للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إيقاظ الغرب للإسلام
نقتبس ما يأتي من هذا الكتاب الذي ألفه (اللورد هدلي) الذي أسلم ولقب
(بسيف الرحمن رحمة الله فاروق) لِما فيه من الفوائد والعِبَر للمتفرنجين وغيرهم ,
قال في أوله ما ترجمته بقلم مترجم الكتاب مع تصحيح بعض الألفاظ:
***
تمهيد
قال المستر آرثر بلفور هذه الحكمة منذ عدة سنوات (هناك ناصح واحد فقط
أردأ من الخوف وذلك الناصح هو اليأس) .
تملكتْ فؤادي تلك الحكمة في ذلك الوقت , وإني للإشارة إلى الموضوع
المحتوية عليه الصحائف المقبلة والتعنيف المحقق الذي سألقاه لشرحي اعتقاداتي
بصراحة وجلاء تام عن الدين الإسلامي أقول: (إن هناك رفيقًا واحدًا أردأ من
الزندقة وذلك الرفيق هو الخوف) .
كم من الناس جعلهم (خوف) العواقب يتمسكون بالاعتراف الصريح بدين
واعتقادات لا يسلمون بها ولا يصدقونها في الواقع.
يريد كل منا أن يختار لنفسه الأحسن - أحسن الأطعمة , أحسن المساكن ,
أحسن المراكز , أحسن الإخوان - ولكن كم منا من فكر في أن يختار أحسن
الديانات؟
إن معظمنا راضٍ بالدين الذي وجد عليه آباءه، وإننا من حيث حب الذات
والأنانية مُحقُّون في ذلك طبعًا؛ لأنه يوفر علينا كثيرًا من التعب , فنسير متبعين
الطريق التي كان يسير فيها أسلافنا رافضين أن نبحث أو أن نلقي ولو نظرة واحدة
على أي دين آخر - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: ١٠٤) - قرآن كريم.
إنه من المستحيل على أي إنسان أن يصل إلى أسمى غرض في الحياة -
الحياة بمعناها الحقيقي - إذا قيد نفسه بسيور العبادات التقليدية , وبنى كل خلاصه
على المعمودية ومختلف الأعمال الكهنوتية , ونظرًا لأني نشأت بروتستانيًّا وعشت
سنين عديدة في مملكة رومان كاثوليك , فقد سمحت لي الفرص بسعة فائقة أن
أدرس صنفين من أصناف المسيحية متَّبعيْن بفصيلتين من أهم الفصائل في الكنيسة
المسيحية، وقد عشت أيضًا في الشرق , وإنه لشد ما يسرني أن أعترف بأن ليس
هناك بغض بين المسلمين , بل هناك المحبة بأوسع معانيها , وهي منتشرة بينهم
أكثر مما هي منتشرة بين المسيحيين في الجزر البريطانية , فالمسلمون مثلاً
متسامحون جدًّا ومطبوعون على إيتاء الخير إزاء جميع المسيحيين بخلاف ما عليه
فروع الكنيسة بعضها بإزاء بعض.
إني لا أتجاسر على أن أقول: إنه إذا عينت لجنة من الإنكليز الأكْفاء حقيقة
ممن هم على شاكلة المأسوف عليه اللورد سالسبري والمأسوف عليه اللورد
بيكونسفيلد والمستر بلفور واللورد هالدين والسير روفس إسحاق إلخ لفحص الدين
الذي يجب أن يتدين به العالم كله لأجمعوا أمرهم على أن يختاروا الدين الإسلامي
الذي يشهد له العقل , والذي يجيب رغبة الفؤاد والروح الشديدة من الاتصال
بالخالق سبحانه وتعالى.
إنني لا أعتذر من أجل وضعي للفصول القليلة التي ستظهر بين غلاف هذا
الكتاب , وليس لدي أقل خوف من الاتهام بالإلحاد والجحود اللذين سأُرمَى بهما
لابتعادي عن المسيحية واهتدائي بهدي الإسلام.
إنني لا أعتقد وما سبق لي أن اعتقدت قط أنه من الضروري لخلاصي أن
أصدق ألوهية المسيح , أو أن أعتقد الثالوث أو العقائد الأخرى التي تدعي الكنيسة
أنها ضرورية للخلاص , إني أؤمن برسالات الله السماوية المرسلة لنا على لسان
رسله المصطفين.
***
مقدمة
لكي أقدم الصحائف المقبلة إلى القراء لا أجد خيرًا من إعادة نشري هنا لمقالة
صغيرة من قلمي ظهرت في إحدى جرائد لندرة الأسبوعية في نوفمبر سنة ١٩١٣.
(ظهرت في جرائد عديدة قطع تشرح معتقدي الديني , وإنه ليبهجني أن
أرى كل ما وُجِّه إلي من الانتقاد لغاية الآن لم يكن إلا بلطف مُتناهٍ , إنه لا ينتظر
أن تخرج خطوة معلومة عن خط سير مألوف دون أن تستوقف النظر) .
(ورد لي في أحد الأيام خطاب من أحد المسيحيين المتدينين يخبرني فيه بأن
الدين الإسلامي إنما هو دين لذة , وأن النبي كانت له زوجات عديدات وأن ذلك
قاعدة في الإسلام , فما أغرب هذه الفكرة عن الإسلام! إلا أنها فكرة راسخة في
عقول تسعة وتسعين في المائة من البريطانيين الذين لم يُعنوا ببحث الحقائق
الواضحة لديانة ما ينيف على مائة مليون من رعاياهم , ولو درسوا تلك الديانة
لتبين لهم أن نبي بلاد العرب صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في كبح النفس عن
الهوى وردِّها عن الشهوات , وكان مخلصًا لزوجته الوحيدة السيدة خديجة التي هي
أكبر منه بخمس عشرة سنة , والتي كانت أول من آمن برسالته السماوية، وبعد
وفاتها تزوج بالسيدة عائشة , وقد تزوج أيضًا ببعض أيامى متبعيه الذين استشهدوا
في إعلاء كلمة الله وذلك لا بدافع الشهوة بل لكي يعولهن ويمنحهن مساكن ,
وينزلهن منزلة ما كنَّ ليحصلن عليها لولاه.
(نحن معشر البريطانيين نعجب بأننا نحب العدل والإنصاف، ولكن أيُّ
شيء أعظم جورًا وحيفًا من الحكم الذي يصدره كثير منا على الدين الإسلامي دون
أن يجتهد أو يحاول أن يعرف ولو مجملاً بسيطًا من عقائده , حتى إنهم لا يفقهون
معنى لكلمة (الإسلام) .
(إنه من المحتمل أن يظن بعض من أصدقائي أنني قد غُلبت على أمري أو
سيطر علي المسلمون إلا أن ذلك ليس بحقيقي؛ لأن اعتقاداتي الحالية ما هي إلا
نتيجة بحث سنوات عديدة , وإن كانت مناقشاتي الحقيقية مع متعلمي المسلمين في
موضوع الديانة لم تبتدئ إلا منذ زمن قريب , وإنني لمحتاج إلى القول: بأنه قد
غمرني الفرح عندما وجدت أن كل نظرياتي واستنتاجاتي كانت مُطابِقة مُطابَقةً تامة
للإسلام , إن أخي خواجا كمال الدين لم يحاول بتاتًا أن يتسلط على فؤادي ولو قليلاً ,
فإنه كان دائمًا مثال الأمانة والصدق إذ قد شرح لي في ترجمة القرآن الكريم الذي
استطعت أن أفهم معناه من الترجمة المشوهة المنتشرة بين المسيحيين , فأنار من
هذه الوجهة المحجة الواضحة التي تسير فيها جمعية التبشير الإسلامي , فإنها ما
احتالت ولا خدعت أحدًا قط , فالهداية كما جاء في القرآن الشريف يجب أن تكون
بمحض الرغبة والاختيار ومن تلقاء النفس؛ لذا لم يرتكب خواجا كمال الدين أي
صفة من صفات الاحتيال والخديعة , وقد أراد عيسى نفس تلك الصفة عندما قال
لحوارييه: (وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك , وانفضوا التراب
الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم) .
(وقد علمت أمثلة كثيرة جدًّا من البروتستانت المتعصبين الذين ظنوا أن من
واجباتهم أن يغشوا بيوت الرومان الكاثوليك , فيحتالوا على من يقطنها لنقله إلى
دينهم ومثل هذا العمل المثير الذي لا يليق بكرامة جار هو طبعًا عمل كريه جدًّا ,
أدى إلى إثارة العواطف وإيجاد النزاع الذي جر عليهم الازدراء والاحتقار , وإنني
لأتألم جد الألم عندما يعرض لفكري أن أولئك المبشرين المسيحيين حاولوا ذلك مع
المسلمين أيضًا , وإن كان لا يوجد هناك باعث يدعوهم إلى هداية هؤلاء الذين هم
(أصح منهم مسيحية) وأفضل منهم أنفسهم في مسيحيتهم , وقد عجزت تمامًا عن أن
أعرف لم فعلوا ذلك , إنني لم أقل: (أصح منهم مسيحية) جزافًا بل بعد إعمال
العقل والروية؛ لأن المحبة والألفة والتسامح في الدين الإسلامي أقرب جدًّا لما أتى
به المسيح مما عليه رجال المسيحية إلى الكنائس المتنوعة.
خذ مثلاً العقيدة الإنسيانية التي تختص بالثالوث بحالة مشوشة لا يقبلها العقل
ترى أنه من الواضح جليًّا أن هذه العقيدة المهمة عندهم للغاية والتي تعتبر إحدى
العقائد الرئيسية للكنيسة تمثل المذهب الكاثوليكي , وإننا إذا لم نعتقدها نهلك هلاكًا
أبديًّا، وهكذا نؤمن بوجوب اعتقاد الثالوث إن أردنا الخلاص أو بطريقة أخرى
نقول: إن الله رحيم وقادر على كل شيء , وفي الوقت نفسه نتهمه بالظلم والقساوة
اللذين لا نستطيع ولا نرضى أن ننسبهما إلى أفظع سفاكي الدماء من الظلمة البشرية
كأن الله الذي هو أمام الجميع وفوق الجميع يتغلب عليه اعتقاد مخلوق ضعيف فانٍ
في الثالوث.
(هذا مثل آخر يدل على عدم وجود الحسنى لديهم: وصلني خطاب لمناسبة
اتجاهي نحو الإسلام أخبرني فيه كاتبه بأنني إذا لم أعتقد ألوهية المسيح لا يمكنني
الخلاص، إن مسألة ألوهية المسيح ما ظهرت لي قط أنها مهمة، هل أرسل
المسيح رسلاً من البشر برسالات إلهية؟ لو كان عندي الآن أي شك في تلك النقطة
الأخيرة لآلمني ذلك جدًّا , إلا أنني أشكر الله سبحانه وتعالى لعدم وجود هذا الشك
أرجو أن يكون اعتقادي في المسيح وتعاليمه ثابتًا جدًّا كاعتقاد أي مسلم أو مسيحي
حقيقي آخر , لأنني سبق لي أن قلت مرارًا أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية
كما علمت بالمسيح نفسه هما أختان ولم يفصلهما عن بعضهما إلا المذاهب ,
والاصطلاحات المسيحية فقط التي يمكن الاستغناء عنها بكل سهولة وارتياح.
يطلب منهم أن يعتقدوا هذه المذاهب والعقائد التي لا تفهم , وهناك بلا شك
رغبة واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقول والميول , فمن سمع بمسلم ارتد إلى الكفر
والإلحاد؟ ربما كانت هناك حالات من هذه إلا أنني أشك جدًّا فيها.
(إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرجال والنساء أيضًا مسلمين قلبًا ولكن
خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ على التغيير تآمرا على منعهم
من إظهار معتقداتهم , إنني خطوت هذه الخطوة وإنني أعلم علم اليقين أن كثيرًا من
إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كروح ضالة ويصلون من أجلي , إلا أني لست -
في الحقيقية - في اعتقاداتي اليوم إلا كما كنت منذ عشرين سنة تمامًا ولكن
صراحتي في القول هي التي أفقدتني حسن ظنهم بي.
الآن وقد شرحت بعضًا من الأسباب التي جعلتني أتبع الدين الإسلامي ,
وقلت: إنني أعتبر نفسي الآن أني أصبحت بإسلامي مسيحيًّا أفضل مسيحية مما
كنت عليه من قبل؛ فآمل أن يتبع الآخرون مثالي ويعتقدون أحقية الإسلام الذي أقر
بكل شهامة وفخر أنه أصح الأديان، إنه ستصل السعادة لأي امرئ ينظر إلى
هذه الخطوة كخطوة متقدمة لا خطوة مضادة للمسيحية الحقة بأي وجه) اهـ.

(المنار)
سبق لنا نشر هذه المقالة في المنار عقب شيوع إسلام اللورد هدلي.