للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأشربة الروحية
(مقالة المقتطف التي وعدنا بنشرها)

قلما تجد مائدة من موائد الإفرنج خالية من الشراب: من الخمر أو البيرا أو
الشمبانيا، ولم تولم وليمة من غير أن تشرب عليها أقداح الراح ولا تحسبن ذلك
خاصًّا بالإفرنج، بل هو شائع عند كل الأمم حديثهم وقديمهم. فآثار مصر،
وخرائب بابل وأشعار اليونان وتواريخ الرومان، وأخبار الأمم الحاضرة
والغابرة، وكتب الرحلات، كل ذلك ناطق بأن الناس لم ينفكوا عن تعاطي كؤوس
الراح من أول عهدهم بين مقل ومكثر ومقلل ومدمن ولم ينفك فضلاؤهم عن التحذير
منها والنهي عنها، وحجتهم أنها تسكر، وتذهب العقل، وتتلف المال والصحة.
لكن النهي والتحذير لم يأتنا بطائل، فلا يزال الناس ينفقون على الخمورأضعاف ما
ينفقونه على تعليم أولادهم، وينفق بعضهم عليها أكثر مما ينفق على طعامه، ولا
يزال الأطباء يصفونها لضعاف الأجسام؛ كأنها من المقويات فيقوّون اعتقاد الناس
فيها، ويزيدون ميلهم إليها، فهل الأطباء مصيبون في ذلك؟ وهل نفع الأمور كاف
للتكفير عن مضارها؟ هذه مسألة جديرة بالنظر ولا سيما بنظر الأطباء.
ولا نريد بالمضار هنا مضار السكر؛ لأنها تفوق كل ما يمكن أن ينسب إلى
الخمر من النفع أضعافًا كثيرة، فلا وجه للموزانة بينهما، وإنما نريد مضار الشرب
المعتدل، أو شرب الخمور على الطعام الذي اعتاده الأوربيون ومن جرى مجراهم،
واتفق أكثر الأطباء على وصفه لنحاف الأجسام، أو للذين ساء هضمهم للطعام.
يقصد بالطعام: تغذية الجسم، وبالشراب: تسهيل هضم الطعام حتى يغذي
الجسم وليس وراء ذلك فائدة عملية من الطعام أو من الشراب لمن يأكل ويشرب،
نعم، إن من يبيع الأطعمة والأشربة، يستفيد كثيرًا من بيع بضاعته نفعت المشترين
أو أضرتهم، ولذلك نرى صانعي الخمور وبائعيها من أغنى أهل الأرض. ولكن هذه
الفائدة خارجة عن موضوع بحثنا، ولو كانت الدافع الأكبر لترويج الخمور في الدنيا
ولا ينكر أن في الطعام والشراب لذة للآكل والشارب ولكنها تختلف كثيرًا باختلاف
الناس، وأحوالهم من الصحة والمرض، والراحة والتعب، والأنس والوحشة،
وباختلاف الرهط والصحب إلى غير ذلك مما لا ضابط له. لكن هذه اللذة - وإن
أفادت في بعض الأحيان - لا تعد من النفع المقصود بالطعام والشراب، وهو تغذية
الأجسام فإن جسم الإنسان، كجسم الحيوان وكجسم النبات، من هذا القبيل ينمو ويقوى
وتصلح حاله بالغذاء الكافي، ويؤذى ويضعف وتفسد حاله بقلة الغذاء.
ازرع بزرة في التراب واتركها من دون ماء، فلا تنبت، أو ازرع البزرة في
الماء واتركها من دون تراب، فلا تنبت، وإن نبتت ذوت ويبست حالاً؛ لأن نمو
البزرة حتى تصير شجرة، يقتضي أن تتغذى، والغذاء يأتيها من التراب. ولكن لابد
من أن يذوب أولا في الماء، حتى يتمكن من دخول جسمها وتغذيتها، فإذا زرعت
في التراب ورويت بالخمر، لم تعش ولم تنبت، وهذا أمر يستطيع كل أحد امتحانه
فيرى أن الخمور لا تذيب الأطعمة على أسلوب يجعلها صالحة لتغذية النبات.
وجسم الحيوان يختلف عن جسم النبات من وجوه كثيرة. ولكنهما يتغذيان
على أسلوب واحد تقريبًا.
ولقد أَبَنَّا في مقالة سابقة موضوعها الحق والباطل، أن مقياس الحقائق
استعمالها والانتفاع بها. وهذه الحقيقة أي: ضرر شرب المسكرات مهما كان مقدارها
قليلا، وَجَدت لها شركات التأمين على الحياة نفعًا كبيرا، فهي تتساهل مع الذين لا
يتعاطون المسكرات أبدًا أكثر مما تتساهل مع الذين يتعاطونها ولو قليلا. أي: صار
للامتناع عن شرب المسكرات قيمة مالية تقدرها شركات التأمين بالدرهم والدينار.
ولقد وصلت إلى ذلك بعد اختبار طويل واستقراء دقيق، وهذا أدل دليل فِعلي
على ضرر المسكرات، ولو وصفها الأطباء وأطنبوا بمدحها ونفعها. فإذا عرض
اثنان أن (يسوكرا) حياتيهما على مبلغين متساويين من المال، وكان سنهما واحدًا
وأعمالهما واحدة، وتساوت فيهما كل الشروط التي تشترطها شركات (سوكرتا)
الحياة ما عدا شرب المسكرات؛ أي: إن كان أحدهما يشرب الخمور والآخر لا
يشربها، فإن الشركة تفرض على الأول أكثر مما تفرض على الثاني؛ لكي تسوكر
حياتيهما على مبلغين متساويين، وإن دفعا مبلغين متساويين كل سنة، ضمنت
للثاني أكثر مما تضمن للأول، كأنها تقول بعبارة تجارية حسابية لا تقبل الشك ولا
الريب: إنه قد ثبت لي بالاستقراء أن عمر الذي يشرب مسكرًا أقصر من عمر الذي
لا يشرب مسكرًا، فلا أستطيع أن أعاملهما معاملة واحدة، وأكون بمأمن من الخسارة
ولابد للذي يشرب المسكر من أن يدفع لي سنويًّا أكثر مما يدفع من لا يشرب
مسكرًا؛ لكي أضمن حياتيهما على مبلغين متساويين من المال. وهذا وجه يكفي لأن
يكون فصل الخطاب بين الذين يقولون بضرر المسكرات ولو كان مقدارها قليلاً
وشربها معتدلا وبين الذين يقولون: إن لا ضرر منها حينئذ بل منها نفع.
وهذا الحكم العملي التجاري المبني على الاستقراء يؤيده العلم أيضًا، قال
الكولونيل دفي أحد أطباء الجيش الإنكليزي في مقالة نشرت حديثًا في مجلة القرن
التاسع عشر: إن المسكرات تفعل بالطعام: فلا يعود ينهضم بالسرعة التي كان
ينهضم بها لولاها، وتفعل أيضًا بأعضاء الهضم فتقسيها، كما تقسي القطع اللحمية
التي توضع فيها، فلا يعود فعل الهضم سهلاً عليها وإذا اختل فعل الهضم اختل
فعل التغذية، وتضر أيضًا بالرئتين والكليتين والكبد والدماغ.
غير أن كثيرين يشربون المسكرات بالاعتدال، ولا ينالهم من شربها ضرر
ظاهر، فيتخذون ذلك دليلاً على عدم الضرر من الشرب المعتدل. ولكن هل قاس
أحد قوة هؤلاء الناس الجسدية والعقلية وهم غير شاربين للمسكرات بقوتهم
الجسدية والعقلية وهم شاربوها. نعم، إنهم إذا اعتادوا الشرب، فقد تضعف قواهم
وتخمل عقولهم في الساعة التي اعتادوا الشرب فيها، إذا امتنعوا عن الشرب حينئذ.
ولكن يحدث مثل ذلك بكل من يعتاد شيئًا ثم يفطم نفسه عنه حتى
الأفيون والحشيش؛ لأن أعصابه تصير تنتظر المنبه أو المسكن في الساعة التي
اعتادته فيها، فتضطرب إذا قطع عنها. ولكن إذا تكرر هذا الانقطاع مدة أَلِفَتْهُ
الأعصاب، ولم تعد تضطرب منه.
وبديهي أن المسكر جسم غريب يدخل الجسم، بل هو سم يتعب الجسم،
فيجاهد الجسم للتخلص منه، كما يجاهد للتخلص من سائر السموم التي تدخله، وهذا
الجهاد عمل شاق، يذهب فيه جانب من قوة الجسم، وإذا تكرر دخول هذا السم يومًا
بعد يوم، فلا بد من حصول الضرر أخيرًا.
ورب قائل يقول: إننا نرى الأطباء يصفون المسكرات في بعض الأحيان
ويقولون أن لا بد منها ولا يكتفون بوصف الضعيف الفعل كالخمر والبيرا بل
يصفون القوي الفعل كالعرق والكُنياك، فكيف تقولون بضررها قولاً مطلقًا من غير
قيد.
والجواب: أنّ الألكحول الذي هو العنصر الفعال في المسكرات على أنواعها
نافع في بعض الأحوال المرضية ولازم فيها دواء لا غذاء وخير للطبيب أن
يصف حينئذ الألكحول النقي نفسه لا أمزجته المعروفة بالمسكرات، وهو إذا وصف
كذلك شربه المريض مكرهًا، ولم يجد في شربه لذة، ولا رأى في نفسه ميلاً إليه،
بعد الشفاء من المرض. بل إنه لو شرب أطيب المسكرات دواء لما وجد في نفسه
ميلاً إليها كما لو شربها للتلذذ بطعمها. أما ما يزعمه بعض الأطباء من أن المسكرات
غذاء نافع، فزعم قديم قوِّضت أركانه الآن. وليس الألكحول غذاء بل هو سم
زعاف مثل سائر السموم ويجب أن يعامل مثلها، يجتنب دوامًا ولا يستعمل إلا إذا
دعت الحاجة إليه دواء؛ لأن العلم والاستقراء قد أثبتا ذلك.