للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أبو بكر خوقير الكتبي


فصل المقال في توسّل الجهال

ألَّف الشيخ أبو بكر خوقير الكتبي أحد علماء مكة المكرمة كتابًا جديدًا سمَّاه (فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال) واسمه يدل على مسمّاه،
وقد أحسن فيه ونصر السنة وخذل البدعة، وقد طبع في هذه الأيام بمطبعة المنار على حساب الحاج عبد القادر التلمساني الفاضل السلفي، وإننا نورد خاتمته على
سبيل النموذج، وهي:
(ولنختم هذه العجالة بكلام صديقنا العلامة الشيخ محمد طيب المكي في
رسالته في التوحيد، فإنه خلاصة ما كتبناه فيها، قال - حرسه الله ووفقه -: الأمر
أنه ينبغي أن يعتقد أنه لا تصرف لغير الله سواء كان ذلك التصرف ابتداءً أو مترتبًا
على تصرف آخر كأن يخلق شيئًا ويخلق بذلك شيئًا آخر، وهذا هو القول بالأسباب
ولكن مع الاعتراف بأن الله قادر على خلقه مع قطع النظر عن السبب أخذًا بعموم
قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} (النحل: ٤٠) ... الآية، وأيضًا فقد
نفى الله معاونة غيره له، حيث قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ
يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} (سبأ: ٢٢) لا هبة كما
تزعمه كفار قريش حيث يقولون: لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك!
ولا كما تزعمه المعتزلة من أن العبد أُعطي قدرة يخلق بها أفعاله، ولا كما تزعمه
غلاة المنهمكين في الأولياء من أن لهم التصرف، وأن الله أعطاهم تصرفًا في العالم
وأنهم يولون ويعزون ويذلون.. ولا أصالة ولا قائل به، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} (سبأ: ٢٢) بخلق شيء من أجزاء العالم. وفيه رد أيضًا على المعتزلة؛ إذ العبد
لو خلق فعله لكان له في العالم شرك في الجملة {.. وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} (سبأ: ٢٢) رد على الفلاسفة القائلين بتوسط العقول وعلى كل من يرى مثل ذلك
الرأي {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: ٢٣) رد على الذين
يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عنده زلفى، وعلى القائلين إن الصالحين الذين
نذهب إلى قبورهم ونستجير بهم ونستغيث - وإن لم يكونوا ملاكًا ولا ظهراء
ولا شركاء - فهم أصحاب رتب ومقامات عند الله فهم شفعاء فقال: {وَلاَ تَنفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: ٢٣) ، فكيف لنا معرفة من أذن له؟ فإن نهاية
ما ثبت من ذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء والملائكة والصالحين
يوم القيامة بعد الإذن، وبعد أقوال الأنبياء: نفسي نفسي ما عدا النبي صلى الله
عليه وسلم، ولم يثبت أنهم يشفعون في كل منهم، بل الخلاف واقع في سماعهم
النداء وعدمه , وأيضًا من أخبرنا بأنهم أحباب الله على أن الاستشفاع ليس ممن
تشافهه ويجيبك بأني أشفع لك، ومع ذلك لو قال: أشفع، لا ندري هل تقبل
شفاعته أم لا؟ والدعاء مقبول قطعًا إما في الدنيا أو تعوض عنه في الآخرة. على
أنه من القواعد الشرعية أن من أطاع شيئًا أو عظّمه بغير أمر الله ذمَّه الله وغضب
عليه كما سنقرره، وأيضًا من التوحيد الذي يحتاج فيه إلى الرسل تخصيصه بالعبادة
والدعاء قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: ٣٦) ،
{أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (يوسف: ٤٠) ، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ
هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} (الأحقاف: ٤) ، {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن:
١٨) ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) ،
وعن ابن عباس- رضي الله عنه - قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه
وسلم يومًا فقال: ياغلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت
فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح،
ورواه الحافظ ابن كثير بأطول من ذلك، فمن دعا غير الله مستعينًا به أو طالبًا منه
كمن قال: يا شيخ فلان أغثني، على سبيل الاستمداد منه - فقد دعا غير الله وهذا
الدعاء منع عنه الشارع؛ إذ لا يُستعان إلا بالله {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) .
واعلم أن مَن أطاع مَن لم يأمر الله بطاعته أو من أمر بطاعته من وجه دون
وجه فأطاعه مطلقًا، فإن الله سمَّى ذلك المطيع عابدًا لذلك المطاع ومتخذه ربًّا، قال
الله تعالى: {لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (يس: ٦٠) {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} (مريم: ٤٤) ، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} (التوبة: ٣١) ، {أَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الفرقان: ٤٣) ، فإذن ليس لأحد أن يعبد غير الله ولا أن
يدعوه، وليس العبادة إلا نهاية الخضوع، والدعاء مخ العبادة، وأما من قال:
أتوسل، أو: بحق. فالعلماء منهم من يحرم ذلك مطلقًا ومنهم من يجعله مكروهًا كما
نص عليه في الهداية، ومنهم من يجيز التوسل بالأحياء دون الأموات كما فعله
عمر رضى الله عنه، ومنهم من يخصه بالنبي صلي الله عليه وسلم، ومنهم من
يجيزه، وعلى كلٍ فهو لم يطلبه الشارع منا وقد وقع فيه شبهة فتركه أولى من هذه
الحيثية وسدًّا للذرائع؛ لأن الجهلة لا يفرقون بين التوسل والاستشفاع والطلب من
المتوسل به مع أن الاستشفاع لا يكون إلا في يوم مخصوص، والطلب من غير الله لا
يجوز، ولو تأملت الأدلة الواردة بالتجويز مع ضعفها فإنها لا تفيد إلا جوازه بالنبي
صلى الله عليه وسلم، فهو الوسيلة المقطوع بقربه من الله تعالى وأما غيره فما يدرينا
به، ومن العجب أن يترك التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتوسل بغيره. جعلنا
الله وإياكم من المتبعين لا من المبتدعين) انتهى.
وله رسالة مطبوعة في الهند في قول العامة: يا شيخ عبد القادر شيء لله،
ولكثير من علماء بغداد ومصر والشام واليمن والهند أبحاث شريفة في هذا المقام
لا نقدر علي إيرادها في هذه العجالة، أما أهل نجد فلهم في ذلك المؤلفات الكثيرة
وهم أول من نبَّه الناس لذلك في القرن الماضي، ولقد قال بعض السادة من أهل
حضرموت: لو لم يقيِّض الله أولئك القوم لتلك النهضة لعكف الناس على القبور
كافة ولم يحصل من العلماء إنكار ولا أخذ ورد ولم تتحرك لذلك الأفكار، وأما ما
دار بينهم وبين الناس من القتال فقد كان سببه مَن منعهم الحج وتحرش بهم ووصل
إلى ديارهم فجرَّأهم حتى حصل ما حصل فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن نظر في
كتبهم عرف ما يفتريه الناس في حقهم، وأن مرجعهم في الأحكام والاعتقاد إلى
كتب السنة والتفسير ومذهب الإمام أحمد وطريقة الشيخين ابن تيمية وتلميذه ابن
القيم، فلهما الفضل على جميع الناس في هذا الباب كما يعترف بذلك أولو الألباب
وهذه كتبهما قد نشرها الطبع، فنطقت بالحق وقبلها الطبع، فمَن أراد الاحتياط
ورام التحري والوقوف على الحقيقة فلينظر فيها وفي كلام من انتقد عليهما من
المعاصرين لهما وليحاكم بينهم بما وصل إليه من الدليل المحسوس والبرهان، وما
صدقه الضمير والوجدان، فإن الزمان قد ارتقى بالإنسان كما يقتضيه الرقي
الطبيعي فمزق عنه حجب الاستبداد، وفك عنه قيود الاستعباد، ورجع به إلى
الحكم بما في الصدر الأول والطبع العربي، ولقد تنازل في المحاكمة من يحاكم بين
غير الأقران والمعاصرين في الزمان، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في أعلام
الموقعين: (فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم طالب للدليل محكّم له متبع
للحق حيث كان وأين كان ومع مَن كان - زالت الوحشة وحصلت الألفة ولو خالفك
فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفّرك أو يبدعك بلا حجة
وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة، فلا تغتر بكثرة هذا الضرب فإن
الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم
يعدل بملء الأرض منهم.
واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان
وحده، وإن خالفه أهل الأرض، قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذًا
باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد
الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ثم سمعته
يومًا من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلّوا
الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال قلت: أصحاب
محمد ما أدري ما تحدثونه؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها
ثم تقول لي: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة.
قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما
الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة
ما وافق الحق وإن كنت وحدك، وفي لفظ آخر: فضرب على فخذي وقال: ويحك،
إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى، وقال
نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يفسدوا
وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ، ذكرهما البيهقي وغيره، وقال بعض
أئمة الحديث: وقد ذكر له السواد الأعظم فقال: أتدري من السواد الأعظم؟ هو محمد
ابن أسلم الطوسي وأصحابه، فمسخ المتخلفون الدين وجعلوا السواد الأعظم والحجة
والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عيارًا على السنة وجعلوا السنة بدعة والمعروف
منكرًا لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار وقالوا: من شذ شذ الله به في النار
وما عرف المتخلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحدًا
منهم فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا فكانوا هم
الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم على الباطل وأحمد
وحده على الحق فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل،
فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتي
يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم وينتظرها خلفهم منن المؤمنين {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٢٣) انتهى.
ومثل ذلك في كتب الشافعية منهم أبو شامة قال في كتاب البدع والحوادث:
وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك
بالحق قليلاً والمخالف كثيرًا لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد
النبي صلى الله عليه وسلم. ثم نقل عن عمرو بن ميمون عن البيهقي في كتاب
المدخل. ومنهم الشعراني قال في كتاب الميزان: قال سفيان الثوري: المراد
بالسواد الأعظم هو مَن كان من أهل السنة والجماعة ولو واحدًا، وفي رواية عنه:
لو أن فقيهًا واحدًا على رأس الجبل لكان هو الجماعة اهـ.
وحسبنا قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل: ١٢٠) أي قام بما
قامت به الأمة، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله
حنيفًا ولم يكُ من المشركين تشبيهًا له بإبراهيم، كما قال الشاعر:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
فليجتهد طالب الحق أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدعُ بما
رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل: (اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل
فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط
مستقيم) اهـ.