، بل يكون دينكم وخضوعكم كله لله بدون مبالاة بغيره. ولو كان القتال لأجل الدين لما كان هناك معنى لقوله {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) وقوله {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: ٤) وهذه الآيات مدنية. نزلت وقد أعلن القتال وأنشبت الحرب أظفارها، فكيف ينهى عن قتال من لم يقاتل أو يعقد عهد مع المشركين، إذا كانت الحرب لأجل الدين؟ ولما أمر الله تعالى في سورة براءة بقتال المشركين الذين خانوا العهود، ونقضوا المواثيق وبدءوا بالعدوان، وكانوا مهددين للمسلمين في كل وقت وأوان، وخيف أن يدخل أحد في الإسلام حذر القتل - أمَّن كل من رغب فيه ليهتدي إليه بدون إكراه فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} (التوبة: ٦) والخلاصة: أن المسلمين إذا أمكنهم الدعوة إلى دينهم دعوا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولكن إذا هددت الدعوة، وخيفت الفتنه قاتلوا حتى يخضع المهدد لسلطانهم ويأمنوا شره، وبعد ذلك يعطفون عليه بالرفق واللين والإحسان وحمايته في مقابلة جزء يسير يدفعه من ماله وله أن يقيم على أي دين شاء. هذا هو حكم الجهاد في الإسلام كما يستفاد من مجموعة آي القرآن الواردة في هذا الشأن. أما ما خالف ذلك فليس من الإسلام في شيء ويكون الحامل عليه الملك والاستعمار لا الدين، وهذا مبحث آخر فليس للمسلم أن يقاتل من كان آمنًا منه، لأجل أن يكرهه على دينه، أو يسيء إلى من خالفه في الاعتقاد {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: ٨) أو يقطع علائقه مع أهله لأجل الدين {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: ١٥) أو يعاقب بأكثر مما عوقب به. أو يقتل في حربه شيخًا أو طفلاً أو امرأة. إلى غير ذلك من شرائع العدل والرأفة والرحمة؛ فأي دين بلغ من القوة ما بلغ الإسلام وعمل بمثل هذه القوانين العادلة؟ قارن ذلك بما فعله بنو إسرائيل مع غيرهم وما فعله النصارى مع مخالفيهم ومع بعضهم. يقولون: إن المسيح عليه السلام فاق محمدًا عليه الصلاة والسلام بالدعة والمرحمة، ونقول: هب أن ذلك صحيح فهل يقارن من عاش ثلاث سنين في الضعف والمسكنة بمن عاش ثلاثًا وعشرين وهابته الملوك والجبابرة؟ فما يدرينا أنه لو عاش مثل ما عاش وبلغ مثل ما بلغ ماذا كان يفعل؟ عاش محمد عليه السلام ثلاث عشرة سنة أو أكثر ولم يبدُ منه عداوة لأحد وعاش المسيح عليه السلام ثلاث سنوات فبدت منه البغضاء للناس إذا صح ما نقل عنه، نعم إنه قال: (أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم) ولكنه كان أول من خالف ذلك على روايتهم فقال: (من لم يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا) وقد برهن على هذا القول بالعمل حينما قيل له أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك فقال: (من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ومد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي، من يصنع مشيئة أبي هو أخي وأختي وأمي) وقال في مثل له: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فائتوا بهم إلى هنا اذبحوهم قدامي) فما هذا التناقض وما هذه الحال؟ والحق يقال: إن حب العدو فوق الطبيعة البشرية فمن أراد أن يغيرها لا يلتفت إليه، ولا يسمع له قول كما هو مشاهد في العالم الآن بأجمعه، ولكن الشريعة الإسلامية أتت لتقويم معوج الطبيعة لا لتغييرها وتبديلها فأمرت بما يقدر عليه الإنسان بجهد قليل بأن حثت على الإحسان إلي المسيء {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (الرعد: ٢٢) ومدحت ذلك ولكنها أقرت بأن الأخذ بالمثل لا ظلم فيه ولا عدوان ولكنها لم تندب إليه كما ندبت إلى الأول {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: ٤٣) فانظر الفرق بين ما وافق الفطرة، وبين ما حاول تبديلها. وهذا هو الشأن في كل المسائل التي خالف فيها الإسلام الأديان الأخرى المعروفة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) . *** إصلاح حال المرأة: أتى الإسلام وحال المرأة في اختلال: بنات موءودة وحقوق مهضومة، وذل واحتقار، حتى ظن بعض من كان يعتقد بنوع من البعث أن المرأة لا نصيب لها فيه. طلاق لأوهى الأسباب أو إمساك مع البغضاء والشحناء، تعدد لا حد له أو اقتصار على واحدة أوقع غيرها فريسة للفقر والأهواء، فماذا عمل الإسلام في هذه الحالة المختلة، وكيف أزال العلة؟ حرم وأد البنات تحريمًا بتًّا. وأنذر الناس عذابًا أليمًا يوم القيامة إن لم يتركوه {وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: ٨-٩) رفع شأن المرأة وحفظ حقوقها وجعل لها مثل ما عليها فقال {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: ٢٢٨) وهي درجة القوة والإنفاق كما ذكر في آية أخرى. ساوى بينها وبين الرجل في جميع الأوامروالنواهي الدينية {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب: ٣٥) وقال أيضًا: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} (آل عمران: ١٩٥) فعلم الرجل أنها قرينة له في الآخرة كما هي في الدنيا، ولا امتياز بينهما في ذلك. أمر بالإحسان إليهن في عدة مواضع ومعاشرتهن بالمعروف، ونهى عن إمساكهن ضرارًا. وطيب قلب الرجل إذا حصل فيه شيء من الكره بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: ١٩) حتى لا يتسرع إلى الطلاق لأقل سبب وأوجب عليه التروي وتحكيم حكمين من أهلها قبل أن يقدم على ذلك {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ} (النساء: ٣٥) الآية؛ لأن الطلاق وأن كان مباحًا لكنه أبغض الحلال إلى الله كما ورد في الحديث، أما إذا لم يمكن التوفيق بينهما لسبب ما من الأسباب فعدمه فيه حرج كبير مخل بالعائلة والنظام ويجر إلي ما لا تحمد عقباه ولذلك نجد من حرم عليهم في شريعتهم أخذوا يتخلصون من ذلك بكل وسيلة. قال المولعون بالأوهام أن إباحة الطلاق تقلل الحب بين المرأة وزوجها؛ لأنها مهددة به في كل وقت. ولكنا نقول: هل المرأة التي تعلم أن الجامعة بينهما قسرية اضطرارية تضمن حب زوجها لها أكثر من التي تعلم أنه لو لم يكن هناك حب لسهل افتراقهما؟ فما هذا القلب قلب الحقائق إلى الضد؟. كان تعدد الزوجات غير محدود عند العرب وعند غيرهم فوضع الإسلام له حدًّا كما هو معلوم، ولم يندب إليه وقيده بشرط عدم الخوف من عدم العدل، وفوائد الإباحة كثيرة، منها: (١) أن الإنسان إذا أصاب امرأته مرضٌ مزمن جعله ينفر منها فإما أن يبقيها أو يطلقها، أما طلاقها والحالة هذه فهو خلاف المروءة والإنسانية؛ إذ لا يمكنها أن تتزوج بغيره، وربما لا يكون لها عائل سواه، وإن أبقاها ولم يتزوج عليها تعطل نسله هو أيضًا، وتعرض للإصابة بأمراض كثيرة تنشأ من عدم القيام بهذه الوظيفة أو اضطرته الشهوة إلى الزنا، أما إذا كان هو المصاب بذلك المرض المزمن فطلاقها إذًا يكون عين الحكمة والصواب فتسلم من العدوى إن كان مرضه معديًا؛ فيمكنها التزوج بغيره والقيام بوظيفتها التناسلية أو الاشتغال بشيء تكتسب منه قوتها. وهذا أيضًا من فوائد الطلاق. فهل الطلاق والتعدد إصلاح للمرأة أم إضرار بها؟ ومثل المرض المزمن العقم في النساء فالتزوج عليهن خير حل لهذه المسألة وخصوصًا فيمن كان يطلب وارثًا له في مال أو ملك. (٢) عدد النساء أكثر من عدد الرجال فلو لم يبح التعدد لوُجد عدد كبير منهن لا حيلة لهن سوى الاتجار في أعراضهن كما هو مشاهد في أكثر بلاد أوروبا وذلك يجعلهن مبتذلات معرَّضات للأمراض وإذا افتقرن ومرِضن أو كبِرن في السن أو فقدن عضوًا منهن فلا مخلِّص لهن من سوء الحال سوى الانتحار. فهل في التعدد إصلاح أم إضرار بهن؟ هذا وإذا علمنا أن شهوة الرجال أقوى من النساء بكثير وأنهم يميلون إلى التعدد بخلاف الإناث كما هو مقرر في العلوم الباحثة في هذا الشأن أيقنَّا أن إباحة التعدد موافقة للنوع الإنساني من كل وجه، ولا ننكر أنها قد تجر إلى بعض مضار. ولكن باستعمال العقل والحزم يغلب نفعها على ضررها ولا يزول ما بين الرجل العاقل وبين امرأته من المودة والرحمة التي جعلها الله بينهما بسبب التعدد كما يتوهم البعض؛ لأن قلب الرجل يسع أكثر من واحدة كما أن قلب الأم يسع جميع أولادها، وقلب الأستاذ جميع تلاميذه النبهاء. فالتعدد لا يمنع من حب الجميع ألبتة ولا ينافيه. ولكنه ينافي العشق والغرام الذي هو أحد أمراض الحب. وأقصد بالعشق عبادة ذات مخصوصة والتفاني فيها بما يؤدي إلى الموت إن فقدت ومثل هذا لا يليق بعاقل وهو لا يدوم بل سريع الزوال فالحب المقصود وجوده هو المعبر عنه بقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) أي حب شفقة، وحنان، وحب أخلاق، لا حب ذات، وهذا لا ينافيه التعدد، فقد توجد المودة والرحمة، والشفقة، والحنان، وحب الأخلاق من شخص لكثيرين، ومتى علمت المرأة ذلك من الرجل، وعلمت أنه هو عائلها وكافلها أحبه قلبها رغم أنفها، وإن كرهت شريكاتها فيه. وهذا الكره ناشئ من شهوة الاستئثار بالنفع وهي شهوة لا يجوز للرجل أن يطيعها فيها إذا اقتضت الضرورة خلافها. ولو عقلت المرأة أن غيرها يود من يقوم بشؤونه مثلها، وأن قلة الرجال بالنسبة لهن تستلزم قيام رجل واحد بشؤون أكثر من واحدة لوجدت نفسها مخطئة في إيثار النفع الخاص على النفع العام. الأمر الذي تحاشاه ديننا القويم، والخلاصة أن الشريعة الإسلامية حلت مسألة المرأة أحسن حل، وأصلحت حالها إصلاحًا لم تأت به شريعة أخرى، وقد أخذت الأفكار في أوربا تتقرب إلى ما أتى به الإسلام بعد أن عادته عداء شديدًا مدة مديدة. الحديث شجون، إيثار النفع العام على النفع الخاص هو مما يعبر عنه المسيحيون (بإنكار الذات) . فهل الدين الذي يدعو المرأة لأن ترى غيرها شريكة لها في زوجها كالذي يدعوها لأن تستأثر بشخص وحدها، وترى غيرها من النساء يرحن ويغدون في الطرقات كل يوم إلى ما بعد نصف الليل ليحصلن على ما به يقتتن ويكتسبن؟ هل الدين الذي كان أهله في الصدر الأول يطلقون نساءهم ليزوجوهن إخوانهم من المسلمين ويطعموهن طعامًا هم أنفسهم محتاجون إليه يقال عنه أنه لم يعلمهم إنكار ذاتهم! ! ألم يرد في كتابهم قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: ٩) هل الدين الذي كان صاحبه يدعو ربه لينجيه من القتل والصلب بقوله على زعمهم: (إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس) وزعمهم أنه لما حصل بالفعل ضجر وخارت قواه وصرخ قائلاً: (إلهي إلهي لماذا تركتني) كالدين الذي كان صاحبه لا يبالي بالأذى والقتل في سبيل نصرة الله ودينه وقد احتمل من الاضطهادات مدة ثلاث وعشرين سنة ما لم يحتمله سواه وهو يتلو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاّ} (التوبة: ١١١) الآية، أيهما برهن للعالم على إنكاره لذاته في سبيل هداية الناس وإرشادهم إلى الحق مهما أصابه، وكان يقابل سهام العدو بصدره وحده، ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ؟ الله أكبر. أين هذا من ذاك. فما كان أغنانا عن هذا الجدال كله لولا اعتداؤهم علينا. هل أوجب المسيح الزكاة، والصوم، والحج على متبعيه مثل ما أوجب القرآن. أليس في هذه الثلاث أكبر معنى لإنكار الذات ونفع الناس والاستعلاء على الشهوات ووطئها بالأقدام، وتحمل المصاعب والمشاق للحصول على رضوان الله. أبعد ذلك يقولون إن المسلمين لا يعرفون معنى لإنكار الذات الذي يطنطنون به ويدعونه بألسنتهم، وهم أبعد الناس عنه وأكثرهم انغماسًا في الملاذ والشهوات. ولكن ليقف القلم عند هذا الحد ولنرجع إلى ما كنا فيه. ((يتبع بمقال تالٍ))