للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حجة ناهضة وشبهة داحضة

من عَذِيرِيّ من قومٍ لا يكادون يفقهون حديثًا، يرون القبيح حسنًا ويحسبون
الطيب خبيثاً، يهيجون على من قال الحق، ويحتمون على من نطق بالصدق، وأما
الأعمال فقيمتها عندهم بحسب تسميتها لا بحسب حقيقتها، فإذا سموا الرذيلة
فضيلة والمنكر معروفاً والفجور برًا والفسق طاعة والكفر إيمانًا، فتعظيم هذه
الأشياء واعتبارها يكونان عندهم بمقدار ما تستحق مفهومات هذه الأسماء في
الأصل، كما أن الجاهل منهم يفرح ويسر إذا سمي عالمًا أو أطلق عليه لفظ الأستاذ
ونحوه، والغر الأهبل يتبجح بلقب بك أو باشا، والدَّعِي يفتخر بكلمة السيد
الشريف، وهكذا قد جارت علينا مملكة الألفاظ، حتى جعلت بيننا وبين الحقائق سدًّا
منيعًا، لا ندري متى يدك أو يخرق.
انحرف المنتسبون لطريق التصوف عن هدي سلفهم الصالح، حتى صاروا
معهم على طرفي نقيض، ومع ذلك ترى العامة تخضع لهم؛ لأن العلماء يقرونهم
على ما هم فيه ويحترمونهم على مقدار مظاهرهم الدنيوية، وقد كان العلماء من قبل
واقفين بالمرصاد لأهل التصوف الصادقين، حتى إذا آنسوا منهم انحرافًا بقول أو
عمل أقاموا عليهما النكير وسلطوا عليهم الحكام، يجلدون ويسجنون، بل يصلبون
ويسلخون، فأين صوفيتنا من أولئك الصوفية، وعلماؤنا من أولئك العلماء؟ الحمد
لله قد بقي عندنا من الحق التسليم بأن سلف الفريقين خير من هذا الخلف المخالف له
في عمله والمتخلف عنه في علمه.
إن سكوت العلماء، بل سكونهم إلى هؤلاء المنكوسين المركوسين الذين اتخذوا
دينهم هزؤًا ولعبًا وحرفة وكسبًا، أثبت في اعتقاد العامة أنهم على شيء، ولذلك
عذلنا في الكلام على منكرات الموالد ونحوها منهم العاذلون، وأنكر علينا معروفنا
من سفائهم المنكرون، أما العلماء فقد قالوا: إن ما كتبته كلام شرعي صحيح، ويا
ليته يُقبل ويُنتفع به!
ولقد قرأت في مجلس إدارة الأزهر الشريف مقالة (المرشدون والمربون أو
المتصوفة والصوفيون) وهي إحدى المقالات التي كتبتها تحت عنوان {رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: ٦٧) فأعجب بها شيخ
الإسلام، وأثنى عليها هو ومن حضر مجلسه ذاك من العلماء الأكارم، والعجيب في
هذا المقام أن بعض مَن يعتقدون أن جميع ما أنكرناه منكر لا ريب في قبحه وبعده
عن هدي الدين، اعترضوا علينا بنشره في الجريدة محتجين بأن في ذلك نشرًا لمعايب
قومنا، وإطلاعًا لأعدائنا الأجانب عليه، وفاتهم أن الجريدة لا يكاد يقرأها أحد من
الأجانب، وإن من الجهل وسفه الرأي أن يكتم المريض داءه وهو ظاهر حذرًا من
شماتة عدوه به، وإن الأجانب أعلم منهم بهذه القبائح، بل الفضائح، وإنهم يعيبون
بها المسلمين بل الدين الإسلامي نفسه، وإن المجامع الهذيانية الجنونية التي تسمى
(حضرات) و (أذكارًا) مصورة في كتبهم وجرائدهم، وإنهم استأجروا نفرًا من
هؤلاء الأشرار وأخذوهم لمعرض شيكاغو لعرض عبادات المسلمين وأسرارهم
المضحكة على أنظار العموم. وقد حدث في هذه الأيام ما فيه عبرة لمن يعتبر
وعظة لمن يتدبر ويزدجر، وهو حجة لنا يذعن لها المنتقدون من أهل الإنصاف،
وتنقطع بها ألسنة اللاغطين من ذوي الاعتساف، وهاك الخبر نقلاً عن المؤيد الأغر،
وهو ما جاء في عدد يوم الثلاثاء الماضي بنصه قال:
وأين باب مشيخة الطرق لنقرعه؟
كانت ليلة الأمس من أبهج الليالي وأبهاها في منزل جناب البارون أوبنهايم
الموظف في الوكالة الألمانية، حيث كان جنابه قد وزع رقاع الدعوة على الكثيرين
من السياح لحضور (حفلة ذكر) فلم تأت الساعة الرابعة مساء حتى ازدحم شارع
الكُبرِي الكائن فيه منزل جنابه بالعربات على اتساعه ازدحامًا يفوق ازدحام شارع
السيوفية أيام الجمع في الشتاء بعربات المتفرجين من السياح على تكية المولوية،
وأخذ المدعوون يدخلون فرادى وجماعات من سائحين وسائحات، ليشنفوا الأسماع
برخيم الغناء ويمتعوا الأنظار بجميل الرقص المعبر عنه بالذكر.
وبعد أن أخذ الجميع مجالسهم وتناولوا ما طاب من مأكل وشراب، وكان
مجلس الذكر قد استعد للرقص هب المتفرجون من مجالسهم وانتشروا حول حلقة
الذاكرين يلعبون ويمرحون، ويهزءون ويضحكون من قوم ترى عمائمهم على شكل
دائرة تمثل قوس قزح أو ألوان الطيف، من بيضاء ناصعة، وصفراء فاقعة،
وحمراء قانية، وخضراء صافية، وسوداء حالكة، وهم بين شاب في مقتبل العمر
غض الشباب، وشيخ هرم تهوي السنون برجله إلى القبر، قد أخلقت لباس جدته
الأيام، فلم تكسُه غير شيب وعيب، حيث جعل دينه هزؤًا وسخرية أمام قوم
يظنون ذلك من الدين، وهو بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولم يفعلوا
ذلك إلا طمعًا في بعض دريهمات لا تكفي لشراء غداء، فبئس هذا الحال، ولا حول
ولا قوة إلا بالله.
فهلا يوجد في مصر من علماء الإسلام وأهل الطرق من يمنع هؤلاء من تحقير
ديننا في أعين الأجانب، حتى صيروه لعبة وهزؤًا، وصرنا نحن أمامهم كالأنعام
وساء ما يفهمون اهـ.
وفي عدد اليوم التالي (الأربعاء) ما ملخصه:
أين باب مشيخة الطرق لنقرعه؟
تحققنا اليوم أن (الليلة الراقصة) التي جاد بها جناب البارون أوبنهايم على
ضيوفه من السياح بواسطة (قرود الذاكرين) كانت تحت إدارة حضرة الروحاني
الكبير الذي يسمي نفسه: (الشيخ عليش) وقد كان جالسًا على تخته أثناء انعقاد
مجلس الرقص وشيبته تتصبب أسرارًا روحانية يوجهها إلى دراويشه الذين كانوا
ببركته يأكلون النار ويزدردون الزجاج، ويبرزون من الكرامات (الباهرات) ما
يعجز عنه مهرة المشعوذين، بل كبار السحرة المتفننين اهـ.
(المنار)
أما جوابنا عن سؤال المؤيد (وأين باب مشيخة الطرق لنقرعه) فهو
إذا كان رب البيت بالطبل ضاربًا ... فلا تلم الصبيان فيه على الرقص
وما منعنا أن نوجه الملام فيما كتبناه عن منكرات أهل الطرق من قبل إلا أن
شيخهم ورئيسهم الأكبر سماحتلو الشيخ محمد توفيق البكري كان يعدنا ويمنينا
بالإصلاح، وقد عيل الصبر ولم نر للوفاء بالوعود وتحقيق الأماني أثراً. فعسى أن
تزعجه وخزات هذه الحوادث المؤلمة إلى العمل والتجافي عن مضجع الكسل،
فيبطل الغرور ويستنير الديجور، ويستبدل المدح والثناء باللوم والإزراء.
حضرات أهل الطريق
كنا كتبنا من بضع سنين نبذة في حال المنتسبين للطريق في الديار السورية،
أودعناها فاتحة المقصد السادس من كتابنا (الحكمة الشرعية) أحببنا أن نوردها
هنا بمناسبة الحادثة التي كشفت القناع للمغرورين بهؤلاء القوم من كون فعلهم إهانة
للإسلام، تجعله سخرية عند جميع الأنام، قلنا هناك بعد كلام في حقيقة التصوف
وأهله ما نصه:
قد علمت مما شرحناه أصل طريقة القوم وما كانوا عليه علمًا وعملاً، وكيف
صرح أئمتهم من بضعة قرون بأنهم قد انحرفوا عن الصراط السوي، ولم يبق
عندهم إلا الرسوم، وأما الآن فقد محيت تلك العلوم، واندرست هياتيك الرسوم،
وطاحت تلك الإشارات، وذهبت تلك العبارات، واعتكر الإظلام، واشتبهت
الأعلام، وتمسكوا بحبال الأوهام والإيهام، فاتخذوا الطريق أحبولة للجاه، وحيلة
للمفاخرة والمباراة، فبعد أن كان عملاً وحالاً صار صناعة وعلمًا، ثم انتكس حال
المتظاهرين بذلك فأخذوا أولاً بالتقليد والتشبه بالقوم تيمناً وتبركًا على حد قول القائل:
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا ... إن التشبه بالكرام فلاح
وسارت أيام وسرت ليال على ذلك وهم، تعرفهم بسيماهم:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
ثم غلبت الأهواء، وعمت اللأواء، فلا خيام ولا نساء، إلا ما كان تحت
حجاب الخفاء، ولم يبق عند المتأخرين من علم القوم إلا شقشقة اللسان وزخرفة
الكلام بألفاظ لا يفكرون بمعناها، وكلمات لا يعقلون مرماها، كالسكر والوجد،
والإدلال والشطح، والفرق والجمع، والتلوين والتمكين، وما أشبه هاتا من الكلم
الذي تلقفوه من الكتب مع تحريفه عن مواضعه، وأما العمل فليس لهم منه الآن إلا
ضرب الدفوف ودق النقارات والصنوج، والنفخ بمزمار الشبابة، بل والضرب
بآلات الأوتار عند البعض، والتغني بالأشعار الغرامية المهيجة للنفوس المنغمسة في
الترف والنعيم، والباعثة لها على التوغل في الحظوظ النفسية، والاستهتار في
عشق الأحداث والنساء، بما فيها من التخيلات في أوصاف الحسان المهيجة للانفعال،
المحركة للوجدان، وشرح أحوال العشاق وأطوارهم كالهجر والوصال، والتيه
والدلال، كأشعار سيدي عمر بن الفارض وغيره، ويسمون كل ذلك عبادة؛ حيث
يأتونه في حالة الذكر الذي جعلوه كيفية من الرقص يتعلمها حسان الأحداث وغيرهم،
ويتمزجون أثناء الذكر بالرجال، ويتواجدون ويصيحون، وإذا أنكر عليهم منكر
وعذلهم في صنعهم هذا عاذل فالعذر لهم أن بعض الشيوخ الصادقين والأولياء
السالفين، قد اتفق لهم شيء من مثل ذلك، وهذا لا تقوم به حجة؛ لأن من ينقل
عنه لم يقل أحد: إنه كان متعمداً له ومتخذه صناعة، وإنما قيل: إنه كان لغلبة الحال
عليه، وذلك مما صرحوا بأنه لا يقتدى بصاحبه فيه، وهذا فيما لا يقطع بتحريمه
في نظر الفقه، وأما ما صرح الفقهاء بتحريمه فلا يلتفت لفاعله، سواء كان متعمدًا
أم مغلوبًا على أمره.
ينطبق على هذا الخلف الصالح لذلك السلف الصالح أتم الانطباق ما نقله
الحفني في حواشيه على الجامع الصغير عن المناوي عند الكلام على الخبر الذي
أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف، وهو: (إن الأرض لتعجّ إلى الله
تعالى من الذين يلبَسون الصوف رياءً) قال: أي إيهامًا للناس أنهم من الصوفية
الصلحاء الزهاد، ليعتقدوا ويعطوا وما هم منهم، قال المعري:
أرى حبل التصوف شر حبل ... فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وقال آخر:
قد لَبِسُوا الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر بشرب العصير
بالرقص والشاهد من شأنهم ... شر طويل تحت ذيل قصير
انتهى ما نقله الحفني رحمه الله تعالى.
أقول:
وقد أكثر العلماء والأولياء من الكلام في السماع، فقال به أقوام ومنعه
آخرون، وللمحققين فيه تفصيل معروف، ومنه أنه محظور في حق مَن يحركهم
على فعل محرم، أو يحملون ما يسمعون من الغزل والنسيب على أمرد أو أجنبية،
وما أكثر هذا في أبناء هاته الأيام وما قبلها بسنين وأعوام، وقد شاهدت بعيني
غير مرة بعض من عرف واشتهر بحب الأحداث، وقد حضر مجلس ذكر وفيه
قوال حسن الصوت، خبير بصناعة الإنشاد والتغني، فكان الشاب العاشق يبكي
كلما غرد المنشد حتى ينقطع عن الذكر لغلبة البكاء والنشيج، ومعظم الحاضرين
على علم بأن سبب بكائه استيلاء عشق الحدث عليه، وقهره إياه تحت سطوة
سلطانه. ولعمر الإنصاف إنه لا يعذل على بكائه، وإنما العذل والملام على من عقد
له ولأمثاله مجلس سماع يتوخى حضوره وينتحيه حيث كان، لعجزه عن إنشاء مثله،
ومعلوم أن الإنسان لا يخلو في وقت من الأوقات من حال حاكمة عليه، وناهيك
بحال العشق الذي:
كم ملك الأحرار للعباد ... وأوجد الرقة في الجماد
وحكم الظبا على الآساد ... وصوب الخطأ على السداد
وألبس الغي بعين الرشد
وهو من أشد أمراض النفوس، قاهرًا ومذللاً لها، حتى إنه يهبط بطباع أعاظم
الأشراف من أوج عزها إلى الاستكانة والخضوع لأحقر فتيان السوقة أو فتيات
الأعراب من ذوي النذالة والمهانة، وإن السماع من أمسّ الدواعي لتحريك سواكنه،
وإنشاب براثنه، وأَنَّى لذلك الشاب المسكين ولأمثاله بأَلْهِيَةٍ يشغل بها نفسه عن
التفكير بمحاسن محبوبه وإدلاله عليه إذا سمع المنشد يلحن هذه الأبيات:
تِهْ دلالاً فأنت أهل لذاكا ... وتحكَّمْ فالحسن قد أعطاكا
لك الأمر فاقضِ ما أنت قاضٍ ... فعليَّ الجمال قد ولاكا
وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختياري ما كان فيه رضاكا
وأمثال ذلك مما يعتاد إنشاده في مجلس الذكر، وليت شعري ماذا يسبق إلى
فهم الجاهل منهم أو العالم وهو مكبل في أسر النفس الحيوانية وغريق في بحار
رعوناتها إذا سمع القوال ينشد:
تمسك بأذيال الهوى واخلع الحيا ... وخل سبيل الناسكين وإن جلوا
وقلت لزهدي والتنسك والتقى ... تخلوا وما بيني وبين الهوى خلوا
ولقد حدثنا بأغرب من نبأ الشاب الذي مرّ وأدهى وأمرّ.
ثم توسعنا بالقول في السماع بما لا محل له هنا.
ولما جئنا هذه الديار ورأينا المجامع التي تسمى الأذكار، تجلى لنا أن سيئات
السوريين عندها حسنات، فهنالك يذكر الله تعالى كل مَن حضر ولا ينشدون من
الشعر إلا ما كان منسوبًا للصوفية من الإلهيات والنبويات، والخمريات والغراميات،
وهنا يوجد نفر قليل بين المئات والألوف يرقصون بتكسر وتثنٍّ، ولا يكاد يسمع
منهم قول: الله، أو لا إله إلا الله، وباقي القوم يستمعون المنشد الذي يغنيهم بأحدث
الأغاني الغرامية التي تُغَنَّى في مجالس اللهو والشرب على العود والقانون، وهم
يصرخون ويتأوَّهون إلى آخر ما هو مشاهَد، ولا حاجة بنا إلى شرحه، وإنما
الحاجة إلى منعه، وجعل الذكر ذكراً، لا لهوًا ولغوًا وهزؤًا ولعبًا، أما آن لنا أن
نعتبر وندَّكر؟ حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.