للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تتمة سيرة الأستاذ الإمام
إفتاء الديار المصرية
وخدمة الأوقاف والمحاكم الشريعة
في ست بقين من المحرم سنة١٣١٧هـ ٣ يونيو سنة ١٨٩٩م صدر الأمر
العالي بناء على قرار مجلس النظار بتعيين الفقيد مفتيًا للديار المصرية وكان الأمير
أيده الله بتوفيقه، هو الذي اختاره لذلك أولاً، وقد رأيته في أول الأمر غير مرتاح
إلى هذا المنصب وإن كان شريفًا؛ لأنه ليس فيه أعمال عمومية، ولكن الرجل
الذي قدر على أن يجعل التحرير في الجريدة الرسمية وسيلة للإصلاح في الحكومة
والإرشاد للأمة لا يعجز عن التوسل بأكبر منصب شرعي إلى الخدمة الملية العامة
وكذلك كان، فإنه به خدم القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية أَجَلّ خدمة، وزادت في
أيام هذا المنصب شهرته وكثر عدد العارفين بفضله حتى كاد يكون المرجع في الفتوى
لجميع مسلمي الأرض وناهيك باستفتاء مثل مفتي بنجاب إياه.
كان أول عمل جليل له بعد أن صار مفتيًا تفتيش المحاكم الشرعية في القطر
كله وإظهار جميع ما فيها من الخلل وبيان مناشئه، فمنها ما كان من تقصير الحكومة
ومنها ما هو من تقصير القضاة والكُتاب، وقد كتب في ذلك تقريره المشهور فكان
مدهشًا للأفكار في دقة بحثه وتشخيصه داء هذه المحاكم، ووصفه للعلاج الذي لا
شفاء بدونه، وقد عجب الجبناء من شجاعته إذ خاطب الحكومة رسميًّا ببيان
تقصيرها وطالبها بإزالته، وقد أحلت الحكومة هذا التقرير محل الاعتبار وألفت لجنة
في نظارة الحقانية للبحث في تنفيذ ما يتيسر تنفيذه منه بالتدريج.
وكان رحمه الله صاحب الرأي في مجلس الأوقاف الأعلى بما كان يطبق
الأعمال على الشرع والمصلحة، وأهم خدمة له فيه مشروع المساجد الذي وضعه
لعمارة بيوت الله تعالى وإحياء الدين وعلومه، وترقية الخطابة، وبث الإرشاد في
الأمة، وقد نوهنا به في المنار من قبل ونشرنا في الجزء الثامن من هذا المجلد ما
أقره المجلس من ذلك المشروع ثم صدر الأمر العالي بتوقيف تنفيذه ثم صدر أمر آخر
بتنفيذ شيء منه، ومن هذا المشروع تعلم أنه رحمه الله تعالى كان يتوسل بكل
عمل يدخل فيه إلى إحياء العلم وهداية الدين وتربية المسلمين.
***
عمله في مجلس الشورى
في سنة ١٣١٧ - ١٨٩٩ عين عضوًا دائمًا في مجلس الشورى فانتقل
المجلس به من حال إلى حال. كانت الحكومة قلما تحفل برأي المجلس وكان
المجلس في نظر الأمة وفي نظر أعضائه الوكلاء عنها غير مضطلع بما أُوجِد لأجله،
حتى إن جلساته كانت قلما تلتئم على أصول نظامه بحضور جميع أعضائه أو
معظمهم، فلما دخله نفخت فيه روح جديدة زال بها سوء التفاهم بينه وبين الحكومة
فصارت تحفل برأيه وتحله من الاعتبار ما لم تكن تحله فتأخذ برأيه فيما يمكن الأخذ
به وتبين له سبب ما لم تأخذ به وقوي رجاء أعضائه في خدمتهم وانتظم عقد
اجتماعهم وعظمت ثقة الأمة بهم، وكان أكثر ما ترسله الحكومة إلى المجلس لينظر
فيه يؤلف له لجنة تحت رياسة الفقيد لتدقق النظر فيه وتعرض رأيها على المجلس،
وكان له رحمه الله الرأي العالي والصوت المسموع في كل مسألة وكل مشروع فكنت
تراه في المسائل المالية حاسبًا اقتصاديًّا، وفي المسائل الإدراية إداريًّا ماهرًا وفي
اللوائح والقوانين قانونيًّا خبيرًا، وفي الأمور الشرعية إمامًا فقيهًا، وكان المجلس
يعهد إليه مذاكرة الحكومة في الشؤون العظيمة ليكون الحد الأوسط في شكل القياس
لتخرج النتيجة في خدمة البلاد صحيحة.
وقد كادت أعمال المجلس تغتال معظم وقته فكنت أتألم من ذلك لاعتقادي أن
وقته أثمن من أن يُنْفَق في خدمة المجلس فلا أكاد أجد فرصة إلا وأرغب إليه فيها
بالتخفيف والإقلال من الاشتغال بعمل المجلس حتى قلت له مرة: إن الحكومة
المصرية يشبه أن تكون أعمالها وقوانينها مؤقتة، ترى أنه أنفع للبلاد ولا تلبث هي
بعد أن تقره أن ترجع عنه بعد زمن قصير أو طويل ويوشك أن تنفق في تحقيق
بعض الأمور أيامًا كثيرة، ثم لا يتيسر إقناع هذه الأوقات في الكتابة والتأليف لكان ما
تكتب هداية لهذه الأمة باقية ما بقيت الأمة، فقال: إن الغرض الأول من العمل في
المجلس هو التعاون مع الأعضاء على الجد والاهتمام بالبحث في الأمور العامة
ومصالح البلاد وتربية الرأي العام في الأمة ليكون ذلك إعدادًا لنفوس طائفة منا
لفصل الأحكام بالشورى، فإذا ارتقت هذه الملكة في الهيأة الحاضرة للمجلس فإنها تنتقل منها إلى الهيئة التي تخلفها ويكون ذلك جرثومة من جراثيم الإصلاح
في البلاد فعلمت من هذا الجواب أنه لا يترك مذهبه في الإصلاح من طريقة
التربية العملية في عمل من أعماله وسيأتي ذكر مذهبه هذا في محله.
عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية
يوجد في كل قطر من بلاد المسلمين أفراد تفرقت فيهم الفضائل الكثيرة التي
هي مناط حياة الأمم، ولكن يعوزهم شيء للحياة الاجتماعية في هذا العصر هو أهم
شيء وعليه يتوقف كل شيء، وهو التعاون على الخدمة العامة والأعمال المشتركة،
وإنك لا تكاد ترى في قطر إسلامي جمعيات ولا شركات ناجحة يرجى خيرها للأمة
إلا ما بدأ به مسلمو الهند ومصر في ظل الحرية الإنكليزية، ولا يزال كثيره في مهد
الطفولية، ولم تنجح في مصر جمعية من الجمعيات الكثيرة التي ألفت فيها بأسماء
مختلفة لمقاصد مختلفة مثل نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية ولم تصادف جميعة منها
ما صادفته هذه الجمعية من الصدمات، التي يعز فيها الصبر والثبات، وكان الفضل
الأول في ثباتها ونجاحها للأستاذ الإمام أحسن الله جزاءه.
أنشئت الجمعية للتعاون على تربية أولاد الفقراء والمساكين من المسلمين
وإعانة العاجزين منهم عن الكسب على شقاء الحياة فاتهمها أعداء البشر بالسياسة
وسعوا بها إلى ذوي النفوذ والسلطة ولولا سعيه في الدفاع عنها وإقناع أهل الحل
والعقد بأنها خيرية محضة ليس من موضوعها ولا مما تقصد إليه شىء سياسي أو
سري لعفت رسومها، ثم إنه خدمها بنفسه وبالتعاون مع أصفيائه المؤسسين لها معه
كوكيلها وأعضاء إدارتها لهذا العهد خدمة جليلة حتى ارتقت عن طور الطفولة وصار
ثباتها مضمونًا بحول الله وقوته، ومما انفرد به في خدمتها دعوة الأمراء والوجهاء
والأغنياء إلى الاشتراك فيها ومساعدتها وتحصيله منهم قيم الاشتراك إذا قضت
الحال بذلك.
أسست الجمعية سنة ١٣١٠هـ، وفي سنة ١٣١٨هـ انتخب رئيسًا لها فزاد
اجتهاده في خدمتها وكان من ارتقائها في زمن رياسته أن صار إيرادها في السنة
الماضية ١٠٣٩٥ جنيهًا، وكان في سنة ١٣١٧هـ ٤٤٣٠جنيهًا، وصارت أطيانها
٥٣٣ فدانًا، وكان قبيل ذلك ٢٨٠فدانًا، وصارت مدارسها سبعًا وكانت أربعًا، على
أنه كان يرى أن الفائدة الأولى المقصودة بالذات من الجمعية هي تعويد المسلمين
الاجتماع للخير والتعاون على البر والخدمة العامة وإشعار قلوب الأغنياء عاطفة
الرحمة والإحسان بالفقراء، كما كان يصرح بذلك في الاجتماع العام السنوي كل عام
فهو فيها عامل بمذهبه في تربية الأمة كما كان شأنه في غيرها جزاه الله عن هذه
الأمة أفضل الجزاء.
***
طبع الكتب النافعة وجمعية إحياء العلوم العربية
كان رضي الله عنه يرى أن حياة الأمة بدون حياة لغتها من المحال، وأن حياة
العلوم العربية بمثل هذه الكتب الأزهرية محال وأن لا بد للإصلاح من إحياء كتب
أئمتها وكبار علمائنا التي ألفت أيام كان العلم حيًّا في الأمة، فكان يسعى لذلك سعيه
وبهديه وإسعاده طبعنا ذينك الكتابين الجليلين اللذين هما روح علم البلاغة (أسرار
البلاغة، ودلائل الإعجاز) للشيخ عبد القاهر الجرجاني مؤسس علوم البلاغة،
ولولا تصحيح الفقيد لهما واستحضاره لنسخهما من الأقطار النائية لما تيسر طبعهما،
وفي سنة ١٣١٨هـ أسست في مصر جميعة خاصة لهذه الخدمة تحت رئاسته سُميت
(جميعة إحياء العلوم العربية) كانت فاتحة أعمالها طبع كتاب (المخصص) لابن
سيده في اللغة وهو كتاب لا نظير له في بابه، ولا غناء عنه في إحياء اللغة في هذا
العصر، وقد شرعت بعده في إحياء مدونة الإمام مالك وعني الفقيد رحمه الله تعالى
باستحضار نسخها من تونس وفاس وغيرهما من البلاد لولاه لما تيسر جمعها كلها
ولنا رجاء عظيم في بقائها وحسن خدمتها بهمة من كان وكيلها وليس لرئاستها بعد
الفقيد سواه ألا وهو حسن باشا عاصم.
***
مؤلفاته بحسب تاريخ تأليفها بالتقريب
١- الواردات: رسالة في الكلام أو التوحيد على طريقة الصوفية وأسلوبهم
وهي أول تآليفه، ولعلنا ننشرها برمتها في سيرته المطولة فقد كان أعطانا نسخة
منها.
٢- رسالة في وحدة الوجود: وهي رسالة نفيسة لم أطلع عليها ولكنه هو الذي
أخبرني بها وقال: إنها ليست بمعنى ما كتب عبد الكريم الجيلي وأمثاله، مما هو
أقرب إلى مذاهب الحلول كالنصرانية منه إلى توحيد الإسلام ولكنها بأسلوب آخر
وأراه يبين فيها مراتب الوجود وتعددها من وجه، ونظامها العام ووحدتها من وجه
آخر ولعلنا نظفر بها ونطبعها.
٣- تاريخ إسماعيل باشا: أخبرني بهذا الكتاب أحد تلامذته الأولين، وقال: إن
عبد الله النديم كان أخذ من الفقيد نسخته في أثناء الثورة العُرابية ونشر منه فصولاً في
جريدة الطائف بتصرف أو بغير تصرف ولم أسمع منه رحمه الله تعالى ذكرًا لهذا
الكتاب، وكنت أظن أنه لم يصنف شيئًا إلا وقد أخبرني به لأنه قص عليّ تاريخه
بالتفصيل وكتب إليّ شيئا مجملاً منه كما علم القراء.
٤- فلسفة الاجتماع والتاريخ: هو الكتاب الذي ألفه أيام كان يُدَّرِس مقدمة ابن
خلدون في مدرسة دار العلوم كما ذكرنا في هذه السيرة وقد نقد هذا الكتاب عندما
عزله توفيق باشا من المدرسة ونفى السيد جمال وأخذت أوراقه، وكان -طيب الله
ثراه- يقول: أتمنى لو يحفظ هذا الكتاب من وقع في يده ويدعيه لنفسه ولو بعد موتي
لينتفع به الناس.
٥- حاشية عقائد الجلال الدواني: وهي غاية الغايات في علم الكلام، وتحقيق
مسائله وتحرير الخلاف بين المتكلمين وبيان ما هو لفظي منه، وما هو حقيقي وقد
كان السيد عمر الخشاب شرع في طبعها ولعلها تتم عن قريب.
٦- شرح نهج البلاغة: وهو شهير جدًّا وقد طبع في بيروت مرتين وفي
طرابلس مرة وفي مصر مرة.
٧- شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني: وهو مطبوع في بيروت ولم يعرف
لغيره شرح لهذه المقامات وقد فرغ منه في ١٦رمضان سنة ١٣٠٦.
٨-شرح البصائر النصيرية: في المنطق وهو شرح وجيز أطلق عليه لفظ
التعليقات، والكتاب عالي الأسلوب وهو من أحسن ما كتب المسلمون في المنطق،
ولم يسبق لأحد قبله كتابة عليه فيما نعلم وقد قرأه درسًا في الجامع الأزهر وحضرناه
عليه ولعله لا يتسامى أحد إلى تدريسه بعده، وإن كان من الكتب التي قرر مجلس
إدارة الأزهر تدريسها فيه رسميًّا إلا أن يكون بعض من تلقاه عنه.
٩- نظام التربية بمصر: رسالة في الطريقة المُثلى لتربية المصريين
وتعليمهم وهي على إيجازها من أحسن ما كتب وأنفعه وستنشر في تاريخه.
١٠- رسالة التوحيد: وما أدراك ما رسالة التوحيد هي التي يصدق عليها القول
المشهور (لم ينسج ناسج على منوالها ولم تسمح قريحة بمثالها) هي التي يصح أن
تُعدّ معجزة من معجزات النبي - عليه السلام - وآية من آيات الإسلام، هي التي
ينبغي أن تجعل أصل الدعوة إلى هذا الدين، ويعم تلقينها جميع المسلمين، وقد قلت
للأستاذ الإمام - رضي الله عنه - إنه لولا اسم هذه الرسالة وما في أولها من
الاصطلاحات الكلامية الوجيزة لكان انتشارها أضعاف ما هو الآن، ولعم الانتفاع
بها كل مكان، ولكن البعيد إذا سمع باسم رسالة التوحيد يتوهم أنها عقيدة
كالسنوسية، أو كالعقائد النسفية، والقريب قد يأخذ نسخة منها، فيصرفه ذكر
الواجب والممكن والمستحيل عنها، توهمًا أنها في علم الكلام، الذي لا يتناوله إلا
العلماء الأعلام، وقد كان رحمه الله تعالى عازمًا على بسط الكلام في هذه المقدمات،
وسائر مسائل الإلهيات، وجعل الكلام فيها كالكلام في النبوة ومزايا الإسلام،
موجهًا إلى العقل وإلى الوجدان، لا مجرد تقرير وجيز للبرهان، وقد قرأها درسًا
في الأزهر وتلقيناها عنه.
١١- تقرير المحاكم الشرعية: هو على خصوصية موضوعه مفيد حتى لِغَيْر
القضاة ومستخدمي هذه المحاكم من جميع أهل العلم والأدب لا سيما طلاب علم الفقه
فإنه يعطيهم من البصيرة في طريقة التحصيل على الوجه الذي ينتفعون به وينفعون
ما لا يجدونه في سواه، وفيه كثير من الفوائد الإدارية والاجتماعية والأدبية، وأحوج
الناس إليه بعد القضاة وكتاب المحاكم المرشحون للقضاء وللكتابة في هذه
المحاكم.
١٢- الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية: وهو مقالات كتبها لمجلة المنار
ثم جردناها منه وطبعناها على حدتها وسميناها بهذا الاسم بإذنه، فجاءت كتابًا
مستقلاًّ يناهز مئتي صفحة وقد نفدت نسخ الطبعة الأولى فأعدنا طبعه.
١٣- تفسير سورة العصر: كتبه لينشر في المنار إجابة لرغبتنا ورغبة بعض
أهل العلم في مدينة الجزائر الذين حضروا هناك درسه في تفسير السورة، وقد كتب
في هامش تفسير جزء عمَّ عند تفسير هذه السورة ما نصه: (وقد كتبنا تفسيرًا لهذه
السورة الشريفة نشر وحده بعد أن طبع في مطبعة جريدة المنار، وهو ما كنا ألقيناه
درسًا في مدينة الجزائر في شهر جمادى الأولى سنة ١٣٢١هـ وفيه تفصيل طويل
لما أجملناه في هذا التفسير المختصر فمن أراد بيانًا أوسع، وتفصيلاً أبدع، فليطلب
ذلك التفسير فهو فيما أعلم غير مسبوق بنظير) اهـ.
أقول: إننا طبعناه بالقطع الصغير ليوضع في الجيب وطبعنا معه ملخص
درس الأستاذ الإمام في تونس وموضوعه العلوم الإسلامية وأقرب الطرق لعلمها.
١٤- تفسير جزء عم: وهو على قرب العهد بطبعه (أشهر من نار على علم)
وقد كان رواجه أكثر من رواج سائر كتبه على شدة الرغبة فيها كلها حتى إنه قد
وزع منه عدة ألوف في عدة شهور وهذا شيء لم يعهد له نظير في المطبوعات
العربية.
هذه هي مؤلفاته التامة ولا حاجة هنا لذكر ما بدأ به ولم يتمه، وأما مقالاته التي
نشرت قديمًا وحديثًا في الجرائد المصرية وغيرها فهي كثيرة جدًّا وكلها آيات بينات
في العلم والدين والأدب نفع الله بها، وأعاننا على إحيائها.
(للسيرة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))