للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر
تتمة إشكال عدم رؤية أهل الآفاق له
وأما قولهم: إنه لم يُنقل إلينا من أهل الأرض أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة
فلم يروه انشق - ففيه أن رؤية انشقاقه لا تتوقف على رصده لأن من شأنه أن يراه
كل ناظر إليه، وأن الذين ينظرون إليه في ليالي تمه كثيرون.
وأما قولهم (إن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي حتى إن
من وُجد منه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات) ففيه أنه ليس
في موضع النزاع؛ لأن الواقع أنه وُجد مثبت فقط؛ ولكنه يدعي شيئًا لو صح لرآه
من لا يحصى من أهل الأقطار المختلفة، ولنقل عنهم بالتواتر، وإذا لم يحصل هذا
فيكون خبره غير مقبول كما تقدم تقريره من كلام علماء الأصول والمنطق في الخبر
الذي يقطع بعدم صحته (دع كونه معارضًا بآيات القرآن المحكمة كما يأتي قريبًا) .
وقد بالغ القاضي عياض في الاعتماد على هذا الجواب أو الدفع، فجعل نقل
النفي للشيء بالخبر المتواتر المفيد للعلم للقطعي مرجوحًا يرد ما يعارضه من إثباته
بخبر الواحد الذي لا يفيد الظن عندهم إلا بشروط منها أن لا يكون مخالفًا لسنة الله
في الوجود ونظام العالم، وأن لا يكون مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر، وأن
لا يكون معارضًا بنص قطعي كآيات القرآن الصريحة في عدم إعطاء الله رسوله
صلى الله عليه وسلم آية باقتراح الكفار (وسيأتي تقرير هذا في الإشكال
الأصولي (و)) .
وهذا نص عبارة القاضي: (ولو نُقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم - لكثرتهم -
على الكذب لما كان علينا به حجة) يعني أننا نصدقهم بأنهم رصدوه طول الليل ولم
يروه انشق، ولا يكون حجة علينا مع قطعنا بصدقهم، وعلل هذا بقوله (إذ ليس
القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على
الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول
بين قوم وبينه سحاب وجبال، ولهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض) ...
إلخ ما سبقه إليه الخطابي وغيره وتقدم.
وفيه أن التعليل الذي ذكره يصح في بعض الأقطار دون جميعها، ولكن لا
يجوز عقلاً أن ينشق ولا يرى في شيء منها، وتقدم الجواب عن اختلاف المطالع
والخسوف والكسوف.
على أن الحافظ المزي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض المسافرين
ذكر أنه رأى في بلاد الهند بناء قديمًا مكتوبًا عليه أنه بني ليلة انشق القمر، وأذكر
أنني رأيت في بعض الكتب أو الصحف أن هذا رؤي في بلاد الصين، ولكن مثل
هذا الخبر الغريب عن مسافر مجهول لا يعده أحد من أهل العلم حجة في مسألة
علمية ولو لم تكن كمسألتنا، لعدم الثقة بعدالته؛ ولأنه يروي ما لو صح لوقف عليه
المسلمون الفاتحون للهند، ولجعلوا لذلك البناء شأنًا يُشتهر به ويُزار، ولدُوِّن خبره
في كتب التاريخ، ولم يوجد شيء من ذلك، على أنه لو وجد بهذا الإبهام والإجمال
لما كان حجة في موضوعنا لجواز أن يكون سببه أسطورة أو إشاعة حدثت عند
الذين بنوه وربما كانوا من الوثنيين، وقد نقل الحافظ في سياق هذا المبحث أن
العلامة الحليمي المشهور قال - كما نقل عنه البيهقي في البعث والنشور - ما نصه:
(أن من الناس من قال: إن المراد بقوله تعالى: {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: ١) أي سينشق [قال الحليمي] فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا،
فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقًّا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض
القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب، وأخبرني
من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى اهـ. وقد صرَّح الحافظ ابن حجر بتعجبه من
إقرار البيهقي لهذا مع حديث ابن مسعود، ونحن نصدِّق ما ذكره الحليمي عن نفسه
وعمن يثق به ونجزم أنهما تخيلا فخالا، أو عرض لبصرهما ما صوَّر لهما ذلك،
ومن العلل العارضة للبصر أو الدائمة ما يصور لها الواحد اثنين، وهذا معروف
مشهور.
(هـ) الإشكال الفلكي:
استشكل بعض الناس خبر انشقاق القمر بما هو مقرر في أصول علم الفلك
(القديم) كذا قال الحافظ (وإنهم احتجوا بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الخرق
والالتئام) وعزاه إلى الفلاسفة ونقل عن الزَّجَّاج عزوه إلى (المبتدعة الموافقين
لمخالفي الملة) وأجاب عنه بأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء.
أقول: وهذا حق لا ينكره مؤمن بالله، ومسألة عدم قبول الأفلاك للخرق
والالتئام، من أوهام فلاسفة اليونان، وقد كشفها وأبطلها علم الهيئة الحديثة؛ ولكن لا
يشك عاقل من المؤمنين وغيرهم أن خلقه تعالى للسموات وأجرامها في غاية الإبداع
والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل، وأن سننه تعالى في الخلق لا تتبدل ولا تتحول، فلا
يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت مثل ثبوتها وثباتها، كآيات الرسل
التي أخبر الله تعالى بها، ومن دونها آيات أرضية لا يتضمن وقوعها ما يتضمنه
انشقاق القمر ورجوع الشمس بعد غروبها من مخالفة الكون العام، ومعارضة قول الله
تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: ٥) ، وقول رسوله صلى الله عليه
وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته) متفق
عليه، وذلك كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فمثل هذا يقبل في خبره
ما صح وإن لم يتواتر ويصير قطعيًا، ونحن إنما نذكر مثل هذه الدقائق لغرض
شرعي صحيح سنذكره بعد.
(و) الإشكال الأصولي الأعظم:
قد ثبت بآيات القرآن المحكمة الكثيرة القطعية الدلالة أن آية الله تعالى وحجته
على صحة نبوة خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها الكفار ولم
يحتج عليهم بغيرها، هي كتاب الله المعجز للبشر ولغيرهم من الخلق، وثبت
بالحديث الصحيح الصريح أيضًا فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء
نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي،
فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) رواه الشيخان والنسائي فقوله صلى
الله عليه وسلم (وإنما كان) من شرح تفيد الحصر، وقد تأولوه بأنه لما كان القرآن
أعظم معجزاته وأدومها كان غيرها منها كأنه غير موجود، ولا حاجة إلى هذا
التأويل إذا اشترط في المعجزة التحدي؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتحدَّ العرب
ولا غيرهم إلا بالقرآن، وقد بيَّن العلماء حكمة ذلك بما هو معلوم مشهور بناءً على
أنه هو أصل العقيدة القطعي الذي لا نزاع فيه، وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة
القطعية الدلالة أن الكفار طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بآية من الآيات الكونية
التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضًا فلم
يجابوا إلى طلبهم، وفي بعض هذه الآيات ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان
يحب هو وأصحابه أن يؤيده الله بآية مما اقترحوه لعلهم يؤمنون، وأن الله تعالى لم
يؤته ذلك بل بيَّن له في بعض تلك الأحوال أن طلبهم الآيات إنما يقصدون به
التعجيز، وأنهم لو أعطوها لا يؤمنون، وأن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب
الاستئصال بكل قوم اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك، وأمره
في أحوال أخرى بأن يخبرهم بأن الآيات عند الله وبيده وحده، وأنه هو بشر لا
يستطيع شيئًا مما لا يستطيعه البشر، إلا أن الله تعالى أوحى إليه ما أمره أن يبلغه
الناس من البينات: الهدى والإيمان، وصرَّح في بعضها بأن آيته الكتاب العزيز
المشتمل على آيات كثيرة في آية الله الكبرى، وصرَّح في بعض آخر ببعض تلك
الآيات فيه.
ففي سورة يونس {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ
فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: ٢٠) وفي سورة الرعد {وَيَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: ٧)
وفيها {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد: ٢٧) .
وفي سورة طه {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ
الأُولَى} (طه: ١٣٣) أي أخبار كتب الأنبياء في القرآن وهي إحدى معجزاته.
وفي سورة العنكبوت {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ
عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: ٥٠-٥١) .
وفي سورة الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ
لاَ يُنظَرُونَ} (الأنعام: ٨) أي لقُضي الأمر بهلاكهم واستئصالهم، ثم لا ينظرون،
أي: لا يؤخَّرون ولا يُمهلون بعد نزوله.
وقال في سورة الإسراء {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء:
٥٩) .
وقال في سورة الأنعام لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليًا إياه عن إعراضهم
ومؤيسًا إياه من إعطاء الآية الكونية المقترحة {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى
أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأنعام: ٣٥-٣٧) .
ثم قال فيها مؤيسًا لأصحابه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم إذا أوتوا آية
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: ١٠٩-١١١) وليراجع من شاء تفسير كل ما ذكرنا من هذه الآيات التي في
سورة الأنعام في الجزء السابع وأول الثامن من تفسيرنا هذا وفي غيره.
بعد التذكير بهذه الآيات المحكمة القطعية كيف يمكننا أخذ رواية أنس بن مالك
رضي الله عنه في الصحيحين بالقبول؟ فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي
صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، ولم يدَّع غيره من رواة الحديث في
الصحيحين هذه الدعوى، مع العلم بأن روايته له مرسلة لأنه أنصاري كان عند هجرة
النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين، وعند انشقاق القمر ابن خمس سنين في
المدينة، ولا يعلم أحد إلا الله ممن سمع هذا الخبر، واحتمال سماعه له من ابن
مسعود بعيد؛ لأنه لم يأت في شيء من الروايات الصحيحة عن ابن مسعود أن
المشركين اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم القمر شقتين حتى
رأوا حراء بينهما، وفي رواية عنه (مرتين) وهي غلط من الرواة كما بيَّنه ابن القيم
وابن حجر ويُراد بها الشقين، ولم يصح ذلك عن أحد ممن رووا عنه هذا الحديث؛
وإنما روى نحوه أبو نعيم في الحلية ببعض أسانيده الواهية عن ابن عباس رضي
الله عنه، وروى عنه ما يعارضه وهو أن الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه
وسلم أن يريهم آية ليؤمنوا فأراهم انشقاق القمر هم بعض اليهود، وهي رواية شاذة
على شدة ضعفها لم يقبلها أحد من العلماء الذين يقبلون الأحاديث الضعيفة في
الفضائل والدلائل لمعارضتها للأولى؛ ولأن مكة لم يكن فيها اليهود، وسورة القمر
مكية بالإجماع.
قال الحافظ في شرح حديثه في (باب انشقاق القمر) من البخاري: ولم أر
في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس فلعله
سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس
صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه
حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في الدلائل من وجه
ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب
والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا
فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق اهـ. والحافظ حجة في النقل ضعيف في
إيراد الاحتمالات وتوجيهها في الغالب ولا سيما الاحتمالات المؤيدة لما يراه صحيحًا
أو حسنًا في نفسه كالفضائل والمناقب، وما يُعد من دلائل النبوة منها أولى.
وأول ما يخطر في بال مستقل الفكر أن الذين رووا الحديث عن ابن مسعود
نفسه عند الشيخين وغيرهما لم ينقل أحد عنه أن انشقاق القمر كان إجابة لطلب
الكفار بآية من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك معارض لنصوص القرآن فكيف
نلصق به احتمال تحديث ابن عباس بذلك في رواية لم تصح عن ابن عباس، مع
أن رواية ابن عباس في الصحيحين مرسلة يُحتمل أن يكون سمعها من بعض
التابعين حتى كعب الأحبار الذي ثبت أنه روى عنه بعض إسرائيلياته في التفسير
وغيره.
هذا مجمل ما يُقال في رواية كون انشقاق القمر كان آية مقترحة من الكفار
خلافًا لما يقتضيه ما ذكرنا من آيات القرآن وما لم نذكر منها، ولم نر أحدًا من
العلماء عُني ببيان الإشكال والجواب عنه، إلا أن الخطابي قرر في مسألة انشقاق
القمر حكمة عدم بلوغ شيء من المعجزات المحمدية مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه
إلا القرآن بما حاصله كما تقدم عن الحافظ ابن حجر (أن معجزة كل نبي كانت إذا
وقعت عامة أعقبت هلاك من كذَّب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس،
والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية) ...
إلخ ما تقدم - هو تلخيص الحافظ لكلامه أو لما فهم أو أراد منه، على أنه لم يرض
منه إلا تعليله لمناسبة إيتاء كل نبي ما يناسب حال أمته من الآيات كما تقدم، ولكن
الشيخ عليًّا القاري نقل عبارته نفسها في شرحه للشفا وهي:
(قال الخطابي: الحكمة في وقوعها ليلاً أن من طلبها من الرسول صلى الله
عليه وسلم بعض من قريش فوقع لهم ذلك ليلاً، ولو أراد الله تعالى أن تكون هذه
المعجزة نهارًا لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان، بحيث يشترك فيها الخاصة
والعامة - لَفَعَلَ ذلك؛ ولكن الله تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمة أتاها نبيها
بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا، وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها
عقلية، وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم، والله سبحانه وتعالى
أعلم) اهـ.
وهذه العبارة تفيد ما لم يفده تلخيص الحافظ لها؛ وإنما يلخص كل إنسان من
كلام غيره ما يفهمه مما يتعلق بغرضه، وما كل إنسان يفهم كل مراد غيره من
كلامه، وما كل ملخص يؤدي كل ما فهمه كما فهمه، وكل من العبارتين قاصر عن
تحقيق الحق في الموضوع، وقد بيناه في مواضع من تفسيرنا، ومنه أن الله تعالى
جعل آيته على صدق رسالة خاتم النبيين عقلية علمية دائمة لا تنقطع؛ لتكون حجة
قائمة على العقلاء ببقاء أمة الدعوة وأمة الإجابة أي إلى يوم القيامة؛ فإن الآيات
الكونية لا بقاء لها، ويحصل المراء في نقلها وفي دلالتها.
ومنه أنه مضت سنة الله تعالى بأن الأمة التي تقترح على رسولها آية، ثم
تكفر به بعد تأييد الله إياه بها؛ فإن الله تعالى يُنزل بها عذاب الاستئصال العام
عاجلاً لا عذاب المكذبين وحدهم، ولما كان خاتم النبيين قد أُرسل رحمة للعالمين
كان تعذيب قومه بعذاب الاستئصال منافيًا لهذه الرحمة ومستأصلاً لجميع البشر أو
لقومه في الجنسية النسبية وهم العرب عامة، لا من رآها منهم وكذَّبها خاصة، ولو
استأصل العرب، لما آمن بالقرآن شعوب العجم {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: ١٩٨-١٩٩) وإنما
أعد الله لفهمه وفقه العرب، وقدَّر أن يكونوا هم الدعاة والهداة للعجم، بما يرون من
تأثير هدايته فيهم بالسيادة والعدل في الأمم، كما بيناه في فاتحة التفسير، فعبارة
الخطابي قاصرة، ومن الغريب أنه يزعم أن وقوع انشقاق القمر ليلاً يخرجه عن
كونه آية حسية، ليدفع به استشكاله بعدم نزول العذاب بهم لعدم إيمانهم بها، وهو
ما اشترطه هو دون غيره لعذاب الأمة إذا لم تؤمن عقب رؤية الآية، وهو زعم
مخالف للحس.
وجملة القول: إنه لو صح أن قريشًا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل
على صدق نبوته، وأن الله تعالى أجابهم إلى طلبهم فجعل انشقاق القمر آية كما هو
نص حديث أنس في الصحيحين وغيره في غيرهما - لعذب الله أمته أو قومه
باستئصالهم على حسب القاعدة الصحيحة الثابتة بالنص القطعي، أو لعذب من
رأوها وكذَّبوا بها على رأي الخطابي ومن وافقه؛ ولكن لم يُنقل أن الله تعالى عذَّب
أحدًا منهم عقب ذلك التكذيب، بل نُقل خلافه، وأن منهم من مات بعد ذلك، ومنهم
من قُتل ببدر بعد بضع سنين، ومنهم من آمن بعد إصراره على التكذيب بعد رؤيتها
بضع عشرة سنة كالنضر بن الحارث من مسلمة الفتح الذين شهدوا حنينًا وأعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعير تأليفًا له، وقيل إنه أخ له اسمه نضير
بالتصغير، وراجع الاسمين في الإصابة.
ومن غريب الذهول أن الحافظ ابن كثير لم يعرض لهذه المسألة في تفسير
أول سورة القمر، بل أورد حديث أنس وسكت عليه؛ ولكنه أشار إليها في تفسير
بعض الآيات الصريحة في عدم إجابة الكفار إلى ما كانوا يقترحونه على النبي
صلى الله عليه وسلم من المجيء بآية آية أو بآية معينة، قال في تفسير آية يونس
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} (يونس: ٢٠) بعد أن أورد بعض الآيات
في معناها ما نصه:
يقول تعالى: إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عاجلتهم
بالعقوبة، ولهذا لما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن
آمنوا وإلا عذبوا، وبين إنظارهم - اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى إراشادًا لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى
الجواب عما سألوا {فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ} (يونس: ٢٠) أي أن الأمر كله لله
وهو يعلم العواقب في الأمور {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس:
٢٠) أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم،
هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى الله عليه وسلم أعظم مما سألوا حين أشار
بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه،
وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا ومما لم يسألوا اهـ. المراد منه
وقد أورد بعده بعض الآيات الناطقة بأنهم سألوا ذلك عنادًا وتعنتًا، وأنهم لا يؤمنون
إذا أجيبوا إلى ما طلبوا، وإلى ما هو أعظم منه، وظاهر عبارته هنا في مسألة
انشقاق القمر أنه لم يكن عن طلب واقتراح منهم، وإلا كان مناقضًا لما قبله ولما
بعده من الآيات هنا، ولما قاله كغيره في تفسيرها في مواضع أخرى من التفسير.
وما ذكره (ابن كثير) من تخيير الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم هو
المروي فيما ذكر من اقتراحاتهم في سورة الإسراء (٩٠ - ٩٣) وقال في تفسير
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء:
٥٩) أي نبعث بالآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك؛ فإنه سهل علينا، يسير
لدينا، إلا أنه كذَّب بها الأولون بعدما سألوها، وقد جرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم
لا يؤخرون إن كذَّبوا بها بعد نزولها ... إلخ.
وقال البغوي في هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ} (الإسراء:
٥٩) التي سألها كفار قريش {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: ٥٩)
فأهلكناهم، فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم؛ لأن من شأننا في الأمم
إذا سألوا الآيات، ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم، وقد حكمنا بإمهال
هذه الأمة في العذاب فقال تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: ٤٦) اهـ. وتكررت أقوال المفسرين بهذا المعنى في تفسير الآيات الكثيرة
التي ذكرنا بعضها في أول بيان هذا الإشكال.
فهذه أدلة قطعية إجماعية على بطلان متن حديث أنس رضي الله عنه المرسل
الصحيح السند الذي لم يجد الحافظ ما يقويه به على سعة اطلاعه إلا حديث ابن
عباس عند أبي نعيم الذي اعترف بضعفه، وأقول إن في سنده عنده بكر بن سهل
وكان يروي الموضوعات وهو من طريق الضحاك عن ابن عباس، واتفقوا على
أنه لم يره فهو منقطع، وضعفه بعضهم، وطريق ابن جريج عن عطاء عنه وابن
جريج مشهور بالتدليس، فلا تقبل عنعنته بالاتفاق، دع ما تقدم من إرساله وبطلان
متنه.
وإذا بطل كون الانشقاق كان آية طلبها كفار قريش فأُعطوها زال السبب الذي
جعل أكثر العلماء الذين تكلموا في المسألة شديدي الحرص على تصحيح الحديث؛
حتى تجرأ بعضهم على ادعاء تواتره والإجماع عليه، ورد الأكثرون هاتين
الدعويين، ولله الحمد أن أكرمهم بعدم قبول مثلهما، وقد كان من حرص بعضهم
على تصحيحه - مع الغفلة عن معارضة القرآن لكونه آية مقترحة - أن طعنوا في
دين من أنكر صحته وأبى تفسير الآية الكريمة به وعدوهم من المبتدعين، وإن كان
لهم سلف من أكبر علماء التابعين، كعادتهم في نبز كل من خالف المشهور أو
الجمهور في كل زمن بلقب الابتداع، ولو تذكروا آيات القرآن الكثيرة المعارضة له
لما حرصوا كل هذا الحرص على تصحيح ما يخالفها، بل لما استحلوه، وإلا كانوا
أحق بلقب الابتداع ممن رموهم به، أو بما هو شر منه، وإن كان إكبارًا لآية
انشقاق القمر التي تصغر وتتضاءل دون كل آية من آياته، فإن نوره أقوى وأوضح
من نور الشمس التي يستمد القمر نوره منها، على أنهم لم يجدوا بدًّا من تصغير
هذا الانشقاق في سبيل دفع الاعتراضات عليه، حتى قال بعضهم: إنه وقع في آخر
الليل في لحظة من الزمان؛ ولذلك لم يره إلا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم
في تلك اللحظة، وأي برهان على النبوة في مثل هذه اللحظة من آخر الليل أو أوله
أو وسطه؟ وكل إنسان يتهم نظره في مثلها، وإن لم يكن ثمة تهمة في أنها من
تخييل السحر، وقد وقع مثلها للحليمي وغيره كالثقة الذي حدثه بمثل ما رأى؟
وأما معارضة جملة هذه الروايات بما استشكله العلماء ونقلناه عنهم مع
أجوبتهم والبحث فيها، فالذي نقرره فيها أن من قبل تلك الروايات في أن القمر قد
انشق ومن لم يقبلها لعدم اقتناعه بتلك الأجوبة عن تلك الإشكالات، سواء في كون كل
منهما لم يرد به شيئًا من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا مما صح من حديثه.
(فإن قيل) إننا رأيناك ذكرت كل الروايات عن أولئك الصحابة الكرام في
حديث انشقاق القمر إلا حديث علي رضي الله عنه فلم تذكر لنا لفظه ولا سنده لنعلم
درجته ودلالته فما سبب ذلك؟ (قلت) إنهم ذكروا اسمه كرَّم الله وجهه في رواته؛
ولكننا لم نر أحدًا منهم ولا من غيرهم ذكر لفظه ولا ذكر من خرَّجه لنراجعه في كتابه
إن كان من الكتب المشهورة المتداولة؛ ولكننا رأينا في شرح الشفاء لملا علي القاري
عند ذكر المتن لعلي في رواته ما نصه: قال الدلجي: لا يعرف مخرِّجه اهـ.
(ز) الخلاصة الأصولية لأحاديث انشقاق القمر:
خلاصة القول في أحاديث انشقاق القمر (١) أنها أحادية لا متواترة (٢)
وأنها متعارضة مختلفة، لا متفقة مؤتلفة (٣) وأنه ليس فيها حديث مرفوع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم كالأحاديث الناطقة بخصائصه (٤) وأنه ليس في
الصحيحين منها إلا حديث واحد مسند إلى من صرح بأنه رأى ذلك، وفيه من
الاختلاف ما أشرنا إليه في محله؛ ولكن ليس فيه أن انشقاقه كان بطلب من كفار
مكة (٥) وأن حديث أنس الذي صرَّح فيه بذلك مرسل، والأصل في المرسل أنه
من المردود غير المقبول، على ما فيه من التفصيل المشهور، ورواياته عندهما
كلها عن قتادة بالعنعنة، إلا لفظ للبخاري (عن قتادة عن أنس أنه حدثهم أن أهل
مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر) وقتادة كان على فضله
وسعة حفظه مدلسًا، فيحتمل أن يكون سمع هذا الخبر عن أنس ممن لا يوثق به،
وكلمة (حدَّثهم) ليست في قوة (حدَّثنا وحدَّثني وسمعته) وما في معناهن، وكما
يحتمل أن يكون قتادة رواه عن أنس بواسطة يحتمل أن يكون أنس سمعه ممن لا يوثق
به من التابعين أيضًا كما تقدم (٦) وأنه على ذلك معارض بنص القرآن وسنة الله في
الرسل وأقوامهم، والحديث المرفوع المتفق عليه في حصر آية نبوته صلى الله عليه
وسلم في القرآن كما تقدم.
وغرضنا من هذا أن ما دلت عليه الدلائل القطعية من الآيات الكثيرة والحديث
المتفق عليه في حصر آية نبوته في الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليه وهو القرآن لا
تقتضي الطعن في صدق أنس ولا في صدق قتادة لما ذكرنا من الاحتمال، وهي
مقدمة على مضمون حديثهما على كل حال، بل لو وجد فيها حديث صحيح السند
مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكانت مقدمة عليه عند عدم إمكان الجمع بينها
وبينه، وكان هذا دليلاً على أنه موضوع في الواقع، وإن عدَّلوا رجال سنده في
الظاهر.
وإذا لم يصح هذا الحديث الذي انفرد به أنس في مراسيله على تقدير سماع
قتادة منه فسواء عندنا أصحَّ غيره مما رووه في انشقاق القمر أم لا، فإن غرضنا
الأول من هذا البحث كله أنه لا يوجد فيها حديث صحيح مخالف للقرآن، لا لأجل
المحاماة عن القرآن؛ فإن القرآن فوق كل شيء، وكل ما خلافه فهو باطل قطعًا،
وإنما غرضنا الدفاع عن أنس فقتادة ثم عمن روى عنهما ما ذكر وسكت عليه، ولا
يهمنا بعد هذا أمر من قبل الرواية واحتج بها وجعلها من دلائل النبوة، لغفلتهم عن
هذه الحقائق القطعية.
(ح) تفسير الآية:
إن لعناية المفسرين وغيرهم بتصحيح الروايات في انشقاق القمر سببين
(أحدهما) تكثير دلائل النبوة بالمعجزات الكونية كما تقدم (وثانيهما) تفسير
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: ١) بها، وأن أكثرهم ليتجرد من كل فهم
ورأي وعلم باللغة وغيرها أمام ما دون هذه الرواية في تعدد طرقها، وجلالة رواتها،
كما ترى في تفسير محيي السنة البغوي فمن دونه في العلم بالرواية خضوعًا
وتسليمًا لكثير من الروايات الإسرائيلية الواهية والموضوعة.
فإذا أنت رجعت إلى لغة القرآن في معاجمها لتفهم الآية منها دون هذه
الروايات وجدت في لسان العرب ما نصه: والشق: الصبح، وشق الصبح يشق
شقًّا: إذا طلع، وفي الحديث (فلما شق الفجران أمرنا بإقامة الصلاة) يقال شق الفجر
وانشق: إذا طلع، كأنه شق موضع طلوعه وخرج منه [١] وانشق البرق وتشقق:
انفلق، وشقيقة البرق: عقيقته وهو ما استطار منه في الأفق وانتشر اهـ. فعلى هذا
يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق
ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر، وقال الراغب في مفردات القرآن:
(وانشق القمر) قيل: انشقاقه في زمن النبي عليه السلام، وقيل: هو انشقاق
يعرض فيه حين تقرب القيامة، وقيل: معناه: وضح الأمر اهـ. ونقله عنه صاحب
التاج، وهذا الأخير هو المتبادر من الآية بنص اللغة ومعونة السياق؛ لأن صيرورة
القمر شقتين منفصلين لا دخل لها في إنذار المشركين الذي هو موضوع السورة، ولم
يسبق أن عد من آيات الساعة كانشقاق السماء وانفطار الكواكب، فلم يبق إلا أنه
بمعنى ظهور الحق ووضوحه بآيات القرآن.
والقول بأن معناه أنه سينشق عند قيام الساعة مروي عن الحسن البصري
وعن عطاء من التابعين، والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي في القرآن كثير
جدًّا في أخبار الساعة والآخرة وغيرهما، وأخرج الطبراني وابن مردويه من
طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا: سُحر القمر، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: ١)
إلى قوله (مستمر) فهذه رواية ثالثة حملها بعضهم على انشقاق القمر وهو بعيد.
وقد رد الآلوسي هذه الوجوه اللغوية أو بعضها بقوله: وزعم بعضهم أن
انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه، وهذا كما يسمى الصبح فلقًا
عند انفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قول النابغة:
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي
وزعم آخر أن معنى انشق القمر: وضح الأمر وظهر، وكلا الزعمين مما لا
يُعَوَّل عليه ولا يُلتفت إليه، ولا أظن الداعي إليهما عند من يقر بالساعة التي هي
أعظم من الانشقاق، ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق - سوى عدم
ثبوت الأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده، ومنشأ ذلك
القصور التام، والتمسك بشبه هي على طرف الثمام. ومع هذا لا يكفر المنكر بناء
على عدم الاتفاق على تواتر ذلك، وعدم كون الآية نصًّا فيه، والإخراج من الدين أمر
عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق اهـ.
وقد فاته قول أهل اللغة: انشق البرق وانشق الصبح بمعنى طلع القمر،
وبمعنى استطار نوره وانتشر في الأفق، ومثله القمر في ذلك، فما أنكره وسماه
مزاعم هو من نصوص اللغة، وما صَرَفَه هو عنها إلا اغتراره بالروايات في كون
الانشقاق كان آية معجزة اقترحها الكفار فأجيبوا إليها، ومنشأ ذلك غفلته عن كون
الحديث في ذلك مرسلاً شاذًّا عن مدلس، وكونه مع هذا معارَضًا بنصوص القرآن
القطعية وما يؤيدها من الأحاديث المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في كون آيته التي جعلها الله تعالى حجة نبوته وأمره بالتحدي بها في جملتها تارة،
وبعشر سور مثله وبسورة من مثله، وبالاحتجاج ببعض ما اشتملت عليه تارات
أخرى - هي القرآن وحده، وما كان صلى الله عليه وسلم يرجو بهذا أن يكون أكثر
الأنبياء تابعًا يوم القيامة، إلا لأن هذه الآية أعظم وأظهر وأبهر وأقهر من كل آيات
الأنبياء إجمالاً وتفصيلاً، وقد فهم هذا المعنى وأدرك هذه الحجة بعض حكماء
الإفرنج، فصرَّح بأن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن كانت أقوى من كل
معجزات الأنبياء جذبًا إلى الإيمان.
وقد زعم الآلوسي وغيره أن قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: ٢) حجة على أن المرد بالآية انشقاق القمر، ولو كان
كذلك لقال: فأعرضوا وقالوا: سحر مستمر، وأما الشرط فللاستقبال أو لبيان الشأن،
ولا علاقة بين انشقاق القمر ودعوى النبوة، فيكون آية عليها، ولفظ الآية يُطلق في
القرآن على كل ما يدل على وجود الله ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته وقدرته
ورحمته وحكمته، وعلى ما يؤيد به رسله، وأكثر ما يذكر فيه الإعراض عن
الآيات في القرآن يُراد به هذه الدلائل أو آيات القرآن، كقوله تعالى في النوع الأول:
{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (يوسف: ١٠٥) وقوله في النوع الثاني: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ
كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: ٤) وأما قولهم {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: ٢)
فأول ما قالوه في القرآن وهو ما حكاه عنهم في سورة المدثر {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ
يُؤْثَرُ} (المدثر: ٢٤) وهي ثالث سورة نزلت بمكة أو الرابعة على القول بأن
الفاتحة أول ما نزل، وفي معناها آية سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ
إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (سبأ: ٤٣) وآية الزخرف: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ قَالُوا
هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: ٣٠)
وإنك لترى أوائل سورة الأنبياء بمعنى أوائل سورة القمر وهي: {اقْتَرَبَ
لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ
اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: ١-٣) .
(ط) تأييد الإسلام في هذه المسألة وأمثالها:
إننا نختم هذا البحث بتنبيه قراء المنار لأمر عظيم الخطر والشأن، وهو أن
العلماء الذين تساهلوا بقبول روايات انشقاق القمر وجعلها آية كونية حسية جعلت
حجة على كفار مكة عندما اقترحوها، وتمحلوا في الأجوبة عن الاعتراضات
العقلية الأصولية عليها، فجاءوا بما لا يقبله العاقل المستقل - إنما حملهم على ذلك
حب تكثير المعجزات النبوية كما تقدم وتفنيد منكريها؛ لأن العوام يفهمون من
إعجازها ما لا يفهمون من إعجاز القرآن، وقد تغيرت الحال في هذا الزمان الذي
كثر فيه استقلال الفكر ورفض التقليد في أكثر المتعلمين، فصارت هذه الروايات
تعد طعنًا في علم المسلمين وعلمائهم، ويخشى أن تعد طعنًا في الإسلام نفسه،
والحق أنها ليست من أصول الإسلام ولا من فروعه، فأصول العقائد الإسلامية لا
تثبت إلا بدليل قطعي، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين، والدليل القطعي إما
عقلي وإما نقلي، والنقلي هو النص القطعي الدلالة عن الله ورسوله، والآية ليست
قطعية الدلالة على كون الانشقاق هو صيروة القمر فلقتين منفصلة إحداهما عن
الأخرى، كما اعترف بذلك الذين فسروها بذلك وآخرهم الآلوسي، وقد بيَّنا نحن أن
دلالتها على ما ذكر مرجوحة، فما كانت لتخطر على بال أحد لولا تلك الرواية
المنقوضة بنص القرآن والحديث المرفوع المتفق عليه، وسائر الروايات ليس فيها
شيء يصلح لتفسير الآية به إلا من وجه بعيد لا يعد نصًّا ولا ظاهرًا فيه، وهو عد
انشقاق القمر من علامات قرب الساعة بالتبع للآيات في انشقاق السماء وانفطار
الكواكب أو الدخول في عموم الثاني، إذ لم يذكر القمر في آيات الساعة إلا في قوله
تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (القيامة:
٧-٩) ... إلخ.
ومن الدفاع عن الإسلام وعلماء المسلمين بحق أن يقال لهؤلاء المستقلين في
الفكر أن الإسلام لا يكلفكم أن تؤمنوا برواية انفرد بها قتادة المدلس عن أنس في
خبر قد علم باليقين أنه لم يُحدِّث فيه عن رؤية ومشاهدة، بل عن سماع من مجهول
يجوز أن يكون كاذبًا، ولا يكلفكم الإسلام أن تؤمنوا بأن الأصل في مرسل
الصحابي أن يكون مقبولاً؛ لأن هذا إنما يكون عند قائليه فيما لا اعتراض ولا علة
في متنه ولا شذوذ، وحديث أنس خالف جميع الروايات عن غيره، بل الإسلام
ينهاكم أن تقبلوا حديث أي إنسان عن صحابي وغيره يخالف نص القرآن، وسنن
الله في الأكوان.
ومن اطمأنت نفسه من المسلمين بقبول سائر تلك الروايات على علاتها وكان
ممن يرى مخالفة النقل القطعي والعقل، أهون من مخالفة زيد وعمرو، وصدق
عقله أن تقع هذه الآية ولا يحدث أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من قدماء
الصحابة برؤيتها والاحتجاج بها فضلاً عن تواترها - فليس له أن يجعلها من عقائد
الإسلام، وينفِّر مستقلي الفكر ومتبعي الدليل من المسلمين وغير المسلمين منه.
(ي) ذيل في مسألة الثقة بالروايات:
قد يحيك في صدور بعض الناس - بعدما تقدم - مسألة الثقة بالروايات وعدم
الثقة بها، يقول بعض الناس: إذا بطلت الثقة بهذه الروايات في هذه المسألة على
كثرتها، بطلت الثقة بسائر روايات كتب السنة في غيرها.
ونقول لهذا القائل (أولاً) إن تحقيق الحق بالدليل هو مقدَّم في الإسلام على
توثيق الرواة وتقليد العلماء (وثانيًا) إن كثرة هذه الروايات إلى قلة بعدما علمت
من اضطراب أسانيدها ومتونها وعللها، ورب حديث واحد مروي من طريق واحد
أقوى دلالة منها، كحديث (إنما الأعمال بالنيات) مثلاً، فجملة القول: إن عدم الثقة
بها لا يقتضي عدم الثقة بغيرها؛ وإنما يقتضي أن في كل ما عدا القرآن من الكتب
مسائل تحتاج إلى التمحيص مصداقًا لقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) (ثالثًا) إن جملة
الروايات إنما تدل على أن بعض الصحابة وبعض الكفار رأوا القمر قد انشق فصار
فرقتين في لحظة من الزمان، ولا ضرر في تصديق ذلك مهما يكن سببه؛ وإنما
الضرر أن يجلوه آية مقترحة جعلها الله حجة على صحة نبوة رسوله صلى الله عليه
وسلم، وأنه يجب على كل مسلم أو كافر يريد الإسلام أن يؤمن بذلك {وَاللَّهُ يَقُولُ
الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .