هذا فصل من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام - أكرم الله مثواه - قال: كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامةً، فجعل الله رسالة خاتم النبيين عامةً كذلك، لكن يدهش عقل الناظر في أحوال البشر عندما يرى أن هذا الدين يجمع إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة، ثم يتناول من بقية الأمم ما بين المحيط الغربي وجدار الصين في أقل من قرن واحد، وهو أمر لم يعهد في تاريخ الأديان، ولذلك ضل الكثير في بيان السبب، واهتدى إليه المنصفون، فبطل العجب. ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان، ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى حق من باطل، أوذي الداعي صلى الله عليه وسلم بضروب الإيذاء، وأقيم في وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر، يثبت الله بمشهدها المستيقنين، ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب، وهي ذوب ما فسد من طباعهم، فتجري من مناحرهم جري الدم الفاسد من المفصود على أيدي الأطباء الحاذقين في جهنم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (الأنفال: ٣٧) . تألبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على الإسلام؛ ليحصدوا نبتته، ويخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف للأقوياء , والفقير للأغنياء , ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل والرشد في ظلمات الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أهل الجزيرة أقوام من أديان كانت تدعو إليها، وكانت لهم ملوك وعزة وسلطان , وحملوا الناس على عقائدهم بأنواع من المكاره , ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحًا، ولا أنالهم القهر فلاحًا. ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها نظير في ماضيهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من جاور البلاد العربية من ملوك الفرس والرومان، فهزأوا وامتنعوا وناصبوه وقومه الشر، وأخافوا السابلة وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبًا للأمن وإبلاغًا للدعوة، فاندفعوا في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم وانهالوا به على تلك الأمم في قوتها ومنعتها وكثرة عددها واستكمال أهبتها وعددها، فظفروا منها بما هو معلوم، وكانوا متى وضعت الحرب أوزارها واستقر السلطان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق واللين، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم وإقامة شعائرها آمنين مطمئنين، ونشروا حمايتهم عليهم يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم، وفرضوا عليهم كفاء ذلك جزءًا قليلاً من مكاسبهم على شرائط معينة. كانت الملوك من غير المسلمين إذا فتحوا مملكةً أتبعوا جيشها الظافر بجيش من الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم , ويغْشون مجالسهم ليحملوهم على دين الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين، ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة يأخذون على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير المسلمين، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم ومجاهدتهم في المعاملة , وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملةً المغلوبين فضلاً وإحسانًا عندما كان يعدها الأوربيون ضعةً وضعفًا. رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير المسلم، بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام مِن داخلٍ فيه إلا بين يدي قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا. وصل الأمر في عهد بعض الخلفاء الأمويين أن كَرِه عمالهم دخول الناس في دين الإسلام لما رأوا أنه ينقص من مبالغ الجزية، وكان في حال أولئك العمال صد عن سبيل الدين لا محالة، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز بتعزير مثل أولئك العمال [١] . عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب، بل وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى المناصب حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في أسبانيا. اشتهرت حرية الأديان في بلاد الإسلام حتى هجر اليهود أوربا فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس وغيرها. هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا بذلك بين أيديهم وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم بدعوة، ولم يستعملوا لإكراههم عليه شيئًا من القوة، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من ضربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام، وأقنعهم أنه الحق دون ما كان لديهم حتى دخلوا فيه أفواجًا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذله له العرب أنفسهم؟ . ظهور الإسلام على ما كان في جزيرة العرب من ضروب العبادات الوثنية، وتغلبه على ما كان فيها من رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال، وسَيره بسكانها على الجادة القويمة - حقق لقراء الكتب الإلهية السابقة أن ذلك هو وعد الله لنبيه إبراهيم , وإسماعيل وتحقيق استجابة دعاء الخليل {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: ١٢٩) وأن هذا الدين هو ما كانت تبشر به الأنبياءُ أقوامَها مِن بعدهم، فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته، فتلقوه شاكرين وتركوا ما كان لهم بين قومهم صاغرين، أوقع ذلك من الريب في قلوب مقلديهم ما حركهم إلى النظر فيه، فوجدوا لطفًا ورحمةً وخيرًا ونعمةً، لا عقيدة ينفر منها العقل - وهو رائد الإيمان الصادق - ولا عمل تضعف عن احتماله الطبيعة البشرية، وهي القاضية في قبول المصالح والمرافق، رأوا أن الإسلام يرفع النفوس بشعور من (اللاهوت) يكاد يعلو بها عن العلم السلفي ويلحقها بالملكوت الأعلى ويدعوها إلى إحياء ذلك الشعور بخمس صلوات في اليوم، وهو مع ذلك لا يمنع من التمتع بالطيبات، ولا يفرض من الرياضات وضروب الزهادة ما يشق على الفطرة البشرية تجشمه، ويَعِد برضا الله ونيل ثوابه حتى في توفية البدن حقه، متى حسنت النية وخلصت السريرة، فإذا نزت شهوة أو غلب هوى كان الغفران الإلهي ينتظره متى حصلت التوبة وكملت الأوبة. تبدت لهم سذاجة الدين عندما قرأوا القرآن ونظروا في سيرة الطاهرين من حامليه إليهم، وظهر لهم الفرق بين ما لا سبيل إلى فهمه، وما تكفي جولة نظر في الوصول إلى علمه [*] فتراموا إليه خفافًا من ثقل ما كانوا عليه. كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوافاها، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها، فما الذي يحجم بها عن المسارعة إلى طلبتها والمبادرة إلى رغيبتها؟ كانت الشعوب تئن من ضروب الامتياز التي رفعت بعض الطبقات على بعض بغير حق، وكان من حكمها أن لا يقام وزن لشؤون الأدنين، متى عرضت دونها شهوات الأعلين، فجاء دين يحدد الحقوق ويسوي بين جميع الطبقات في احترام النفس والدين والعِرض والمال، ويسوغ لامرأة فقيرة غير مسلمة أن تأبى بيع بيت صغير بأية قيمة لأمير عظيم مطلق السلطان في قطر كبير، وما كان يريده لنفسه، ولكن ليوسع به مسجدًا، فلما عقد العزيمة على أخذه مع دفع أضعاف قيمته رفعت الشكوى إلى الخليفة، فورد أمره برد بيتها إليها مع لوم الأمير على ما كان منه !! عدل يسمح ليهودي أن يخاصم مثل علي بن أبي طالب أمام القاضي، وهو من نعلم من هو، ويستوقفه معه للتقاضي إلى أن قضى الحق بينهما، هذا وما سبق بيانه مما جاء به الإسلام هو الذي حببه إلى من كانوا أعداءه، ورد إليه أهواءهم حتى صاروا أنصاره وأولياءه. غلب على المسلمين في كل زمن روح الإسلام، فكان من خلقهم العطف على من جاورهم من غيرهم، ولم تستشعر قلوبهم عداوةً لمن خالفهم إلا بعد أن يحرجهم الجار، فهم كانوا يتعلمونها ممن سواهم، ثم لا يكون إلا طائفًا يحل ثم يرتحل، فإذا انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمياسرة، ومع ذلك - بل وغفلة المسلمين عن الإسلام , وخذلانهم له وسعي الكثير منهم في هدمه بعلم وبغير علم - لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد، خصوصًا في الصين وفي أفريقيا، ولم يخل زمن من رؤية جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه، لا سيف وراءها ولا داعي، وإنما هو مجرد الاطلاع على ما أُودِعه، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه، ومن هذا تعلم أن سرعة انتشار الدين الإسلامي وإقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة، إنما كان لسهولة تعقله ويسر أحكامه وعدالة شريعته، وبالجملة لأن فطر البشر تطلب دينًا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها، وأدعى إلى الطمأنينة في الدنيا والآخرة، ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذًا وإلى العقول مَخلَصًا بدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة ويستكثرون من الوسائل ونصب الحبائل لإسقاط النفوس فيه، هذا كان حال الإسلام في سذاجته الأولى وطهارته التي أنشأه الله عليها، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف الأرض إلى اليوم. قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يعطف على قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف بينه وبين حياته، سبحانك هذا بهتان عظيم! ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الريبة في جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما شهر المسلمون سيوفهم دفاعًا عن أنفسهم، وكفًّا للعداون عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكان الحوار طريق العلم بالإسلام، وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه. لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة، مع كثرة الجيوش ووفرة العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها، وابتدأ ذلك العمل قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون كاملة , واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة أجيال أو يزيد، فتلك عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر مبلغ الإسلام في أقل من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده، بل كان الحسام لا يتقدم خطوة إلا والدعاة من خلفه، يقولون ما يشاءون تحت حمايته، مع غيرة تفيض من الأفئدة، وفصاحة تتدفق عن الألسنة, وأموال تخلب ألباب المستضعفين، إن في ذلك لآيات للمستيقنين. جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ! سلسبيل حياة نَبَعَ في القفار العربية، أبعد بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فأحياها حياةً شعبيةً مليةً، علا مدةً حتى استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها، زلزل هديره - على لينه - ما كان استحجر من الأرواح، فانشقت عن مكنون سر الحياة فيها، قالوا: كان لا يخلو مِن غَلَب (بالتحريك) قلنا: تلك سنة الله في الخلق! لا تزال المصارعة بين الحق والباطل والرشد والغي، قائمة في هذا العالم إلى أن يقضي الله قضاءه فيه، إذا ساق الله ربيعًا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها وينقع غلتها وينمي الخصب فيها، أفينقص من قدره أن أتى في طريقه على عقبة فعلاها، أو بيت رفيع العماد فهوى به؟ سطع الإسلام على الديار التي بلغها أهله، فلم يكن بين أهل تلك الديار وبينه إلا أن يسمعوا كلام الله ويفقهوه، واشتغل المسلمون بعضهم ببعض زمنًا، وانحرفوا عن طريق الدين أزمانًا، فوقف وقفة القائد خذله الأنصار وكاد يتزحزح إلى ما وراءه، لكن الله بالغ أمره، فانحدرت إلى ديار المسلمين أمم من التتار يقودها جنكيز خان، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل، وكانوا وثنيين جاءوا لمحض الغلبة والسلب والنهب، ولم يلبث أعقابهم أن اتخذوا الإسلام دينًا، وحملوه إلى أقوامهم فعمَّهم منه ما عم غيره، جاءوا لشقوتهم فعادوا بسعادتهم. حمل الغرب على الشرق حملةً واحدةً، لم يَبْقَ ملك من ملوكه ولا شعب من شعوبه إلا اشترك فيها، واستمرت المجالدات بين الغربيين والشرقيين أكثر من مائتي سنة جمع فيها الغربيون من الغيرة والحمية للدين ما لم يسبق لهم من قبل، وجيشوا من الجند , وأعدوا من القوة ما بلغته طاقتهم، وزحفوا إلى ديار المسلمين، وكانت فيهم بقية من روح الدين، فغلب الغربيون على كثير من البلاد الإسلامية، وانتهت تلك الحروب الجارفة بإجلائهم عنها، لمَ جاءوا , وبماذا رجعوا؟ ظفر رؤساء الدين في الغرب بإثارة شعوبهم؛ ليبيدوا ما يشاءون من سكان الشرق، أو يستولي سلطان تلك الشعوب على ما يعتقدون لأنفسهم الحق في الاستيلاء عليه من البلاد الإسلامية، جاء من الملوك والأمراء وذوي الثروة وعلية الناس جم غفير، وجاء ممن دونهم من الطبقات ما قدروه بالملايين، استقر المقام لكثير من هؤلاء في أرض المسلمين، وكانت فترات تنطفئ فيها نار الغضب , وتثوب العقول إلى سكينتها تنظر في أحوال المجاورين، وتلتقط من أفكار المخالطين، وتنفعل بما ترى وما تسمع , فتبينت أن المبالغات التي أطاشت الأحلام وجسمت الآلام، لم تُصِب مستقر الحقيقة , ثم وجدت حريةً في دين، وعلمًا وشرعًا وصنعةً مع كمال في يقين، وتعلمت أن حرية الفكر وسعة العلم من وسائل الإيمان لا من العوادي عليه، ثم جمعت من الآداب ما شاء الله، وانطلقت إلى بلادها قريرة العين بما غنمته من جلادها، هذا إلى ما كتبه السفار من أطراف الممالك إلى بلاد الأندلس بمخالطة حكمائها وأدبائها، ثم عادوا به إلى شعوبهم ليذيقوهم حلاوة ما كسبوا , وأخذت الأفكار من ذلك العهد تتراسل، والرغبة في العلم تزايد بين الغربيين، ونهضت الهمم لقطع سلاسل التقليد، ونزعت العزائم إلى تقييد سلطان زعماء الدين، والأخذ على أيديهم فيما تجاوزوا فيه وصاياه وحرفوا في معناه، ولم يكن بعد ذلك إلا قليل من الزمن حتى ظهرت طائفة منهم تدعو إلى الإصلاح والرجوع بالدين إلى سذاجته، وجاءت في إصلاحها بما لا يبعد عن الإسلام إلا قليلاً، بل ذهب بعض طوائف الإصلاح في العقائد إلى ما يتفق مع عقيدة الإسلام إلا في التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما هم عليه إنما هو دينه يختلف عنه اسمًا، ولا يختلف معنًى إلا في صورة العبادة لا غير. ثم أخذت أمم أوربا تفتَكُّ مِن أسرها، وتصلح من شؤونها، حتى استقامت أمور دنياها على مثل ما دعا إليه الإسلام، غافلةً عن قائدها، لاهيةً عن مرشدها، وتقررت أصول المدنية الحاضرة التي تفاخر بها الأجيال المتأخرة ما سبقها من أهل الأزمان الغابرة. هذا طَلٌّ من وابله أصاب أرضًا قابلةً فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، جاء القوم ليبيدوا فاستفادوا وعادوا ليفيدوا، ظن الرؤساء أن في إهاجة شعوبهم شفاء ضغنهم وتقوية ركنهم، فباءوا بوضوح شأنهم وضعضعة سلطانهم , وما بيناه في شأن الإسلام - ويعرفه كل من تفقه فيه - قد ظفر به كثير من أهل النظر في بلاد الغرب، فعرفوا له حقه، واعترفوا أنه كان أكبر أساتذتهم فيما هم فيه اليوم، وإلى الله عاقبة الأمور. *** إيراد سهل الإيراد يقول قائلون: إذا كان الإسلام إنما جاء لدعوة المختلفين إلى الاتفاق وقال كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) فما بال الملة الإسلامية قد مزقتها المشارب، وفرقت بين طوائفها المذاهب؟ إذا كان الإسلام موحدًا فما بال المسلمين عددوا؟ إذا كان موليًّا وجه العبد وجهة الذي خلق السموات والأرض، فما بال جمهورهم يولون وجوههم من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستطيع من دون الله خيرًا ولا شرًّا، وكادوا يعدون ذلك فصلاً من فصول التوحيد؟ إذا كان أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في الأكوان وأطلق له العنان يجول في ضمائرها بما يسعه الإمكان، ولم يشرط عليه في ذلك سوى المحافظة على عقد الإيمان، فما بالهم قنعوا باليسير، وكثير منهم أغلق على نفسه باب العلم ظنًّا منه أنه قد يرضي الله بالجهل وإغفال النظر فيما أبدع من محكم الصنع؟ ما بالهم وقد كانوا رسل المحبة أصبحوا اليوم وهم يتنسمونها ولا يجدونها؟ ما بالهم بعد أن كانوا قدوة في الجد والعمل، أصبحوا مثلاً في القعود والكسل؟ ما هذا الذي ألحق المسلمون بدينهم , وكتاب الله بينهم يقيم ميزان القسط بين ما ابتدعوه وبين ما دعاهم إليه فتركوه؟ فإذا كان الإسلام في قربه من العقول والقلوب على ما بينت فما باله اليوم - على رأي القوم - تقصر دون الوصول إليه يد المتناول؟ إذا كان الإسلام يدعو إلى البصيرة فيه، فما بال قراء القرآن لا يقرؤونه إلا تغنيًا، ورجال العلم بالدين لا يعرفه أغلبهم إلا تظنيًا؟ - إذا كان الإسلام منح العقل والإرادة شرف الاستقلال، فما بالهم شدوهما إلى أغلال أي أغلال؟ - إذا كان قد أقام قواعد العدل , فما بال أغلب حكامهم يُضرَب بهم المثل في الظلم؟ - إذا كان الدين في تشوف إلى حرية الأرقاء، فما بالهم قضوا قرونًا في استعباد الأحرار؟ - إذا كان الإسلام يعد من أركانه حفظ العهود والصدق والوفاء، فما بالهم قد فاض بينهم الغدر والكذب والزور والافتراء؟ - إذا كان الإسلام يحظر الغيلة، ويحرم الخديعة، ويوعد على الغش بأن الغاش ليس من أهله، فما بالهم يحتالون على الله وشرعه وأوليائه؟ - إذا كان قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فما هذا الذي نراه بينهم في السر والعلن والنفس والبدن؟ - إذا كان قد صرح بأن الدين النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، خاصتهم وعامتهم وأن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وأنهم إن لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر سلط عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم، وشدد في ذلك بما لم يشدد في غيره، فما بالهم لا يتناصحون ولا يتواصون بحق، ولا يعتصمون بصبر، ولا يتناصحون في خير ولا شر، بل ترك كل صاحبه، وألقى حبله على غاربه، فعاشوا أفذاذًا , وصاروا في أعمالهم أفرادًا، لا يحس أحدهم بما يكون من عمل أخيه، كأنه ليس منه، وكأن لم تجمعه معه صلة، ولم تضمه إليه وشيجة؟ ما بال الأبناء يقتلون الآباء , وما بال البنات يعققن الأمهات؟ أين وشائج الرحمة؟ أين عاطفة الرحم على القريب؟ أين الحق الذي فرض في أموال الأغنياء للفقراء، وقد أصبح الأغنياء يسلبون ما بقي في أيدي أهل البأساء؟ قبس من الإسلام أضاء الغرب كما تقول، وضَوْؤه الأعظم وشمسه الكبرى في الشرق , وأهله في ظلمات لا يبصرون! أصحَّ هذا في عقل أو عُهد في نقل؟ ألم تر إلى الذين تذوقوا من العلم شيئًا وهم من أهل هذا الدين أول ما يعلق بأوهام أكثرهم أن عقائده خرافات وقواعده وأحكامه ترهات، ويجدون لذتهم في التشبه بالمستهزئين ممن سموا أنفسهم أحرار الأفكار وبعداء الأنظار، وإلى الذين قصروا هممهم على تصفح أوراق من كتبه، ووسموا أنفسهم بأنهم حفاظ أحكامه القوَّام على شرائعه، كيف يجافون علوم النظر ويهزءون بها، ويرون العمل فيها عبثًا في الدين والدنيا، ويفتخر الكثير منهم بجهلها، كأنه في ذلك قد هجر منكرًا وترفع عن دنيئة؟ فمن وقف على باب العلم من المسلمين يجد دينه كالثوب الخلق يستحي أن يظهر به بين الناس، ومن غرته نفسه بأنه على شيء من الدين وأنه مستمسك بعقائده، يرى العقل جِنة والعلم ظِنة، أليس في هذا ما يشهد الله وملائكته والناس أجمعين على أن لا وفاق بين العلم والعقل وهذا الدين؟ الجواب ربما لم يبالغ الواصف لما عليه المسلمون اليوم بل من عدة أجيال، وربما كان ما جاء في الإيراد قليلاً من كثير، وقد وصف الشيخ الغزالي - رحمه الله - وابن الحاج وغيرهما من أهل البصر في الدين ما كان عليه مسلمو زمانهم عامتهم وخاصتهم بما حوته مجلدات، ولكن قد أتيت في خاصة الدين الإسلامي بما يكفي للاعتراف به مجرد تلاوة القرآن مع التدقيق في فهم معانيه، وحملها على ما فهمه أولئك الذين أنزل فيهم وعمل به بينهم، ويكفي في الاعتراف بما ذكرته من جميل أثره قراءة ورقات في التاريخ على ما كتبه محققو الإسلام ومنصفو سائر الأمم، فذلك هو الإسلام، وقد أسلفنا أن الدين هدى وعقل، من أحسن في استعماله والأخذ بما أرشد إليه نال من السعادة ما وعد الله على اتباعه، وقد جرب علاج الاجتماع الإنساني بهذا الدواء فظهر نجاحه ظهورًا لا يستطيع معه الأعمى إنكارًا، ولا الأصم إعراضًا، وغاية ما قيل في الإيراد أن أعطى الطبيب المريض دواءً فصح المريض , وانقلب الطبيب بالمرض الذي كان يعمل لمعالجته، وهو يتجرع الغصص من آلامه والدواء في بيته وهو لا يتناوله، وكثير ممن يعودونه أو يتشفون منه ويشمتون لمصيبته، يتناولون من ذلك الدواء فيعانون من مثل مرضه، وهو في يأس من حياته , ينتظر الموت, أو تبدل سنة الله في شفاء أمثاله، كلامنا اليوم في الدين الإسلامي وحاله على ما بينا, أما المسلمون وقد أصبحوا بسيرهم حجةً على دينهم فلا كلام لنا فيهم الآن، وسيكون الكلام عنهم في كتاب آخر، إن شاء الله. (المنار) جمع الأستاذ الإمام - رحمه الله - في هذا السؤال والجواب جملة مساوي المسلمين المخالفة لهدي الإسلام , بين فيهما كليات محاسنه المفصلة في رسالة التوحيد بعض التفصيل، ووعد ببيان تفصيل هذه المساوي في كتاب آخر ولكنه لم يوفق لكتابته، على أنه جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) بكثير مما أراد من ذلك.