تناقلت الجرائد المحلية خبرًا كَلَم كل فؤاد، وفَتَّ في جميع الأعضاد، بل كان قارعة من القوارع، تمزقت من وقعها المسامع، وهو أن الدولة الإنكليزية بعثت إلى نظارة خارجية مصر برسالة برقية تقول فيها: (إن حكومة إنكلترا أنفقت في محاربتها السودان النفقات العظيمة، وخسرت في فتحها الخرطوم وأم درمان دماء رجالها، ومن هذا هي تعدّ نفسها ذات الحق الأول في السودان، ولمصر الحق الثاني، فيحتم على إنكلترا أن تكون هي الآمرة الناهية فيه، وعلى مصر أن تقبل إرشادها ونصائحها فيه) . انظر إلى هذه المقدمات البينة والحجج القيمة؟ من قال من بني الإنسان: إن المتطفل أو المتفضل بمساعدة إنسان على دفع مضرة عن أرضه، أو اجتلاب منفعة لملكه، يكون له الحق الأول في ذلك الملك، والتصرف المطلق في تلك الأرض، ويجب على صاحب الأرض المالك أن يكون عبدًا خاضعًا له، ومنفذ أوامره؟ أي قانون أم أية شريعة تبيح لصاحب الهدية أن يمتلك بيت المهدى إليه بحجة أن الهدية كانت حجرًا أو خشبة ودخلت في البناء؟ أقول: إن شريعة البغي والظلم المؤسَّسة على قاعدة (القوة تغلب الحق) هي التي تبيح هذا دون سواها، سمحت إنكلترا لمصر بثمانمائة ألف جنيه لكنها ابتزت منها ألوف الألوف من الجنيهات من مدة الاحتلال، فهل كان ذلك ذريعة لامتلاك بلادها؟ نعم، إنهم ليأكلون أموالنا ويسفكون دماءنا بتسليط بعضنا على بعض لأجل فتح بلادنا وامتلاكها، ونسميهم مع ذلك مصلحين، ولا يزال فينا من يحسن بهم الظن وينخدع لهم، وأولئك هم الغافلون. أما الحكومة المصرية فقد ارتاعت - كما قيل - لهذا النبأ العظيم، وإن كانت مستسلمة للإنكليز في جميع الشؤون، وطيرت الخبر لسمو العزيز في أوروبا، ورفعته للآستانة العلية أيضًا، ولا نعلم ماذا يكون الجواب عنه، وإن بعض الناس لم يزالوا في ريب من صحة الخبر لغرابته وبعده عن مسلك الإنكليز في التمويه، وعدم انطباقه على قاعدة من قواعد حقوق الأمم والدول، وستنكشف الحقيقة عما قليل. *** جاء في بعض الجرائد المحلية أن مولانا السلطان الأعظم تعلقت إرادته السنية بمنع جميع الجرائد المصرية من دخول ولايات السلطنة، ماعدا ثلاثًا مسيحية، ولقد كذبت هذا الخبر جريدة الأهرام، وتكذبه دائمًا جرائد سوريا التي تنقل الأخبار في كل أسبوع عن الجرائد المصرية مع العزو الصريح إليها، ولا وجه لتخصيص الجرائد المسيحية بخدمة الخلافة الإسلامية، بل المسلمون العارفون بحقوق الخلافة - لأنها من مهمات دينهم - أحق بهذه الخدمة وأهلها، وهم والمسيحيون سواء في خدمة الدولة العلية والجامعة العثمانية؛ لأنهم في بنوتها سواء، ويجب عليها العدل فيهم والمساواة بينهم في الحقوق والأحكام بحسب نصوص الشريعة الغراء. إننا لنعلم أن ذلك الخبر قد خلقه بعض المذاعين في الآستانة ليوهم بعض أرباب الجرائد هنا أن مولانا السلطان لا يرضى إلا عن الجرائد التي تشهد لبعض الشيوخ في الآستانة بالقطبية الكبرى، والولاية العظمى ومقام المعرفة بالله تعالى، أو ما يقرب من هذه الشهادة، لكن من أراد أن يوهمهم ذلك الخداع لا يسيرون في ظلمات الأوهام، ولا يشهدون الزور، ولا يتسلقون لإعطاء مراتب الصوفية لأهل الضلال. وإذا كان أولئك الشهداء معتقدين صدق أقوالهم، فلماذا لا يدينون بدين العارفين بالله تعالى وأقطاب دينه وأهل سره؟ تبًّا لمن يبيع دينه ووجدانه بالأماني الوهمية، وويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.