تمهيد هاجر صاحب هذه المجلة من الديار السورية إلى الديار المصرية في شهر رجب سنة ١٣١٥ عقب انتهائه من طلب العلم في طرابلس الشام , وأخذه شهادة التدريس (العالمية) لأجل القيام بعمل إصلاحي للإسلام والشرق، لا مجال له في بلد إسلامي عربي غير مصر، والاستعانة عليه بصحبة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) والاقتباس من علمه وحكمته، والوقوف على نتائج اختباره وسياحته وعمله مع حكيم الشرق وموقظه من رقدته (السيد جمال الدين الأفغاني) قدس الله روحهما. وكنت قبل ذلك أمني نفسي بالالتحاق بالسيد الحكيم ولزامه ومرافقته في ترحاله وإقامته، فلما توفاه الله - تعالى - إليه نَضَيت عني رداء التمني والتواني، وقلت: لئن فاتني لقاء المعلم الأول فلن يفوتني لقاء الثاني [١] ، وأنشأت (المنار) في أواخر تلك السنة، ولم أكن أنوي أن أشتغل بالسياسة، ولا بالإصلاح من طريقها، بل بالإصلاح الفكري والنفسي والاجتماعي، ولكن السياسة السوءى عدوة الإصلاح ترى بقاءها بفقده، وحياتها بموته، فهي لا تترك القائم به إذا هو تركها، وقد كان دعاني عبد القادر أفندي القباني صاحب جريدة (ثمرات الفنون) إذ كاشفته في بيروت بعزمي على السفر إلى مصر وإنشاء صحيفة إصلاحية فيها - إلى رياسة التحرير لجريدته، فقلت له: ليس في البلاد حرية تمكنني من ذلك، قال: اترك الطعن في السلطان، واكتب في الأخلاق والآداب ما تشاء، فلا تجد مانعًا ولا معارضًا، قلت: أرأيت إذا بحثت في الكذب الذي هو شر الشرور على الإطلاق، وبينت أن أكبر أسباب فشوه وانتشاره هو الاستبداد المانع من قول الصدق، والمعاقب على التزام الحق، أيمكنني أن أنشر هذا في الجريدة، وأكون آمنًا من عقاب الحكومة؟ قال: كلا، إن أمثال هذه المباحث لا يمكن نشرها في غير مصر! فعجل بالسفر ولا تخبر بعزمك أحدًا لئلا يصل الخبر إلى الوالي فيمنعك منه. صادرت حكومة سورية العدد الثاني من المنار بعد توزيعه، لمقالة فيه عنوانها (القول الفصل في سعادة الأمة) ليس فيها ذكر لحكومتها ولا لغيرها من الحكومات بسوء، ثم صدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع المنار من دخول مملكته في الشهر السادس من عمره، وتلا ذلك اضطهاد والدي وإخوتي لأجلي بعد خيبة سعي السياسة لإخراجي من مصر، وعرض ما أحب من المناصب والوظائف العلمية أو غيرها في ديار الشام أو غيرها، وبذلك حرمت من زيارة وطني إلى أن أعلن الدستور سنة ١٣٢٧ فزرته عقب إعلانه إذ كانت البلاد ترقص به طربًا، والناس يحتفلون فيها لإظهار سرورهم بالخطب والأناشيد، ويحتفون بمن يعود إليهم من المهاجرين المجاهدين، والأحرار المنفيين وأشباه المنفيين، ويتحاورون ويتناجون بما يجول في خواطرهم من الأماني والآمال، وما يرجون من كبار الأعمال، ويقدسون جمعية الاتحاد والترقي، ويطرون من عرفوا أسماءهم من زعمائها، ويكرمون كل من لقوا من أعضائها. قد علم قراء المنار في ذلك العهد أنني كنت بإعلان الدستور مسرورًا لا مغرورًا، وراجيًا خائفًا، لا راجيًا متمنيًا، ولكنني رأيت الناس في البلاد العثمانية سكارى من تأثير ذلك الانقلاب، أكثرهم يحسب أن البلاد سعدت سعادةً لا شقاء بعدها وأقلهم منزعج ممتعض لما فاته من المال والجاه في ظل الحكومة الحميدية، وهم أعوان تلك الحكومة وجواسيسها، وقد أشرت إلى أسباب خوفي ومثاراته في أول مقالة كتبتها في الترحيب بالانقلاب، وأهمها توقع استبداد رجال الثورة من الاتحاديين، وقيامهم بالعصبية الجنسية، ودعوى (الحاكمية التركية) والغلو في الحرية. لذلك كانت نصيحتي لأهالي بلادي السورية التي أبثها في الأندية والسمار وأوادعها أكثر الخطب السياسية والأدبية - هي تذكيرهم بما يجب من العناية بالعلم واللغة العربية والتهذيب والثروة؛ ليكونوا أحياءً أعزاءً بأنفسهم، وعضوًا رئيسًا في بنية دولتهم، وقد رجوت أن أجد ثلةً من الشبان المفكرين، والكهول المحنكين أولي عزيمة وشكيمة، وأخلاق قوية، ينهضون بذلك متعاونين، فلم أجد عند أحد أملاً في العمل للأمة من طريق الأمة، بل وجدت الأعناق كلها متلعةً إلى الحكومة، والآمال كلها موجهةً ومحصورةً فيها، فحزنت حزنًا شديدًا، ونبهت الجمهور إلى غرورهم بالحرية الموهومة والسعادة التي يتمنونها من إعلان الدستور في مجالس كثيرة، كان أوضحها وأظهرها خطبة ألقيتها في نادي الجمعية العثمانية في بيروت في احتفال كبير دعيت إليه، عرَّضت فيها بتلك الاحتفالات العظيمة بالحرية، وشبهتهم فيها (بعاشق أم عمرو) إذ هام صبابةً بها، وهو لم يرها ولا شاهد شيئًا من محاسنها، وإنما سمع رجلاً ينشد في الطريق: يا أم عمرو جزاك الله مكرمةً ... ردي علي فؤادي أينما كانا فاستنبط من هذا البيت أن أم عمرو أجمل النساء، وأجدرهن بأن تعشق فعشقها، ثم لم يلبث أن أخذه من الحزن والجزع لفراقها بقدر ما أصابه من الشغف، والصبابة بها، لبيت آخر من الشعر سمعه من رجل آخر مار في الطريق فاستنبط أنها ماتت، وهو: لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار هكذا صرخت بأولئك الجماهير إنني أخشى أن تكونوا رقصتم طربًا وهمتم سرورًا بحرية متخيلة موهومة، وأن ينتهي الأمر بيأسكم منها وبكائكم عليها قبل أن تروها وتتمتعوا بما ترجون من السعادة بها، وهكذا كان، ووقع ما كان عندي ولم يكن عند الجمهور في الحسبان، ولم يحل الحول على تلك الحرية الاتحادية، وتقديس جميع الشعوب العثمانية لرجال جمعية الاتحاد والترقي، حتى نجم في الجمعية قرنا الاستبداد والعصبية التركية، فنطحت بهما الحرية والدستور وآمال الشعوب العثمانية فيهما حتى قضت عليهما فلم يبق لهما في البلاد العثمانية عين ولا أثر، وما انقطعت آمال هذه الشعوب من الدولة التي دانوا لسلطانها عدة قرون إلا وتجددت لهم آمال أخرى في حياة الاستقلال القومي، بل صاروا يفضلون الزوال على الخنوع لاستبداد هذه الجمعية المغرورة المتهورة المتكبرة. كانت الدولة العثمانية في القرون الأخيرة، التي قويت فيها دول أوربة واعتزت وتواطأت على استعباد الشعوب الآسيوية والأفريقية - هي الدولة الإسلامية الوحيدة المعترف لها بالحقوق الدولية معهم، لذلك كان حرص المسلمين على بقائها وإعلاء شأنها عظيمًا جدًّا، وكان تعلق الشعوب الإسلامية بها أكبر قوةً لها في نظر دول أوربة بما كانت تتقي إيقاظ شعورهم السياسي بما يوحيه إليهم من الوحدة والاستقلال، ولم تكن لهذه الدولة هذه القيمة إلا بكون بلاد العرب التي هي مهد الإسلام وموطن نشأته الدينية والمدنية جزءًا طبيعيًّا منها، ولكن الاتحاديين المستكبرين احتقروا العرب وبلادهم ودينهم، فلم يرقبوا فيهم إلاًّ ولا ذمةً، ولا دينًا ولا حرمةً، فاضطهدوهم وأذلوهم، وحاولوا إبطال لغتهم التي هي لغة كتاب الله ودينه استغناءً عنها، ومحاولةً لنسخها باللغة التي جعلوها لغة (حاكميتهم الملية) وجعل بلادهم الخصبة كسورية والعراق تركيةً محضةً، وجزيرتهم مستعمرةً للترك يتصرفون فيها تصرف المالك في عقاره، والسيد في عبيده وإمائه. فلما رأيت هذه السياسة الاتحادية السوءى رحلت إلى الآستانة دار الملك ساعيًا لتلافي خطرها، وإيقاف ما كاد يستشري من ضررها، قبل أن يتسع الخرق على الراقع، فمكثت في دار الملك سنةً كاملةً أطَّلع طلع القوم بمحاورة زعمائهم ووزرائهم، ومذاكرة علمائهم وعقلائهم، وما عدت من تلك العاصمة إلا وأنا موقن بأن هذه الجمعية ستقضي على هذه الدولة، وأن اضطهادها بسلطة الحكومة للعرب سيعيد إليهم عصبيتهم الجنسية التي فقدوها في بلاد حضارتهم كسورية والعراق، وعولت على السعي لجعل القاعدة التي يرفع عليها بناء النهضة العربية هي العلم والثروة والوحدة؛ حتى لا تتوقف حياتهم على حياة الدولة، ولا يموتوا بموتها، مع الحذر من أن يكونوا - باختيارهم - سببًا من أسباب سقوطها، والاجتهاد في موالاة الشعب التركي، والتعاون معه على مكافحة النزعات الإلحادية والنزعات المادية، وقد أسس في أثناء إقامتنا في الآستانة (المنتدى الأدبي) لجمع كلمة شبان العرب المشتغلين بتلقي العلوم والفنون في مدارسها، والتعاون على طلب العلم والتعارف، والتآلف في سبيل الارتقاء. بعد العودة من الآستانة بأشهر رحلت إلى (الهند) فمسقط فالكويت فالبصرة فبغداد فسورية، واتفق بعد وصولي إلى سورية أن ظفر حزب الحرية والائتلاف في الآستانة بحزب جمعية الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين، وما كان الفلج لهذا الحزب إلا بتألفه من أحرار العرب ومنصفي الترك، وكانا حزبين فاتحدا وصارا حزبًا واحدًا، فرأيت السواد الأعظم من السوريين فرحين مغبوطين بخذلان الاتحاديين بقدر ما رأيت قبل ثلاث سنين من اغتباطهم وافتخارهم بالانتماء إليهم، وانتمى الأكثرون منهم إلى الائتلافيين خصومهم، وخفتت أصوات من بقي من أتباعهم، فكان الألوف من الناس يجتمعون في الأندية والمحافل يتبارون في إلقاء الخطب والقصائد في الطعن فيهم والتشفي منهم، بعد أن كانت تلقى في الفخر بهم والثناء عليهم، وابتغاء الزلفى عندهم والوسيلة إليهم. ثم أديل لهم من خصومهم الائتلافيين في عاصمة الملك، فنكلوا بهم شر تنكيل ولم ينج من زعماء هؤلاء الخصوم إلا من فر متنكرًا إلى أوربة أو مصر (ومنهم أميرالألاي صادق بك , والأستاذ حسن صبري أفندي ورشيد بك ناظر الداخلية) وكان ذلك كله في أثناء حرب البلقان التي انكسرت فيها الدولة العثمانية حتى كادت دولة البلغار الجديدة تأخذ القسطنطينية منها عنوةً، ولولا ما أصاب الدولة منها من الضعف والوهن، وما كان في أثنائها من سحب قواها العسكرية من الولايات العربية - لانتقم الاتحاديون ممن أظهروا لهم العداوة في البلاد العربية، ولا سيما الذين ألفوا الجمعيات الوطنية، كما انتقموا من أعدائهم في العاصمة، ولكنهم لضعفهم أسروا الكيد وكظموا الغيظ والضغن، وأظهروا الميل إلى الإصلاح، والجنوح إلى الصلح، وكان من أمرهم في إبان انعقاد المؤتمر السوري في باريس ما هو معروف، وفي استمالة طالب بك النقيب بعد محاولة اغتياله أن توسلوا به إلى الاتفاق بينهم، وبين الأمير ابن سعود. وقبل الانتهاء من تمثيل دور الاتفاق بينهم وبين ممثلي الحركة السياسية من العرب في العاصمة (وفي مقدمتهم أصدق أخلائنا، وأشعري سياستنا: السيد الزهراوي , ويافعة شبابنا: عبد الكريم الخليلي) اشتعلت نار الحرب الأوربية الكبرى، ولم يلبثوا أن أصْلَوا الدولة العثمانية سعيرها، وأحرقوها بشرر شرورها، وفي أثنائها اختاروا لقيادة فيلق سورية (منبت النهضة العربية) أشد زعمائهم قسوةً وأغلظ قوادهم قلبًا وأضراهم بسفك الدماء: أحمد جمال باشا الذي نكل بخصومهم الائتلافيين في العاصمة ذلك التنكيل الفظيع، ومنحوه السلطة المطلقة، فخادع أهل البلاد أولاً بإظهار الميل إلى العرب، والرغبة في مساعدة النهضة العربية، وجعلها عونًا وظهيرًا للنهضة التركية، تأييدًا لما يضمهما من الجامعة الإسلامية، وما زال يفتل منهم في الذروة والغارب، إلى أن عرف أصحاب الأفكار الدينية والفصاحة المؤثرة، وأولي المبادئ الثابتة والعزائم الصادقة، ثم في الخدمة إلى أن الجيوش من البلاد، وقذف ببعضها جيوش الروسية في حدودها الزمهريرية، وألقى بالبعض الآخر في أتون ملحمة الدردنيل الكبرى، ومكن لنفسه في البلاد - بعد هذا كله بطش تلك البطشة الكبرى تقتيلاً وتصليبًا للأفراد النابغين، وتشريدًا وتغريبًا للأسر والبيوتات وللأغنياء والوجهاء، وتلا ذلك نكبة المخمصة المجتاحة، في إثر المصادرات الكثيرة للأموال الناطقة والصامتة حتى أكل الناس الأقذار والجيف، بل أكلت الأمهات أولادها، وهو يرى ويسمع ويتمتع ويفسق ويفجر وينهى ويأمر، وفعل أقرانه وأقناله في العراق نحوًا مما فعل في سورية، فأيأسوا الأمة العربية من الدولة العثمانية، واضطروها إلى إعلان الثورة في البلاد الحجازية، فكانت من أسباب تقليص ظلها عن رؤوسهم، وزوال سلطانها من بلادهم، ولكنه سبب اضطراري، لا مقصد اختياري وإنما كان القصد حياة العرب بالحرية والاستقلال، لا إماتة الترك بأيديهم، ولا إماتة أنفسهم تحت أرجلهم، ولا مجال في هذا التمهيد للإشارة إلى شيء من وصف هذه الثورة، ولا بيان ما عرفنا منها وما أنكرنا، وإنما نختمه بأن الحرب العامة انتهت باحتلال جيش الثورة مع جيوش الحلفاء للبلاد السورية، وبعد مرور بضعة أشهر على استقرار الاحتلال وتبدل الأحوال، تيسرت لنا الرحلة الثانية إلى هذه البلاد، وسنبين ما نرى فيه الفائدة والعبرة مما رأينا وسمعنا فيها، وموعدنا الأجزاء التالية من المنار. ((يتبع بمقال تالٍ))