لقد أتى على الإنسان في طور اجتماعه أدوار، ومرت عليه أجيال وأعصار، وهو مغلول الإرادة ومقيد الجوارح بسلطتين عظيمتين قويتين، للقائمين عليهما النفوذ التام في أفراده، والتصرف المطلق في آحاده، وهما: سلطة الدين وسلطة السياسة، أو كما يقول أهل العصر: السلطة الروحية والسلطة الزمنية. سلطتان لا يتم نظام الاجتماع بدونهما، ولا تحصل السعادة إلا بهما، بل لا تتكون الأمم والشعوب إلا بإحداهما أو كلتيهما؛ لأن معنى الشعب: المجتمع أو الأمة المتمدنة، أفراد من صنف واحد، وأصناف متعددة تجمعها وتضمها رابطة توحد المتعدد بوحدة الاعتقاد والعمل، أو وحدة الحكم والنظام، ولا معنى للسلطتين المتحدَّث عنهما إلا بما به قوام هاتين الوحدتين من القوانين الاعتقادية والأدبية، والشرائع العملية والقضائية، ولما كانت سعادة الأمم بالوحدة القائمة بالسلطة كان شقاؤها بانفصام عرى الوحدة الناشئ عن نقص القوانين والشرائع عن حاجة الأمة وعن نكوب القائمين بتعليمها وتنفيذها عن جادة الحق فيها، وهكذا ينزل البلاء من جهة النعماء، ويأتي الضعف من جانب القوة؛ لأن النسبة بين السعادة والشقاء ونحوهما، كالنسبة بين البصر والعمى، فإذا تُصُور العمى فإنما يُتصَور حيث يكون البصر؛ لأنه فقدُه وعدمُه، وكذلك يقال في سائر ما يسمون المقابلة فيه مقابلة العدم والملكة أو النقيضين وما بمعناهما، كالسعادة والشقاء، والقوة والضعف، والغنى والفقر، والعزة والذلة، وما أشبه هاتا. إذا فوض أمر السلطة الزمنية أو الروحية في الأمة لرجل واحد، طاعته واجبة، ومشيئته نافذة، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، فسعادة تلك الأمة وشقاؤها وعلمها وجهلها وغناها وفقرها، إنما يكون ذلك كله وأمثاله تابعًا لحال ذي السلطة، فإذا كان خيِّرًا فاضلاً حكيمًا خبيرًا أحوذيًّا (هو المشمر للأمور، القاهر لها الذي لا يشذ عليه شيء) شمّريًا (بتثليث المعجمة وتشديد الميم: المجرب الماضي في الأمور) نهض بالأمة ورقاها في معارج الفلاح، وصعد بها إلى قمة السعادة، وإذا كان شريرًا جاهلاً أخرق أو إمعاء (بكسر الهمزة وتشديد الميم: الذي لا رأي له ولا عزم، يتابع كل أحد على رأيه في الدين وغيره) أو غِملاجًا (بكسر المعجمة: وهو الذي لا يثبت على حالة، يكون تارة حسن الخلق، وتارة سيِّئَه، فمرة ظالمًا، ومرة عادلاً، وآنًا محسنًا وآخر مسيئًا) انحط بالأمة إلى درك الشقاء، ويضرب عليها الذلة والمسكنة، وينتهي بها إلى شر مصير. وبالجملة: إن أمة هذا شأنها تكون دائمًا متقلقلة كقدح الراكب، لا تثبت على حال ولا تستقر على شأن، وجميع ما انتاب الأمم من رفعة وضعة، وعلم وجهل، وسعادة وشقاء، فقد كان مرجعه لتصرف الأمراء والحاكمين والرؤساء الروحيين ولقد كان الشر أغلب على الأمم من الخير، والضلال أكثر استحواذًا عليها من الهدى، والشقاء أشمل لها من السعادة؛ لأن الرئيس الفاضل الحكيم لا يأمن من العثار، وإذا عثر عثرت معه الأمة وهوت، وقد يهدم الرئيس الجاهل الغوي في مدة قليلة ما بنته الحكماء في الأجيال الطويلة. لهذا كانت سعادة البشر موقوفة في نوالها أو كمالها على تحديد القوانين والشرائع الروحية والزمنية، وجعل الناس فيها شَرَعًا - بالتحريك، أي: سواءً - لا مزية لرئيس على مرءوس إلا بما يمتاز به المرءوسون بعضهم على بعض، وبما لا تقوم الرياسة بدونه، كوجوب الطاعة للسلطان، ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء الشريعة والقانون، ولكن لم تأت شريعة سماوية ولم يوضع قانون بشري لهذا التحديد والمساواة، حتى جاءت الديانة الإسلامية فحددت الشريعتين (الزمنية والروحية) معًا، وجعلت الناس فيهما سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والعمل، واقتلعت جذور الطاعة العمياء، وبينت أن الدعوة إلى الحق لا تكون إلا بالحجة والبرهان بمثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) فسر العلماء (البصيرة) بالحجة الواضحة، وقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) . وبناءً على هذا كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم الرأي قائلين: هل هذا شيء قلتَه من عندك يا رسول الله أو نزل به وحي؟ فإن قال: هو من عندي جاءوا بما عندهم من الرأي بما يُرجع النبي إلى رأيهم، كما جرى في بعض الغزوات، وأوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا مع رجل من آحاد يهود للمحاكمة، وعاتبه عليٌّ بعدَ المحاكمة بأنه لم يساوِ بينه وبين خصمه؛ لأنه كناه وسمى خصمه، وفي التكنية تعظيم، وتعظيم أحد المتخاصمين ولو بمثل هذا منافٍ للعدالة والمساواة، وراجعت امرأة عمر وهو على المنبر في مسألة تحديد المهر محتجة عليه بآية: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: ٢٠) فقال: (أصابت امرأة وأخطأ عمر) . وأبلغ من هذا كله أن النبي عليه الصلاة والسلام طعن سواد بن غزية بقدح (سهم لا نصل له ولا ريش) في بطنه وهو مكشوف ليستوي في الصف يوم بدر، فقال: قد أوجعتني فأقدني، فكشف له عن بطنه ليقتص منه، فطفق يتمسح به، وكان ذلك منه توسلاً للتوصل إلى هذا الشرف العظيم. وآذن صلى الله عليه وسلم الناس قبل موته بأن مَن له حق عنده فليطلبه، وإذا كان نحو ضرب فليقتص منه، وأذن لرجل أن يضربه حين ادعى أنه ضربه يومًا، فقال الرجل: إنني كنت عاري الكتف أو الظهر، فألقى له الرداء عن عاتقه الشريف، وكان شأنه في ذلك شأن سواد بن غزية. والنتيجة أن الإسلام قرر العبودية لله وحده، والحرية في ضمن دائرة الشريعة، والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وإطلاق الإرادة والفكر من سلطة كل زعيم، وسيطرة كل رئيس روحي، ومقتضى ذلك أن يكون المسلم عبدًا كاملاً لله، حرًّا كاملاً بالنسبة لما سواه. لقد ولينا وجهنا في هذه المقالة شطر السلطة الروحية، وأما الشطر الآخر، فالتاريخ يشرح ما كان من شأن حكام المسلمين وأمرائهم بإزاء تحديد الشريعة وتقييد السلطة الذي جاءت به الديانة الإسلامية، وكتب الفقه تشرح حقوق ووظائف الإمام الأعظم والقضاة والحكام، فليرجع إليهما. ونعني بالسلطة الروحية: سلطة العلماء والوعاظ والمتصدين للإرشاد وتهذيب الأخلاق، وتقويم الملكات، مضى الصدر الأول من سلف الأمة والمسلمون كما قال الله تعالى إخوة، وعلوم الدين مبذولة لهم على السواء، يتناول كل أحد من الكتاب والسنة ما وصل إليه فهمه، فإن عرضت واقعة لأحد ولم يهتدِ للحكم فيها راجع غيره من إخوانه، فإن وجد عند مَن راجعه نصًّا أخذ به وإلا رجع إلى اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، أو قلد من تثق به نفسه ممن يعتقد بهم العلم على تفصيل في ذلك ليس هذا محله، وما كان عالم يترفع على جاهل، ولا مرشد يترأس على مسترشد، ولم يدَّعِ فرد من الأفراد أو صنف من الأصناف الامتياز في الدين لذاته أو الوساطة بين الله وبين سائر الناس في عرض أعمالهم عليه، والتوسل إليه في قبولها أو إيصال الخير منه سبحانه إليهم، ولم يكن هناك إلا العلم والتعليم من غير حجر ولا استئثار، بل كان أعلم الناس بدين الله وأشدهم تمسكًا به أبعدهم عن دعوى الامتياز، وأكثرهم خوفًا من ربه أن يأخذه بذنبه وعمله السيئ، ولا يقبل منه عمله الصالح لاتهام نفسه بالرياء وعدم الإخلاص، فضلاً عن دعوى الوساطة بين العباد وربهم. كان الأمر على ذلك حتى ظهرت في الأمة فرقة الصوفية العظيمة، وتصدى شيوخها للإرشاد والتربية العملية ونعمَّا هي. ساروا في هذه التربية على منهاج الكتاب والسنة، وأظهروا ما فيهما من دقائق الآداب والتهذيب علمًا وعملاً وتخلقًا وتحققًا، فصلحت بذلك سرائر، واستضاءت بصائر، وظهر لمن يعرف التاريخ الفرق بين التهذيب العقلي المحض - كتهذيب فلاسفة اليونان المشوب بالرذائل، الملطخ بحمأة المقاذر - وبين التهذيب الديني العقلي الصافي من الأكدار، الراقي بذويه إلى مصاف الملائكة الأخيار (سننشئ مقالات في تراجم الفريقين للمقابلة بينهما إن شاء الله تعالى) لكن لما كانت التربية العملية تدور على قطب التأسي والاقتداء، ولا تسكن النفس المميزة للاقتداء إلا بمَن تعتقد به الكمال - بالغ القوم في التسليم لشيوخهم والأدب معهم، والاعتقاد بكمالهم إلى درجة ألزموا فيها المريد بالطاعة العمياء لأستاذه، واعتقاد أن جميع ما يصدر عنه من قول وعمل هو فضيلة وكمال، وأوجبوا عليه أن يؤول له ما يتراءى له أنه ذنب أو نقيصة، وغالوا في ذلك حتى قال بعضهم: إذا رأى المريد شيخه يشرب خمرًا فينبغي أن يعتقد أن الخمر استحالت ماء أو عسلاً قبل أن تدخل إلى فمه المبارك كرامة له. وحتموا عليه أن يعتقد بأنه لا يصل إلى مقام المعرفة بالله تعالى، ولا ينال الزلفى والرضوان من لدنه إلا بهذا الاعتقاد، والطاعة من غير إنكار في الظاهر ولا في الباطن، وإن خالف في ذلك أو ترك الشيخ لغيره أو مطلقًا فهو على خطر حتى على أصل إيمانه ودينه. قلنا: إن السلطة المطلقة، والطاعة العمياء تكون فيها سعادة المرءوس منوطة بحال الرئيس، وكذلك كان الشأن في طريقة الصوفية، فلقد قام فيهم أئمة عارفون يهدون بالحق وبه يعدلون، سلكوا سبيل السلف الصالح في التواضع والتبرؤ من دعوى الامتياز والترفع على الناس، والتنصل من الشطحات والطامات التي لا يشهد لها الشرع، وحصروا الإرشاد بالعلم النافع والعمل الصالح، والتخلق بالأخلاق الفاضلة، واهتدى بهم خلائق لا تحصى، وكيف لا يهتدي من يقتدي بالعالم العامل، ويطيع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر. نعم، قد اهتدى بالسلطة الروحية المطلقة والطاعة العمياء لشيوخ الطريق أقوام، ولكن الذين ضلوا أكثر من الذين اهتدوا، وفاقًا لما قررناه آنفًا، فقد قام بعد أولئك الشيوخ العارفين شيوخ جهال، ألقوا بذور الضلال في نفوس أتباعهم فنبتت وأثمرت ثمرًا خبيثًا، تجني الأمة منه حنظلاً، وتطعم زقومًا. لقنوا الناس الجبر بعنوان التوحيد واسم القضاء والقدر، وعلقوا نفوسهم بالشيوخ أحياء وأمواتًا، وعلموهم الاستعانة بهم في مصالحهم بحجة أنهم أصحاب كرامات، وشفعاء عند الله، يتوسطون بينه وبين عباده في حاجهم وإن كانوا رممًا في قبورهم، حتى قال بعضهم: لا فرق في طلبنا الحاجة من الحي وطلبنا إياها من الميت؛ لأن كلاًّ منهما لا فعل له ولا تأثير في الإيجاد، وكلاًّ منهما قد يكون واسطة - الحي واسطة جسدية والميت واسطة روحية - وكسلوهم عن الأعمال النافعة والمصالح العمومية باسم الزهد والتسليم للقدر، وغير ذلك مما لا سعة في هذه المقالة لشرحه. ولم تقف مضرات جهلهم عند هذه الوساوس الدينية، بل استعملوا نفوذهم لخدمة سياسة الأجانب وتمكينها من الاستيلاء على أمتهم، وإننا نروي لك بعض شأنهم في ذلك فاعتبر بما يروى. (البقية للآتي) ... ... ((يتبع بمقال تالٍ))