للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التعصب على المنار

هاج بعض غلاة التعصب على المسلمين هيجة شؤمى على المنار في هذا
العام، وجدّدوا السعي إلى الوكالة البريطانية أولاً وبالذات، وإلى الحكومة المصرية
ثانيًا وبالتبع، لتبطش بصاحب المنار فتلقيه في غيابة السجن، أو تنفيه من أرض
مصر، استعانوا على محلهم وسعاتهم ببعض القسيسين وغير القسيسين من الأجانب
والوطنيين، ونفثوا سموم تعصبهم في جرائد القبط وبعض الجرائد الإفرنجية التي
يحرر فيها بعض السوريين. وكان محضاء نار هذه الفتنة، والمدبر الأول لهذه
المكيدة، يوسف الخازن اللبناني الذي يعيش من التحرير في جريدة الوطن القبطية،
وجريدة دوكير الفرنسية، وهو الراسخ في بُغْضِ المسلمين الذي نُقل عنه أنه قال:
إذا صافحه مسلم تضطرب أعصابه، ولهذا لا تكاد تراه يبدأ مسلمًا من معارفه
بالمصافحة.
وقد عرف القرَّاء مما كتبناه في الجزء الماضي شيئًا من خبر هذه الهيجة
التعصبية على المنار، ولعل أن أدباء القراء ظنوا أن ما كتبناه في الجزء الماضي
قد أطفأ - بما يتجلى فيه من حسن نيتنا - نيرانهم، واستخرج بحججه وسماحته
أضغانهم، كلا؛ إنه لم يزدهم بغيًا وعدوانًا، وسعايةً ووشايةً وزورًا وبهتانًا، فنحن
نثبت من تاريخنا وممّا كتبناه في المنار من أول نشأته إلى الآن، أننا طلاب تسامح
ووفاق، وهم يريدون أن يتبدلوا الشيء بضده فيوهموا مَن يسمع كلامهم أننا دعاة
عداوة وافتراق، نَحْقِر النصارى وندعو المسلمين إلى بغضهم وعداوتهم لأجل دينهم!!
حَسْب الإنسان أن يُعلم من نفسه ومن نيته السعي للخير، والإخلاص في
العمل، فإن كان يبالي باطلاع الناس على عمله ومظاهر حسن قصده، لأجل
الأسوة الحسنة، والتعاون على الخدمة العامة، فحسبه أن يعرف أهل الإخلاص
وحسن النية منه ما يعرفه من نفسه.
ونحن ولله الحمد والمنّة أصحاب تاريخ معروف، وأثر في السعي إلى
الإصلاح والاتفاق مدوّن مطبوع، يعرفه قراء العربية، ولا يجهله خواص الأمم
الإفرنجية، وحسبك ما نَوَّهَ به - في العام الماضي - أصحاب المجلة الفرنسية
المصرية بمصر، وجريدة فرنسا الإسلامية في باريس، من حسن تأثير خدمة
المنار في المسلمين بحملهم على التسامح والمدنية، وما سمّوه (المدرسة العبدية)
هو ما بثه المنار من مشرب شيخنا الأستاذ الإمام من إثبات التسامح الإسلامي
والدعوة إليه، والتأليف بين قواعد الإسلام الثابتة، وبين المدنية الصحيحة. وما
قالته هاتان الصحيفتان أخيرًا هو صدى ما كتب في جريدة الطان من بضع سنين في
سياق الكلام عن مسلمي تونس، وما كتبه لورد كرومر عن حزب الشيخ محمد عبده
في تقريره الذي ذكره في عقب وفاته، وهل لمشرب الشيخ محمد عبده وآرائه
مظهر عرفت به في الأقطار، غير مجلة المنار؟ ؛ بل نقول إن هذا المشرب مما
اتفق فيه رأينا مع رأي الأستاذ رحمه الله تعالى، ولم يكن مما تلقيناه عنه، وما لنا
فيه من القول والسعي أكثر مما كان له.
ومن الشواهد على ذلك ما كتبناه في فاتحة العدد الأول من المنار، وفي أول
نبذة فيه بعد الفاتحة، ولم نكن يومئذٍ تلقينا عن الأستاذ درسًا، ولا بسطنا معه في
هذه المسألة وأمثالها قولاً.
قلنا في بيان خطة الصحيفة وما أنشئت لأجله ما نصه: (وتحاول إقناع
أرباب النِّحَل المتباينة، والمذاهب المختلفة، أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ
والتوادّ والبر والإحسان، وأن المعارضة والمناهضة، والمناصبة والمواثبة،
تفضي إلى خراب الأوطان وتقضي على هدي الأديان) .
وبينت في النبذة التي بعد المقدمة أن لفظ الكفر لم يستعمل في الكتاب والسنة
للإهانة؛ بل لبيان حقيقة من الحقائق. وأنه يستعمل الآن في غير ما كان يستعمل
من قبل، ومنه إرادة السب والشتم، فلا يجوز أن يوجه بهذا المعنى في الخطاب
بنداء أو وصف إلى مَن حرَّم الشرع إيذاءَهم وجعل لهم حقوقًا محترمةً من الذمّيين
والمعاهدين (الأجانب الذي بينهم وبين المسلمين عهود على ترك الحرب أي غير
المحاربين) واستخرجت نصًّا من كتب الفقهاء على ذلك لا حاجةَ لإعادة ذكرِه هنا.
بعد هذا التمهيد أقول ليوسف الخازن وأصحاب الجرائد القبطية من غلاة
التعصب ومبغضي المسلمين كيفما كانوا، ولجميع ما هو مثلهم من وطني أو أجنبي:
قولوا فينا ما شئتم، وظنوا ما شئتم، واعتقدوا ما شئتم، وهيجوا مَن شئتم،
ولتدب عقارب سعايتكم إلى مَن شئتم، فنحن لا نبالي بكم، ولا نأبه لرضاكم ولا
لسخطكم، فمَن أخطأ إلى مثلكم فهو الذي يحسن منه أن يصرَّ ولا يعتذر؛ إذ لا
صارف لكم عن شيء من الشرّ، إلا مكانتكم من الضعف والعجز، وها أنتم أولاء
قد أجمعتم كيدكم، وبذلتم في سبيل إيذائنا جهدكم، فما كنتم إلا خائبين مخذولين؛
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} (يونس: ٨١) نعم، لو كان ساسة الإنكليز
كساسة القبط في عقولهم وأخلاقهم، وكان لورد كتشنر كيوسف الخازن في تعصبه
وحنقه على المسلمين، لأقفل المنار، ونفي صاحبه من هذه الديار، وتبعه إقفال
الأزهر بعد دار الدعوة والإرشاد، ولو رأيت من جمهور المشاركين لكم بلقب الدين ما
رأيت منكم، لقلت للمسلمين إنه قد ظهر لي في السنة السابعة عشرة من دعوتي
إياكم إلى الاتفاق والتعاون مع هؤلاء الناس على ترقية البلاد، إنهم لا يمكن أن
يتفقوا معكم، ولا يرضيهم منكم إلا خروجكم من دينكم، أو إقامتكم فيه على خوف،
لا تدفعون عنه بحق، ولا تقابلون محاولي إبطاله وإخراجكم منه بالمثل ولا دون
المثل؛ ولكن من فضل الله على عباده أن مثل هؤلاء الغلاة قليل، ولهذا لا نيأس
من خطتنا، ولا نرجع عن قاعدتنا وهي:
(نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) .