للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


] وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [[*]
ألممنا في المقالة السابقة ببعض تعاليم الجهلاء من شيوخ الطريق، وذكرنا أن
منها تعليق النفوس وإناطة الآمال بالشيوخ أحياءً وأمواتًا، وتعليم الناس الاستعانة
بهم على قضاء الحاج، بحجة أنهم أصحاب كرامات وشفعاء يتوسطون بين الله
تعالى وبين عباده في درء المفاسد والمضار، وجلب المنافع والمصالح، ولما كان
هذا من الاعتقادات المضرة التي هدمها الإسلام كما ألمعنا في المقالة المتقدمة، وكان
ما كتبناه سابقًا في منكرات الموالد لم يكفِ لإقناع جميع الآخذين به - لإيجازه
وإجماله - أحببنا أن نزيده إيضاحًا ليتميز الحق من الباطل، فنقول:
الذاهبون إلى أن من الدين الاستغاثة بمَن يعتقد فيهم الولاية أحياءً وأمواتًا،
والوقوف على الأجداث والقبور لطلب المصالح التي عز طلابها، والحاج التي
جُهلت أسبابها وأُغلقت أبوابها - ينقسمون إلى قسمين: عامة وخاصة.
أما العامة: فمنهم من يعتقد أن صاحب القبر حي في قبره، يخرج لقضاء
الحاج فيقضيها بنفسه مهما كانت، ولا يفتكر في تدقيق الأشاعرة في الفرق بين
الجبر والكسب وخلق الفعل، وحجة هؤلاء على اعتقادهم الحكايات التي يتناقلونها عن
كرامات صاحب القبر، وإن هي إلا أكاذيب اخترعتها الخيالات والأوهام، فإذا سئل
هؤلاء عن التأثير وعدمه تحير أكثرهم، وإذا لقنوا أية عقيدة في ذلك ممن يظنون به
خيرًا أخذوها بالقبول، وهؤلاء هم الأكثرون فيما يظهر للمختبر، ومنهم من له بعض
إلمام بما يقول الخاصة.
وأما الخاصة: فيحتجون بالشبهتين اللتين أشرنا إليهما وهما: الكرامات
والشفاعة، وإننا نستعين بالله تعالى وحده في بيان فساد الاحتجاج بهما على وجه
مختصر مفيد فنقول:
أما جواز وقوع الكرامة فلا يقتضي أن من قواعد الإسلام وأحكامه أن يستعين
الناس على حوائجهم بمن يجوز أن تصدر منه، وذلك لوجوه:
(١) أن الله تعالى أقام هذا الكون على سنن حكيمة، ونواميس ثابتة، وأمر
الناس بالعمل بحسب القوى التي منحهم إياها - كما يعرفون ذلك بالوجدان - مراعين
سنن الله تعالى ونواميس خليقته، وأن يعتقدوا أن لا متصرف في الوجود سواه، ولا
قدرة غيبية إلا له، وأمرهم أن يخصوه بالاستعانة على ما لا يبلغه كسبهم، كما
يخصونه بالعبادة، حيث قال في السبع المثاني التي يثنونها في صلاتهم كل يوم:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) نعم أمر الناس بالتعاون في الأمور
الكسبية بقوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: ٢) ، والناس في ذلك
سواء، وفي الحديث الصحيح: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)
والكتاب والسنة طافحان بأمثال هذه النصوص.
(٢) أن ذلك لم يُعهد في الصدر الأول من سلف الأمة الذين يقتدى بهم، فلم
يُنقل أن الصحابة كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه رد
ضوالهم، وشفاء مرضاهم ودفع الجوائح عن زرعهم ونحو ذلك، مما يطلبه العوام
من الأولياء عند قبورهم في هذه العصور المظلمة، وقد جاء في حديث الموطأ
وغيره (لا تتخذوا قبري وثنًا) وهو مما أوصى به صلى الله عليه وسلم عند موته،
بل ما كانوا يعتمدون على الخوارق في زمن حياته، وهو زمن المعجزات القطعية
لا الخوارق المشكوك بها، وإنما يعتمدون على عملهم وكسبهم، فإن أعانهم الله تعالى
بخارقة شكروا وإلا عملوا وصبروا.
(٣) صرح العلماء بأن الخوارق أمور نادرة، مجهول أمرها، فلا يُبنى
عليها حكم.
(٤) صرح السبكي وغيره بأن الولي لا يجوز له إظهار الكرامة إلا
لضرورة، وعدوا هذا من الفرق بينها وبين المعجزة الواجب إظهارها، وليس من
الضرورة حاجة الناس إليها في دنياهم مثلاً، وقد التمس السبكي في الطبقات الكبرى
أسبابًا ضرورية، لما نقل عن بعض السلف من الخوارق، وقد قال سيدي أحمد
الرفاعي الكبير قُدس سره: (إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم
الحيض) فإذا كان هذا حال الكرامة عندهم، فكيف نرخي للعامة العنان في
الاعتماد عليها.
(٥) صرح الشيخ الأكبر - قُدس سره - بأن الكرامة لا تتكرر؛ لأنها أمر
خارق للعادة، وإذا تكررت كانت معتادة، فلا تكون خارقة، وظاهر أن ما يطلبه
العامة من ذلك يشبه بعضه بعضًا، ويزعمون أنه وقع مثله من كل ولي يطلبون منه،
فتكرار الطلب عبث وغرور.
(٦) قسم بعض المتأخرين الخارقة إلى أقسام، من مقتضاها أنها تظهر على
يد كل صنف من أصناف الناس، لا فرق بين بر وفاجر، وتختلف أسماؤها
باختلاف من ظهرت على يده، فإن ظهرت على يد فاسق أو كافر سميت: استدراجًا
فإذا أضفنا إلى هذا عدم التفرقة بين الحي والميت في اعتقاد أن الفعل لله تعالى وأن
الخارقة سبب لنيل الحاجة، فلا بأس بأن يذهب الناس لقبور الفساق والكفار،
ويطلبوا منها حاجتهم، بناء على جواز أن يحصل ذلك لهم استدراجًا لأمثال الأموات،
وإن شئت فرضت ذلك مع الأحياء من المذكورين.
(٧) إن الاعتماد على الأمر النادر الغير موثوق به كالكرامة، كالاعتماد
على ما يسمونه فلتات الطبيعة، أو على الكنوز - وهو من الجهل والغرور الذي
ينبغي إنكاره وعدم تقرير فاعله عليه.
وأما طلب قضاء الحاج وتقويم الاعوجاج من الأضرحة والقبور بناء على أن
أصحابها شفعاء يتوسطون إلى الله تعالى فيها، فهذا بعيد عن دين الإسلام ومخالف
لعقائده وآدابه أيضًا؛ لأن الذين أثبتوا الشفاعة من المسلمين - وهم أهل السنة - قالوا:
إنها إكرام من الله تعالى لنبيه أو له ولمن شاء الله من المصطفين في الآخرة لا في
الدنيا، والشفاعة المتفق عليها عند المسلمين هي التي ترجع الأخبار فيها إلى حديث
معناه: أن لكل نبي دعوة مُجابة على سبيل القطع، وكل نبي قد دعا بها في الدنيا
فاستُجيبت له، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد ادخرها للشفاعة في الآخرة، ولا محل
هنا لإيراد الخلاف في الشفاعة، وما لكل فريق من مثبتها ونافيها من الأدلة القرآنية
على ذلك، ويكفي فيما نحن فيه أنها مختصة بالآخرة، وأنها لا يقطع بها (ولا في
الآخرة) لأحد من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين يطلب الناس منهم حاجاتهم
المتعسرة عليهم، ويحملنا محسنو الظن على التأويل لهم بأنهم يعتقدون فيهم الشفاعة
والتوسط بينهم وبين الله تعالى، لا الإيجاد والتأثير، كأن الإنكار لا يكون إلا على
الشرك المحض والكفر الصريح.
إن عباد الأوثان والأصنام والبشر، منهم من كان يعبدها لأنها شافعة لا لأنها
خالقة وموجدة، وقد أنكر القرآن عليهم بآيات منها قوله تعالى حكاية عنهم في
معرض الإنكار {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: ٣) الآية
وقوله تعالى {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي
السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} (يونس: ١٨) الآية وهي ترشدنا إلى أنه لا يجوز لنا
أن نفتات عليه سبحانه باتخاذ شفعاء لم يأذن لنا باتخاذهم، وإعلامه بما لا يعلم فيما
إذا لم يكونوا ممن ارتضاهم للشفاعة.
وإن فيما تقدم في بحث الكرامة، وفي الآيات والأخبار الكثيرة التي تأمرنا
بالالتجاء إلى الله وحده؛ لأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، في العقيدة المقطوع بها
عند جميع فرق المسلمين من أن الله تعالى لم يجعل واسطة بينه وبين خلقه في الإعدام
والإيجاد، وإنما جعل الواسطة للتعليم والإرشاد، وهم الأنبياء (ومن جرى على
آثارهم فهو كالنائب عنهم) وقد انقطعت هذه الوساطة بخاتم الأنبياء الذي هو آخر
وسيط، وفي الحديث الشريف الذي أشرنا إليه من أن الله تعالى منح كل نبي دعوة
واحدة مستجابة فما يدعو به وغيرها موكول لفضل الله تعالى غير مقطوع بإجابته،
وفي الأحاديث الكثيرة التي بينت أن الرخصة في زيارة القبور بعد النهي عنها
إنما هي لأجل الاعتبار بالموت وتذكر الآخرة، لا لأجل الانتفاع بالميت، ولذلك يزار
قبر الكافر والفاسق، وفيما ورد في الأحاديث من أن الميت تحت رحمة الله تعالى
كالغريق المتغوث (طالب الغوث) وأنه يستحب الدعاء له، وفيما شاهدنا من فساد
عقائد العامة بإقرارهم على ما يصدر منهم عند زيارة الصالحين (وهو ما فصلناه
سابقًا) الذي انتهى ببعضهم إلى اعتقاد التأثير لهم، وإلى تسييب السوائب، كالعجول
ونحوها باسمهم، كما كان المشركون يسيبونها للأصنام، ونهى عنها القرآن،
وإلى المفاضلة بينهم وبين الأنبياء، وإلى الحلف بالله باطلاً والتحرج والتأثم من
الحلف بالولي كاذبًا، وإلى ترك الأسباب في المصالح الكلية اعتمادًا على الأولياء،
كما جرى في بخارى عند زحف الروسيا عليها، حيث أجاب العامة وكثير من الخاصة
من أمرهم بالتأهب والاستعداد للمدافعة عن البلاد بقولهم: إن شاه نقشبند رضي الله
تعالى عنه هو حامي بخارى وهو الذي يرد الأعداء عنها، وفيما ورد في الكتاب
والسنة من أن آباء بعض الأنبياء وأبناءهم كانوا كفارًا، وأبناء كثير من الأولياء كانوا
فساقًا أشقياء، ولو كان الأمر في يدهم فعلاً أو شفاعة لما كانوا كذلك.
في ذلك كله وفي غيره من الآيات والعبر ما يوجب على العلماء أن يبينوا
للناس قولاً وكتابة أن لا يعتقدوا بقدرة غيبية إلا لله تعالى، وأن يسيروا في
مصالحهم الدنيوية على السنن والنواميس التي طبع الله الكون عليها، ودلتهم
المشاهدة على صدق الكتاب في عدم تبديلها وتحويلها، وأن لا يعتمدوا على الخوارق
الموهومة، ولا على الشفاعات التي هي في الدنيا معدومة، وفي الآخرة غير
معلومة، بمعنى: أنه لا يعلم لولي بخصوصه شفاعة في الآخرة، على أنهم {وَلاَ
يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: ٢٨) وإن سيد
الشفعاء عليه السلام كان يقول لأهله وعشيرته الأقربين (اعملوا، لا أغني عنكم من
الله شيئًا) وأمثال هذه الإرشادات التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، لا أن نسكت للعوام
على منكراتهم المشاهدة هي ومضراتها بناء على حسن الظن المبني على أمور
مشكوك في حصولها، وهل مع مشاهدة المنكر مجال لحسن الظن؟! والقاعدة أن
اليقين لا يزول بالشك.
نعم إن لزيارة العلماء والصالحين أحياءً وأمواتًا فائدة معقولة، لم يرد بها
الشرع فيما نعلم، وهي تأثر الزائر بتذكر ما أوتيه المزور من الفضيلة والكمال،
وانفعال روحه بما ينهض الهمة ويبعث على التشبه والاقتداء إذا كان الزائر ذا
بصيرة صافية تتمثل لها شمس الكمال، فيفيض عليها من أنوار الهمة والعزيمة ما
يبعث على احتذاء ذلك المثال، والنسج على ذلك المنوال، ولعل هذا ما يعنيه السادة
الصوفية بقولهم: (التبرك بالزيارة واستمداد الهمة من مزور) {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: ٤٣) .