(س ٢٧) لصاحب الإمضاء في بيروت: إلى حضرة الأستاذ الفاضل العلامة السيد محمد رشيد رضا المعظم. قرأت في كتاب (أوراد السيد أحمد بن إدريس) رحمه الله عبارة هذا نصها: (إنني اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم اجتماعًا صوريًّا ومعه الخضر عليه السلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخضر أن يلقنني أوراد الطريقة الشاذلية فلقننيها بحضرته! ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا خضر لقنه ما كان جامعًا لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار وأفضل ثوابًا وأكثر عددًا. فقال: أي شيء هو يا رسول الله؟ فقال: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله! ثم قال السيد أحمد ما نصه: قال صلى الله عليه وسلم: يا أحمد، قد أعطيتك مفاتيح السموات والأرض، وهي التهليل المخصوص والصلاة العظيمة والاستغفار الكبير، المرة الواحدة منها بقدر الدنيا والآخرة وما فيهما أضعافًا مضاعفة) اهـ. وعليه أرجو أن تتكرموا بإعلامي هل ممكن الاجتماع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعًا صوريًّا؟ وما حكم ما يلقنه بهذه الحالة؟ وتفضل يا سيدي الأستاذ الفاضل بقبول مزيد شكري واحترامي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عزت المرادي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت (ج) صرَّح بعض العلماء المحققين بأن دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في اليقظة والأخذ عنه دعوى باطلة، واستدلوا على ذلك بأن أولى الناس بها - لو كانت مما يقع - ابنته سيدة النساء، وخلفاؤه الراشدون وسائر علماء أصحابه، وقد وقعوا في مشكلات وخلاف أفضى بعضه إلى المغاضبة وبعضه إلى القتال، فلو كان صلى الله عليه وسلم يظهر لأحد ويعلِّمه ويرشده بعد موته لظهر لبنته فاطمة عليها السلام، وأخبرها بصدق خليفته أبي بكر رضي الله عنه فيما روي عنه من أن الأنبياء لا يورثون، وكذا للأقرب والأحب إليه من آله وأصحابه، ثم لمن بعدهم من الأئمة الذين أخذ أكثرُ أمتهِ دِينَهُمْ عنهم، ولم يدَّع أحد منهم ذلك؛ وإنما ادَّعاه بعض غلاة الصوفية بعد خير القرون وغيرهم من العلماء الذين تغلب عليهم تخيلات الصوفية، فمن العلماء من جزم بأن من ذلك ما هو كذب مفترى، وأن الصادق من أهل هذه الدعوى من خيل إليه في حال غيبه، أو ما يسمى بين النوم واليقظة أنه رآه صلى الله عليه وسلم فخال أنه رآه حقيقة، على قول الشاعر: ومثلك من تخيل ثم خالا والدليل على صحة القول بأن ما يدعونه كذب أو تخيل ما يرونه عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤية وبعض الرؤى المنامية مما يختلف باختلاف معارفهم وأفكارهم ومشاربهم وعقائدهم، وكون بعضه مخالفًا لنص كتاب الله، وما ثبت من سنته صلى الله عليه وسلم ثبوتًا قطعيًّا، ومنه ما هو كفر صريح بإجماع المسلمين. نعم إن منهم من يجلهم العارف - بما روي من أخبار استقامتهم - أن يدَّعوا هذه الدعوى افتراء وكذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن غلبة التخيل على المنهمكين في رياضاتهم وخلواتهم لا عصمة منها لأحد، وكثيرًا ما تفضي إلى الجنون، فإن صح عقلاً أن منهم من يرى أرواح الأنبياء والصالحين فعلاً، فلا يجوز شرعًا أن تتضمن هذه الرؤية تشريعًا ولا تعبدًا جديدًا، ومنهم من كذب أتباعهم عليهم في ذلك وغيره من الدعاوى الباطلة، ومنه ما يسمونه الشطح، وقد جزم بعض المحققين بأن بعضهم كانت تتمثل لهم الشياطين بصور بعض الصالحين وتلقي إليهم بعض ما يسمونه المكاشفات، ومنها ما روي عن إمام الصوفية في عصره الشيخ عبد القادر الجيلاني قدَّس الله سره أنه ظهر له في خلوته نور عظيم ملأ الأفق، وسمع منه هاتفًا يقول له: يا عبد القادر، أنت عبدي وقد أحللت لك المحرمات، قال: فقلت له: اخسأ يا لعين، فتحول النور إلى ظلمة، أو قال: دخانًا، وقال: قد نجوت مني بعلمك، وقد أضللت بها كذا وكذا من العباد، قيل للشيخ: وكيف علمت أنه شيطان؟ قال: من قوله: أحللت لك المحرمات. يعني رحمه الله تعالى أن الشرع هو الفرقان الذي يُعرف به الكشف الحق من الكشف الباطل وأولياء الرحمن من أولياء الشيطان. ومن هذا القبيل دعوى قول النبي صلى الله عليه وسلم للسيد أحمد بن إدريس: أعطيتك مفاتيح السموات والأرض، التي تشبه ما يرويه النصارى من قول المسيح عليه السلام لتلاميذه: ما تحلونه في الأرض يكون محلولاً في السماء، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وفسره رؤساؤهم بأن لهم ولخلفائهم الحق في مغفرة ذنوب الخاطئين، والله تعالى يقول: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الزمر: ٦٣) أي: مفاتيحهما وخزائنهما في التصرف والرزق، وقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: ٥٩) . وقد صرَّح علماء الأصول بأن ما يسمونه الكشف ليس بحجة شرعية، ولا يجوز العمل بما لا يقوم عليه الدليل من الكتاب والسنة منه، وكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام والسماع منه، وعلل ذلك بعضهم بعدم الثقة بصفاء أرواح هؤلاء المكاشفين وضبطهم لما يرونه في كشفهم ورؤياهم ولما يروونه، وأما الدليل الأقوى والأقوم فهو أن قبول هذا يعد من الزيادة في دين الله واستمرار التشريع الذي ادَّعاه بعض الدجالين المضلين، كأتباع الدجال غلام أحمد القادياني الهندي الذين يلقبون أنفسهم بالأحمدية، وقد أكمل الله دينه في حياة خاتم النبيين بنص القرآن الصريح، فلا حاجة إلى شيء غير ما جاء به صلى الله عليه وسلم من كتاب الله وسنته في بيانه، وإن كان حسنًا في نفسه كصيغة الشهادتين التي هي شعار الطريقة الإدريسية، وليتها لم تقترن بدعوى هبوط روح رسول الله الأعظم من الأفق الأعلى لتلقين طريقة الشاذلية، وناهيك بطريقة التجانية وما ينسبونه إلى صاحبها من عظائم الخرافات والبدع، وقد سبق لنا بيان ذلك مرارًا، وأن أهل هذه الطريقة وأمثالهم قد أفسدوا دين المسلمين ودنياهم حتى صار بعض شيوخهم أكبر أعوان المستعمرين في الجزائر والمغرب على استعباد المسلمين. ولا يُغَرَّنَّ أحدٌ ببعض أذكارهم وأورادهم فأكثرها ممزوج بالبدع والضلالة، وحسبك أنهم نسخوا بها التعبد بكتاب الله تعالى وبالأذكار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المدونة في كتب السنة، ككتاب الأذكار للإمام النووي، والحصن الحصين للمحدث الجزري، ومتى تعبد هؤلاء بهما، ووجدوا في وقتهم فراغًا لما ابتدع بعدهما؟ وأين هذا من نهي الكتاب والسنة عن الغلو في الدين حتى في المشروع منه، وقد فصَّلنا هذه المسألة في تفسير قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) وأوردنا فيه قول الإمام الرازي فيمن اتبع سنة أهل الكتاب في ذلك من المتفقهة والمتصوفة فراجعه في جزء التفسير العاشر.