من خطبنا في الديار السورية [*] وهي من الخطب السياسية أيها الإخوان الكرام: اقترحتم علي أن أقول شيئًا في الدستور والاجتماع، وماذا عسى أن أقول في موضوع قد تبارى فيه الخطباء الكثيرون مِن قَبْلُ، فلم يَدَعُوا لمن بعدهم مقالاً، ولم يغادروا لمن تأخر عنهم متردَّما، فرب فكر فيه أريد أن ألقيه عليكم، فيخطر في بالي أنه قد ورد على مسامعكم، وجال في مجامعكم، فيقف الفكر، ويتلعثم اللسان، ولكنني لم أحضر تلك المجامع، ولم أسمع شيئًا من تلك الأقوال، فإذا قلت شيئًا مما قيل من قَبْلُ، فلي فيه شيء من العذر، ورب مكرر يحلو، ورب إعادة فيها إفادة. المراد من الدستور أن يكون حكم الأمة لها، تديره بيد من تختار من أفرادها، لا بيد رئيس يستبد فيه برأيه، ويتصرف فيها بهواه وإرادته، وإن استبداد شخص واحد بأمة كبيرة لَمِنْ أعجب أمور البشر في طور الجهل والانحطاط. أتدرون ما هي القاعدة النظرية التي يبني عليها المستبدون هياكل سلطتهم الجائرة؟ هي أن الأمة كالمجنون أو السفيه أو الولد القاصر الذي لا يحسن التصرف في ملكه، فلا بُدَّ له من وصي يقوم بمصالحه، وولي يتولى تدبير أموره! ! ! هذه النظرية باطلة من عدة وجوه، ولكنهم يُحِقّونها بالقوة: هل يمكن أن تكون الأمة كلها جاهلة أو سفيهة كالطفل أو المجنون، فلا يوجد في سوادها الكثيرِ أفرادٌ يصلحون لتدبير أمرها، وإقامة العدل والنظام فيها بالشورى دون هوى الرئيس، ويكون ذلك الرئيس الذي يدعي حق الوصاية عليها، والولاية على جميع مصالحها، هو الحكم العدل، والعاقل الرشيد، يأخذه عن آبائه بحق الإرْث، كما يرث عنهم الولاية والملك؟ كلاّ، إن ذلك أمر غير معقول، وحكم استبدادي غير مقبول، المشاهدة تنقضه، والتاريخ يفنده، فقد قرأنا في سير الغابرين، ورأينا في حال الحاضرين، أن أكثر الملوك والأمراء المستبدين، هم أعرق أفراد أممهم في الجهل، وأَوْغَلهم في أفن الرأي، وأشدهم فسادًا في الأرض. أي قاضٍ مِن قُضاة العدل حكم بجنون الأمة أو سفهها، ووجوب نصب فرد من الأفراد وصيًّا عليها؟ أي شرع يبيح للوصي أن يتصرف في مال السفيه أو القاصر تصرف المالك في ملكه، ولمن كان في وصايته كثيرون أن يتبع في معاملتهم هواه، فيمنع بعضهم من حقه، ويعطي الآخر ما لا يستحقه، كما هو شأن الملوك والأمراء المستبدين! ! ألا إن هؤلاء الأدعياء في وصايتهم، المعتدين في ولايتهم، ليسيئون التصرف في ملك الأمة وفي سياستها، فهم قد جعلوا أنفسهم أوصياءَ عليها بالقوة القاهرة، وبالقوة القاهرة يمنعونها من التصرف معهم ومشاركتهم بالرأي، بل يحولون بينها وبين معرفة ما تملك، وما لها من حق الرأي والتصرف، لتبقى عالةً عليهم، راضيةً ببقاء الأمر فيهم، ولهذا يمقت المستبدون العلم ويقاومونه أشد المقاومة، وقد رأيتم ذلك في أنفسكم، فقد كنتم منذ أشهر تحرقون كتب العلم، أو تدفنونها في حنادس الليل تحت الأرض، خوفًا من زبانية الاستبداد أن تدمر على بيوتكم فتراها، فتنزل العقاب الشديد بمن اقتناها، على أنهم كانوا يعاونون الذين يهربون السلاح، ويساعدون الأشقياء على إفساد الأمن وهضم الحقوق، فقد كان كل ذنب مباحًا أو متساهلاً فيه عند حكومتنا الماضية، إلا ذنب العلم واقتناء الكتب والصحف الحرة، التي كانوا يعبرون عنها بالأوراق المضرة. لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الأمة إذا عرفت حقوقها، يوشك أن تجتمع فتطلبها من طريقها، وإذًا يحرمون من التمتع بذلك السلطان المطلق، والتصرف بتلك القناطير المقنطرة، فقد قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: العاقل لا يُظْلَم، ولا سيما إذا كان أمة. ما هو الطريق الذي تسلكه الأمم لاسترجاع حقوقها المغصوبة من الملوك المستبدين؟ ألا إنه لَهُوَ الاجتماع والتعاون: الاجتماع الذي تسوق إليه المعرفة، والتعاون الذي يدعو إليه الشعور بالحاجة، ومن هنا ننتقل إلى الكلام على الاجتماع والجمعيات. الاجتماع على الحق قوة لا تعلوها قوة، بهذا قد جرت سنة الله في خلقه، وقد ورد في الحديث الشريف: (يد الله على الجماعة) وهذا أبلغ تمثيل لعظمة هذه القوة، وأي شيء أعظم قوة ممن كانت كلاءة الله ظلاًّ ممدودًا فوقهم، وسنته في النجاح صراطًا مستقيمًا أمامهم، ألا ترون أن الحكام المستبدين يطاردون الجمعيات، ويخافون منها ما لا يخافون من الجيوش المنظمة، والأساطيل المدرعة، لعلمهم أن الحق لا يغالب إذا وجد نصيرًا. قال الأستاذ الإمام (إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) . ماذا أقول في بيان قوة الجمعيات؟ هي التي قوضت حصون الظلم، ودمرت هياكل الاستبداد، وحررت الأمم والشعوب من العبودية، وشيدت فيها صروح العلم والمدنية، وليس الشاهد والدليل على هذا ببعيد عنكم، وأنتم الآن في نادي شعبة للجمعية التي أسقطت سلطة الاستبداد في المملكة العثمانية، وأدالت منها سلطة دستورية شورية. أرأيتم لو أن أحدًا همس في آذانكم قبل ثلاثة أشهر وأنتم تئنون من ذلك الظلم الفاحش قائلاً: إن نفرًا من إخوانكم العثمانيين لا يتجاوزون عدد الأنامل، يجتمعون في حجرة لهم نوافذها مغلقة، وستورها مسبلة، يتخافتون بينهم في تدبير الحيل، واتخاذ الوسائل، لتقويض هيكل تلك السلطة الاستبدادية، التي أوشكت أن تقضي على الدولة العلية، وإعادة الدستور العثماني، وإحياء القانون الأساسي، فما هو رأيكم في هؤلاء المجتمعين، ألا يقول أكثركم: إنهم مجانين (مجانين مجانين) بلى، ولكن قد علمتم الآن علم اليقين أن هؤلاء النفر هم الذين قوضوا تلك السلطة الظالمة، وقضوا عليها قبل أن تقضي هي القضاء الأخير على الدولة العلية، فما الذي أقدر ذلك العدد القليل على إسقاط حكومة مؤيدة بجيش عظيم، ومال كثير، وألوف كثيرة من الأعوان والأنصار، القابضين على زمام الأحكام، كانت ترتعد من ظلمهم الفرائص، وتضطرب لتصور استبدادهم القلوب؟ أليس هو الاجتماع للمطالبة، والتعاون على استبدال العدل بالظلم؟ بلى، ولو كان أولئك الأنصار الأخيار من اليائسين، كما كان أكثر العثمانيين، لَمَا نالت الأمة العثمانية هذا النصر المبين، الذي كان موضع إعجاب الناس أجمعين، حتى قال كثير من ساسة أوربا وكُتّابها: إنه لم يسبق له نظير في تاريخ البشر؛ لأن المعهود في التاريخ أن هذه الغاية لا تنال إلا بعد ثورات داخلية، وحروب أهلية، بين أنصار الاستبداد والظلم، وطلاب الدستور والعدل. الآن قد خطر في بال كثير منكم أننا قد نلنا هذا النصر بسيوف جيوشنا، لا بتدبير أفراد من جمعياتنا، نعم، إننا لولا جيشُنا الباسل لَمَا عملنا الآن شيئًا، ولكن لا ننسى أن جيشنا قد كان منذ كان حامي السلطة الاستبدادية ونصيرها، وعونها على قهر الأمة وظهيرها، فما عدا مما بَدَا؟ أليس قد اتحد بعض ضباطه أهل العرفان والحمية، بأولئك المجاهدين في سبيل العدل والحرية، فكان العلم والرأي، هما القائدين للجيش؟ بلى. الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني نلنا الحرية والدستور، وأصدر قاضي محكمة الاجتماع العليا حكمه ببطلان تلك الوصاية الاستبدادية، والولاية القهرية، وإثبات رشد الأمة وأهليتها للقيام بشئونها، والتصرف في ملكها، ولكن هل رشدت الأمة حقيقة، وصارت أهلاً للتصرف النافع، الذي تحفظ به المصالح؟ إن الحكم الصحيح في شأن الأمة العثمانية عسير جدًّا. فإنها على اختلاف شعوبها في الأجناس واللغات والأديان والمذاهب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا في التربية والتعليم اللذين يؤهلان الأمم للحرية والحكم الدستوري، فتكون دستورية بطبيعتها لا مقودة إلى الدستور بالسلاسل. إن مجموع الترك أرقى في هذه التربية من مجموع العرب، والأرمن أرقى من الأكراد، والآستانة والولايات الأوربية، أرقى من الولايات الآسيوية، وولايات سورية وسط بين ولايات أوربا وبين العراق والحجاز واليمن، وإننا نرى الاستعداد في سورية ضعيفًا، فماذا نقول فيما دونها، فكرنا كثيرًا ونحن في مصر لنختار من كل مدينة في سورية أفرادًا من الأحرار الشجعان ليؤلفوا لنا شعبًا لجمعية الشورى العثمانية، فلم نعثر في أكثر المدن على من نثق بقبوله لدعوتنا، ودخوله في جمعيتنا، ودخل في الجمعية رجلان من أهل بيروت، كل منهما صديق للآخر، ولم يكاشف أحدهما الآخر بذلك إلا بعد إعلان الدستور، وناهيكم بجرأة أهل بيروت. إن العاقل الراشد إذا منع التصرف في ماله بالقوة القاهرة، وطال عليه الزمن وهو لا يعمل ثم أبيح له العمل وهو غير متمرن عليه يحار في كيفية التصرف، ولا يسهل عليه أن يجري فيه على طريق السداد. وقد اهتدى إلى هذا المعنى أحد أغنياء بلادنا العقلاء (المرحوم محمد باشا المحمد) ، فقسم ثروته الواسعة في حال حياته بينه وبين أولاده؛ ليتمرنوا تحت مراقبته على إدارة تلك المزارع والضياع، لئلا تفاجئهم الثروة فيعوزهم حسن إدارتها وحفظها، وغفل عن ذلك كثير من الأغنياء، فلم يأذنوا لأولادهم بالتصرف في إدارة ثروتهم، ولا بالتمتع بما تستشرف له نفوسهم منها، فلم يلبث أولئك الأولاد بعد موت والديهم إلا قليلاً، حتى أضاعوا جميع ما تركوه لهم إسرافًا وتبذيرًا، كما رأينا وشاهدنا في مصر كثيرًا، وإذا كانت إدارة الثروة الشخصية لا تصلح إلا بالعلم والتمرن معًا، فكيف تكون إدارة الممالك وسياسة الأمم؟ لا يعجلن أحد بالاعتراض على هذا الكلام فيقول: إنه مؤيد للحكومة المطلقة التي أراحنا الله من شرها، ومعارض للحكومة الدستورية التي امتلأت القلوب رجاءً في خيرها، معاذَ الله أن أحتج لتلك الحكومة الظالمة بكلمة، وأنا أعلم أنها لو بقيت سنة أو سنتين ولم ينجح الأحرار بالوسيلة التي أخذوا بها في هذا العام، لوقعت الأمة والدولة في خطر لا تؤمن عاقبته، وإنما قلت ما قلت آنفًا لأنبه الأفكار إلى حقيقة حالنا، وما يجب علينا في هذا الطور الجديد. الأمة العثمانية في مجموعها مستعدة للحكم الدستوري، فإن فيها من الأحرار المرتقين في المعارف والأخلاق من جميع الشعوب من يرجى أن يقوم بهم هذا الحكم خير قيام، ويؤمن عليه من عدوان الاستبداد، ولكن ضعف استعداد الأمة في كثير من البلاد يحملهم مشاقَّ كثيرة في إقامة العدل، وإصلاح حال الملك، ومقاومة كيد المتقهقرين، أعوان المستبدين الظالمين. لا تظنوا أن الأحرار الكرام الذين نلنا الدستور بسعيهم، كانوا غافلين عن هذا، كلاّ إنهم قد أعدوا له عدته، فأخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها أن تكفل الدستور الذي كانت قابلة ولادته وأمه ومرضعه إلى أن يبلغ أشده ويستوي، فأنشأت لها شعبًا ولجانًا في كل مركز من مراكز الولايات والألوية والأقضية في المملكة، وجعلت لها أندية سياسية اجتماعية، ولها في ذلك مقصدان: المقصد الأول: مراقبة الحكومة في سيرها لأجل أن تنفذ الشريعة والقوانين في دائرة الدستور، ويحفظ الأمن ويقام العدل بقدر الاستطاعة والإمكان. والمقصد الثاني: نفخ روح الحياة الدستورية في الأمة وتحبيب الحرية إليها بِبَثِّ الآراء والأفكار النافعة فيها بالخطب والمحاورات، وحثها على التربية الملية والتعليم العصري الذي يجعلها أمة دستورية بالطبع، تأبى الاستبداد وتنفر منه، كما تنفر من الأسقام والأدواء، فحيا الله جمعية الاتحاد والترقي، وإنه يجب على الأمة كلها أن تساعدها في سعيها، فإنه لا حياة لنا إلا بالتربية الملية، وتعلم الفنون العصرية...