للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(خطبة اللورد كرومر بالفيوم، أو المدنية والخمر والميسر)
سرى سم الفسق من القاهرة وسائر المدن الكبيرة في القطر إلى القرى
والمزارع في الأرياف , فكثر هنالك الخمر والميسر والزنا وغير ذلك من آفات
الترف التي تدمر القرى وتهلك الأمم إذا هي فشت فيها، ويتوهم كثيرون من العمد
وأغنياء الفلاحين أن شرب الخمر والدعوة إليه والمضاربة ونحوها من أنواع القمار
من أمارات المدنية العصرية , ولذلك سبق إليها الأمراء والوجهاء في المدن ,
والصواب أن جميع فضلاء أوربا وعقلائها لا سيما الأطباء والفلاسفة ينكرون أشد
الإنكار على السكر والقمار , والذين يأتون هاتين الرذيلتين يعدون عندهم من
السفهاء. على أن آداب ديننا أعلى من مدنيتهم، وفضائله أسمى من فضائلهم لو كنا
نعلم ونعمل.
وقد زار في هذه الأيام اللورد كرومر مدينة الفيوم فاجتمع لاستقباله والاحتفاء
به المئون من وجهاء المديرية وعمد قراها فخطب فيهم خطبة ظهرت منها مكانته
في الفضيلة مضارِعة لمكانته في السياسة. فنصح للناس بأن يتركوا الخمر والميسر
لما فيهما من إفساد الأخلاق التي يمتاز بها عادة سكان القرى والمزارع على سكان
الحواضر والمدائن , وألمع إلى انتقال هذين الوبائين من المدن إلى القرى , وأرشد
العمد إلى العناية بمنع انتشارهما. فإذا كان يوجد من سفهاء الأحلام من يعتقد أن من
دلائل مدنيته وجود الخمر في بيته وتقديمها لمن عساه يلم به من الإنكليز أو غيرهم
من الأجانب - فهذا كلام اللورد حجة عليه , فهو أعلى القوم مكانًَا وأوسعهم عرفانًا
وهو يعد معاقرة الخمر منافية للفضيلة وذاهبة بها من الأرياف بعد أن كانت تمتاز
بها على القرى وهذا هو ركن المدنية الصحيحة , وإنما تبيح أوربا الفسق لما فيه
من الكسب ولتكون الفضيلة اختيارية. وقد حثهم على الاقتصاد وحفظ العفو من
أموالهم في صناديق التوفير كما حثهم على ترك المقامرات التي تخرب البيوت
العامرة , وتجعل الأغنياء فقراء والأعزاء أذلاء، وقلما ربح منها أحد فكان من
الموسرين.
قوله في الكتاتيب المنتظمة
وأفصح عن رغبته في ازدياد عدد الكتاتيب حتى يعم تعليمها الابتدائي القطر
بلغته العربية. ولعمري إن عناية المعارف بالكتاتيب عظيمة , وإن فائدة البلاد منها
فوق ما يظن الذين لا ينظرون لشيء تفعله الحكومة في مصر إلى من وجه السياسة ,
وحسبك أنها تجعل الطبقة الدنيا من الأهالي متصلة بالطبقة التي فوقها فيسهل
انتقال الأفكار والشعور بحاجات الأمة من أعلاها معرفة وشعورًا إلى أدناها رتبة في
الوجود , وذلك تمهيد لابد منه لتكوين الأمة إذا وجد من يسعى له سعيه. وكلمة
اللورد الوجيزة تؤثر في نفوس الوجهاء والعمد وفي المساعدة على تكثير الكتاتيب
وإنجاحها تأثيرًا عظيمًا؛ إذ لا يوجد في الأرض من يحترم مقام أصحاب السلطة
كأهل هذه البلاد. ولا أظن أن لتنظيم الكتاتيب كما تفعل المعارف غائلة ما إلا إذا
صح ما نسمعه من قلة العناية بحفظ القرآن، واتقاء هذه الغائلة فرض حتم على
مفتشي هذه الكتاتيب وهو في استطاعتهم إذا أرادوا.
وقد تكلم اللورد في مسائل أخرى في مصلحة الأهالي ليست من موضوعنا ,
وزار جميع معاهد الحكومة والمدرسة الأهلية فتعجب الناس للفرق بين هؤلاء
الأجانب عنهم وبين أمرائهم وحكامهم في القرون الأخيرة.
* * *
(نشرة إفساد أو حبالة صياد)
علمنا أن قد ورد من باريس إلى مصر صحيفتان أو نشرتان سريتان إحداهما
فرنسية والأخرى عربية يزعم كاتبهما وناشرهما أنهما من لجنة عليا لجمعية عربية
غرضها فصل البلاد العربية من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر من سلطنة الترك
وجعلها مملكة مستقلة بمساعدة بعض الدول. وقد اطلعنا على العربية التي كتب
عليها أنها تعريب الفرنسية فإذا هي طعن في إدارة الترك وسيرتهم بل وإسلامهم
وتحريض عليهم وترغيب للعرب في الانسلاخ عنهم. ويزعم الكاتب أنه مستعد
بجمعيته لعمله من غير إهراق قطرة دم! وأن لجمعيته هذه أعضاء في جميع
البلاد العربية!
وفي رأينا أن هذه النشرة لا تعدو أمرين: أحدهما إثارة الهواجس في (يلدز)
تمهيدًا لأمر تريده بعض الدول وهو المرجوح. وثانيهما أنه وسيلة من رجل أو نفر
من المحتالين بأمثال هذه الوساوس لنيل الرتب والرواتب المالية من السلطان وهو
الأرجح , ولا يبالي هؤلاء المفسدون بما عساه يكون وراء إفسادهم من فتح أبواب
الإيذاء للجواسيس في الولايات العربية لا سيما لمن أرسلت إليهم النشرة إذا وجدت
عندهم وإن كانوا لا يعرفون مصدرها.
وقد كنا نصحنا لسلطاننا في المجلد الثاني من المنار بأن لا يبالي بشيء مما
يكتب في الجرائد الطعانة على اختلافها ونحوها هذه النشرات , وأن لا يحسن إلى
صاحب جريدة على مدح، ولا يلتفت لما تكتبه في بلاد الحرية من قدح إلا للعظة
أو معرفة الحقيقة من المنصفين، فعدم المبالاة بأصحاب الدسائس والأغراض
السافلة هو أكبر عقوبة لهم وأحسن إصلاح لغيرهم.
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فإن جوابه أن لا يجابا
وما من سلطان أو أمير أو كبير يهتم بأمثال هذا الكلام إلا ويسلط على نفسه
السفهاء حتى لا يدعون له راحة كما هو مشاهد. ولقد كان أبو الهدى أفندي الشهير
مغرمًا بمدح الجرائد ونحوها فسلطها بذلك عليه حتى ذمته أضعاف ما مدحته فلما
ترك مكافأة المادح ومكافحة القادح، صان عرضه وحفظ غمره وبرضه، وقد
تحرشت الجرائد بمختار باشا فلم يأبه بها فتركته وشأنه. ومن كان الطمع فيهم
أكبر. كان هذا المسلك في حقهم أوجب.
أما الموعظة التي تؤخذ من أمثال هذه النشرة فهي أنه يجب على إخواننا
الترك أن يتناسوا مسألة الجنسية والنداء بها , ويجعلوا العثمانية مناط الارتباط
بسائر شعوب المملكة فإنما يمزق الأعداءُ الدولةَ باختلاف الجنسية. وإذا عنوا باللغة
العربية حتى جعلوها لسان الدولة فإنهم يجددون لهم قوة وحياة لا تغالب إن شاء الله
وهو الموفق.
* * *
(نَقَلة أخبار الحرب والثقة بالتاريخ)
نود أن نلفت الناس المرة بعد المرة إلى تهافت نقلة أخبار الحرب وتناقضهم،
ومِن ذلك أنهم ذكروا بعد استيلاء اليابانيين على ميناء (بور) آرثر أن حاميتها
سلمت الحصون والقلاع لنفاد المؤن والذخائر الحربية وهلاك معظم الجند , وقالوا:
إن التسليم كان شريفًا , ثم كروا على هذا الخبر بالنقض وأثبتوا أن ذلك التسليم عار
عظيم على الروس , وأنه كان في استطاعتهم الدفاع عدة أشهر أخرى. وكانوا قالوا:
إن الأسطول الروسي الذي تعطل وأغرق في الميناء لا ينتفع به , ثم عادوا فقالوا:
إنه يسهل استخراج سفنه ما عدا اثنتين منها ويمكن إصلاحها بنفقة قليلة. وكذلك
اختلفوا في الذخائر التي غنمها اليابانيون فحقر شأنها بعضهم وعظمه آخرون،
وكانوا قد اتفقوا على إطراء ستوسل قائد حامية الروس ثم انقلبوا يسلقونه بألسنة
حداد. والجرائد هي ينابيع هذه الأخبار مع الشركات البرقية. وقد أخذنا من ذلك
قاعدة عامة وهي أنه لا يوثق بالأخبار الحربية المختلف فيها وأما ما يتفقون عليه
فيوثق به ظنًّا بعد زمن يمر على الاتفاق وإنما الثقة الحقيقية بالنتائج المتفق عليها
ككون اليابانيين لهم الظفر في كل الوقائع. والتاريخ القديم أجدر بهذه القاعدة
وجرائد بلادنا في الجملة أجدر بعدم الثقة.