وضع الماء البرود في المرجل , والتهب العشب تحته واشتعل وهو يستجير من النار , ولا مستجيب لمن استجار , ويستغيث , ولا مغيث , قد تطاير من الغيظ شراره , وأحاطت بالدهماء ناره , وسرى الحرور , في جسم التأمور [١] , ولم يقو حجاب المرجل الكثيف , على رد ذلك الساري اللطيف , كأنما تحالفا على تصعيد الأباب [٢] لسبب من الأسباب , وبينما تتساءل جواهر الماء , عما حل بها من اللأواء , إذ خف الجزء الملامس لأسفل الإناء , وصعد مسرعًا كأن له حاجة في السماء , فأمسك به سائر السلسال , ومنعه من الرقي في الحال , وخلع عنه ثوب سُعاره [٣] , وبرَّد حر ناره , وما لبث الحزء الذي حل محله , أن صار مثله , وكلما نزل شيء من الأباب إلى القرار , صب عليه الجَوْب سوط عذاب فلجأ إلى الفرار [٤] فكثر الهيج والاضطراب , والأنين والانتحاب , وفكر كل في ساعة الفراق ولمّا تقع , فبكى وتوجع , كأن ابن المعتز عناه بقوله: وإذا فكر في البين بكى ... ويحه يبكي لما لم يقع فقال الماء بلسان أزيزه للعشب , قولاً يفهمه ذو اللب , أيها الولد العاق لوالده لم كويتني بنيرانك؟ ولولاي ما ذقت لذة الوجود فكيف قابلت إحساني بكفرانك , أما أنا السبب في نموك ونضرتك , وبي اكتسبت حلل جمالك وبهجتك , فتبًّا لك على هذا الجزاء , وبُعدًا لك يا عديم الوفاء , فأجابه العشب بلسان لهبه , وهو يتميز من غضبه , أيها الجاني على نفسه بنفسه , والباحث على حتفه بظلفه , والأحمق الذي لم يعر المستقبل نظره , ولم يجل فيه فكره , لا تنطق ببنت شفه , واعلم أنك من الهلاك على شفا. نعم كنت أنت السبب في وجودي ولكن لشقائي وتعذيبي. فكيف تفخر علي وما تراني فيه هو منتهى نصيبي , فأنا الآن أنتقم منك بما قدمت يداك , وأوقعك فيما أوقعتني فيه والدنيا شراك , ثم ما لبث الماء أن فار وغلى , وطلب الصعود إلى العلى , فأخذت جواهره تودع بعضها , وتتطاير بخارًا ساكبة دمعها , تبكي على أيام قضتها في الراحة والطمأنينة , حيث لا نزاع ولا ضغينة , وقد فسح الهواء لمرورها طريقًا , بعد أن ضيق عليه بضغطه تضييقًا. فذهب في وسط بارد خلعت فيه ثوب حرارتها. ورجعت إلى قديم حالتها , وانقلب السخين سلاسلا [٥] , وعاد المسيط [٦] هلاهلا [٧] اهـ.