للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة ١٣٥١
في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام
(تابع لما نشر في الجزء الماضي)
٤٢- تحريم النساء على النبي صلى الله عليه وسلم
بعدما تقدم
قال تعالى بعد هذه الآية من سورة الأحزاب في التوسيع على نبيه صلى الله
عليه وسلم في أمر النساء، وما كان لها ولما قبلها من اتعاظ نسائه وتأدبهن ومن
اختيارهن البقاء معه صلى الله عليه وسلم مع القشف والزهد، على الحياة الدنيا
وزينتها مع فراقه:
{لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ
إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} (الأحزاب: ٥٢) .
ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في مكافأة أزواج النبي التسع
على اختيارهن مرضاة الله ورسوله وثواب الدار الآخرة على نعيم الحياة الدنيا
وزينتها، فحرَّم عليه أن يتزوج عليهن أو يستبدل بهن أزواجًا أخرى، وأن قوله
تعالى (من بعد) معناه: من بعد هؤلاء التسع اللائي في عصمتك، أو من بعد
اختيارهن لك، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير من كبار مفسري التابعين: أن
المعنى: لا يحل لك النساء بعد الذي أبيح لك في الآية السابقة، أي: من التصرف
في معاملة أزواجك التسع كما تشاء، ومآله أنه لم يبق لهم من سبيل إلى إزعاجك
بما كن يزعجنك به، الذي أدى إلى تهديدهن بالطلاق، والتخيير بين الإمساك
والفراق.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: ٥٢) ظاهر في حبه
صلى الله عليه وسلم للحسن والجمال، وكيف لا وهو الكامل الذوق والخلال، القائل:
(إن الله جميل يحب الجمال) [١] ولكنه كان يؤثر المصلحة على التمتع النفسي،
ويشرع الله له ما هو أليق بمقامه الإصلاحي، لا ما تدل عليه كلمة عائشة بقرينة
غيرتها الزوجية من كل ما تهواه نفسه.
واستثنى ههنا ملك اليمين وهو مما يسوءهن لو حصل؛ ولكنه لم يحصل، فهو
لم يسترق سبية، ولم يشتر أمة يتسرى بها؛ وإنما كان تسريه المعروف قبل ذلك،
والمراد بكل هذا إكمال تربية الأزواج الطاهرات المختارات حتى لا يعدن إلى تلك
الصغائرالنسائية المزعجات له صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك كمل إيمانهن بكماله.
ومن المعلوم بالطبع أن أهم ما يهم المرأة من زوجها هو وظائف الزوجية
ووسائل المعيشة، وأن المرأة أعلم الناس بضعف بعلها البشري، وأن صفاته
الزوجية قد تحجبها عن خصائصه الروحية والعقلية، وتعد الصغير من ذنبه معها
كبيرًا، والقليل من تقصيره كثيرًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض مواعظه
للنساء: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار)
فسألنه عن السبب فقال: (إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير) يعني الزوج، أي:
ينكرن فضله ومعروفه [٢] .
فمن ثم قال بعض علماء الإفرنج: إن سبق خديجة إلى الإيمان بمحمد ويقينها
فيه من أقوى الدلائل على صدقه، وكذلك كان سائر نسائه صلى الله عليه وسلم في
قوة الإيمان به واتباع هديه وإيثار الشرف بزوجيته مع القشف والشظف، على كل
ما في الدنيا من زينة وترف.
٤٣- آية الحجاب
(لبيان ما يجب على المؤمنين من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأزواجه، وما يحرم عليهم من إيذائه)
قد فطر الله محمدًا على مكارم الأخلاق وعقائل الآداب، وكمَّل أخلاقه وآدابه
بوحيه إليه هذا القرآن، ينبوع الحكمة وشمس العرفان، ووصفه فيه بقوله:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: ١٥٩) .
وكان على رحمته ولينه ولطفه وحلمه، وقورًا مهيبًا وشجاعًا باسلاً، وجليلاً
حلاحلاً، حتى كان بعض من يجيئه معاديًا يريد الفتك به ترتعد فرائصه عند رؤيته
فيقول له صلى الله عليه وسلم: (هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من
قريش تأكل القديد) [٣] فكان يهون على الناس مهابته بالمبالغة في التواضع فينهى
عن الغلو في تعظيمه وعن الوقوف بين يديه، وكان كما قال هند بن أبي هالة: من
نظر إليه بديهة هابه، ومن عاشره معرفة أحبه، وكما قال ابن الفارض:
بجلال حجبته بجمال ... هام واستعذب العذاب هناكا
ومن شواهد مهابته صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان عن زينب الثقفية
امرأة عبد الله بن مسعود، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن
يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت: إنك
رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فائته
فاسأله؛ فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم، فقال عبد الله: بل ائته
أنت، فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتها
حاجتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقيت عليه المهابة فخرج علينا
بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب
تسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره
من نحن، قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له
رسول الله: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ قال امرأة عبد الله بن مسعود فقال: لها أجر القربة
وأجر الصدقة) .
وكان قومه العرب أوسع الأقوام حرية وأجرأهم على العظماء لعدم وجود ملوك
جبارين فيهم يستذلونهم، ولا رؤساء دينيين يربونهم على الخضوع لهم، فكانت
آداب أتباعه معه صلى الله عليه وسلم دينية وازعها نفسي لا قهري ولا عرفي،
وتعاليمهم فيها مستمدة من كتاب الله تعالى، ومن سنته صلى الله عليه وسلم والتأسي
به، ولهذا كانت في كمالها ونقصها تابعة لقوة الإيمان وسعة العرفان، وكان فيهم
الأعراب الجفاة، والمنافقون العتاة، ومرضى القلوب، وكان الجميع يدخلون بيوته
ويتحدثون إلى أزواجه في أي وقت من ليل أو نهار.
كان هذا الأمر يثقل عليه وعلى علماء الصحابة وفضلائهم وكان عمر بن
الخطاب من أشدهم غيرة وجرأة وحزمًا أو أجمعهم لهذه الصفات على أكملها، فكان
يطالب النبي صلى الله عليه وسلم بحجبهن عن الرجال، فمن ذلك ما رواه البخاري
ومسلم وغيرهما عن أنس قال: (قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، إن
نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله
آية الحجاب) أي: فكان هذا مما وافق رأيه القرآن.
وروى الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: (كنت آكل مع النبي صلى
الله عليه وسلم في قعب [٤] فمر عمر فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأكل فأصابت
أصبعه أصبعي، فقال: أوه لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين) وروى البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث أنس قال: (لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب دعا
القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك
قام وقام من القوم من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فإذا القوم
جلوس فرجع، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم
قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله
آية الحجاب)
آية الحجاب وسبب نزولها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ
نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ
ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً
فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ
اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب:
٥٣) .
حاصل معنى الآية نهي المؤمنين عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم
على أزواجه كما كانوا يفعلون لأجل الطعام أو الكلام أو غيرهما من الحاج [٥] إلا
في حال الإذن لهم ودعوتهم منه، أو من قبله إلى طعام ناضج حاضر غير منتظرين
لأناه - أي نضجه - حتى لا يطول مكثهم فيها، قال: ولكن إذا دعيتم إليه والحال ما
ذكر فادخلوا، فإذا طعمتم أي أكلتم الطعام فانتشروا، أي اخرجوا وتفرقوا بلا تريث
ولا بطء كما يدل عليه العطف بالفاء، ولا تدخلوها مستأنسين لحديث أي طالبين
للأنس والتسلية بالكلام مع أهلها ولا بينكم فيها، فمنع دخولهم لأجل الطعام إلا بدعوة
إليه بشرطها، ومنع دخولهم لأجل الكلام مطلقًا، وعلل المنع بأن ما كان من دخولهم
بيوته ومكثهم فيها كان (يؤذي النبي) أي يؤلمه ولم يقل (يؤذيه) للتذكير بأن إيذاءه
بصفة النبوة أعظم من إيذائه بصفته الشخصية، وإنه لفرط حيائه وأدبه كان يخفي
عنهم أذاه وألمه منهم، فلا يصرح لهم به ولا يعمل بموجبه فينهاهم عن الدخول
والمكث] وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ [أي لا يمتنع أن يظهره بالإخبار به والأمر
بالتزامه والنهي عما ينافيه؛ لأنه تعالى لا يعرض له الانفعال البشري الذي يمنع
الإنسان عن مواجهة غيره بما يكره.
ولما كان هذا المنع لدفع الأذى عن الرسول لا لحرمان المؤمنين من الانتفاع
من أزواجه بما اعتادوا أن يطلبوه من بيوته قال:] وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً [
وهو كل ما ينتفع به من ماعون وغيره، ومثله السؤال عن العلم بالأولى] فَاسْأَلُوهُنَّ
مِن وَرَاءِ حِجَابٍ [أي ستر مضروب دونهن بحيث يسمعن ما تطلبون من غير
مواجهة ولا استئناس في المخاطبة، وعلله بقوله:] ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [
أي ذلكم السؤال من رواء حجاب، أو الذي ذكر كله من نهي وأمر بشرطهما] أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [من الخواطر الطبيعية، والوساوس الشيطانية، التي يثيرها تلاقي
النساء والرجال، واسترسالهما في حديث الاستئناس وشجونه، واختلاف الأفهام
والتأويلات فيه.
] وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [وما كان من شأنكم
ولا مما يصح أن يقع منكم أيها المؤمنون إيذاء رسول الله بحال من الأحوال؛ لأن
تعمد إيذاءه ينافي الإيمان، فوجب أن يُتَّقى وتُسَدُّ ذرائعه] وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ
مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [فإن الله تعالى جعلهن أمهات لكم، وجعله أولى بكم من آبائكم بل من
أنفسكم، وكل صحيح الإيمان يشعر من نفسه بأن رسول الله أجل في قلبه من أمه
وأبيه وأحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، ومن لوازم إجلاله وإجلال حلائله
وإحلالهن من قلبه محل الكرامة الدينية الروحية، البعيدة عن شعور الشهوة الجنسية،
بأشد من صرف إجلال الأم الجسدية للنفس عن اشتهائها، فكيف يسمح له وجدانه
الديني أن يحل من إحداهن محل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوليست ذكرى
الرسول عند إرادة قربه منها - إن حصل - كافية لإثارة عاطفة الحياء منه والإجلال
له الصارفة له عن ملامستها؟ بلى والله، ولكن روي عن بعض المنافقين ومرضى
القلوب أنهم تحدثوا بنكاح فلانة وفلانة من أمهات المؤمنين بعد وفاته صلى الله عليه
وسلم، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أن هذا ليس من شأنه أن يقع من المؤمنين ليعلموا
أن من يتحدث به لا يكون إلا من المنافقين؛ فإن قوله تعالى:] وَمَا كَانَ لَكُمْ [نفي
للشأن لا لمجرد الفعل وهو يقتضي نفي الفعل بالدليل، وإن كل مؤمن ليشعر في كل
زمن بأن إيذاء الرسول ونكاح بعض أزواجه ينافي الإيمان بأنه رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقد أكد ذلك بما يدل على الوعيد الشديد على مخالفته فقال: {إِنَّ ذَلِكُمْ
كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: ٥٣) أي: خطبًا عظيمًا وحوبًا كبيرًا.
فعلم من نص الآية ومما ورد في سبب نزولها أن الأمر بحجاب أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم قد كان لتقرير ما يجب على المؤمنين من توقيره وتعظيم
حرمته، وسد منافذ الذرائع دون كل ما يكون من إيذائه، وقطع طرق الشبهات
ونزغات الشيطان أن تطوف بقلوب مجالسهن ومحدثهن بما يمس مقامه في منصب
النبوة والرسالة، أو يهبط بهن من أوج أمومة المؤمنين الروحية، إلى خواطر
النزعات الزوجية، ولا ننسى أن المنافقين إذا لاحت لهم شبهة في إحداهن بنوا
عليها من الإفك والبهتان ما يعن لهم ويوسوس به الشيطان كما فعلوا في رمي السيدة
عائشة بما أثر في قلوب بعض سذج المؤمنين حتى نزلت براءتها من السماء.
ومن هذا القبيل في سد الذريعة على الخواطر والوسوسة (أن صفية أم
المؤمنين زارت النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في العشر الأخير من
رمضان في المسجد فتحدثت عنده ساعة من العشاء، فلما قامت تنقلب راجعة قام
معها النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغا باب المسجد مر بهما رجلان من
الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نفذا (انطلقا مسرعين)
فقال لهما صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي قالا:
سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال، فقال صلى الله عليه وسلم: إن
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا)
رواه الشيخان.
ولا تدل الآية بتصريح ولا تعريض على تعليل الحجاب بالخوف على شرف
صيانتهن وحصانتهن، لا منهن ولا عليهن، كما يتوهم بعض المعترضين من غير
المسلمين على مسألة الحجاب في الإسلام إذ يقولون إن المسلمين يحجبون نساءهم
عن الرجال لعدم ثقتهم بعفتهن، وهذا باطل، وسأعود لهذه المسألة في الكلام على
آداب النساء، وأختم الكلام في مسألة الأزواج الطاهرات ببيان نتيجتها وثمرتها.
٤٤- ثمرة هداية القرآن والسنة في أزواجه
صلى الله عليه وسلم
بهذا الوحي الإلهي، والهدي المحمدي، علم أولئك الضرائر التسع أن
الإصلاح الإسلامي للبشر يكلفهن أن يكن نسوة لا كالنساء، وأزواجًا لا كالأزواج،
يكلفهن أن يحتقرن التنافس في الطعام والشراب، والمباراة في زينة الحلي واللباس،
والتحاسد على الحظوة عند هذا الزوج العظيم في حب الزوجية، وتناسي وظيفته
العليا وهي النبوة، علمن بما ذكر أن الله تعالى ورسوله يريدان منهن أن يكن قدوة
صالحة، وأسوة حسنة لجميع النساء، ومعلمات للمؤمنات، ومثلاً بارزة في البر
والتقوى، والعلم والحكمة، ومعالي الأمور ومكارم الأخلاق، من العفة والصيانة
والأمانة والديانة، وأن يرجئن ما يشتهين من الزينة والنعمة إلى الدار الآخرة:
{فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة: ٣٨) .
خيَّرهن الله ورسوله بين الأمرين فاخترن خيرهما، وأتم الله نعمته عليهن بما
شرعه لرسوله ولهن مما يزكيهن من وساوس الغيرة ودنايا المضارة، فتم لهن مراد
الله تعالى بها وبما شرعه للمؤمنين من جعلهن أمهات لهم، وضرب الحجاب عليهن
دونهم، حتى لا يفكر مؤمن فيما دون أمومتهن الروحية، وإجلال منصب النبوة،
إذ قال تعالى في هذه السورة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: ٦) .
ولقد كان نساء المؤمنين يلجأن إليهن بالشكوى من تقصير رجالهم في حقوق
الزوجية حتى حقوق الفراش انقطاعًا للعبادة، فيبلغن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
فيشكيهن، وينهى رجالهن عن التنطع والغلو في العبادة والامتناع من أكل الطيبات
وهجر الأزواج في الفراش، مبالغة في صيام النهار وقيام الليل، ويقول للواحد
منهم: (إن لجسدك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا ... إلخ) ولا محل لبسط
ذلك هنا.
وقد نقل لنا المحدثون والمؤرخون عنهن من فضائل الزهد والبر والصدقات
والإيثار على النفس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت الدنيا على
المسلمين وأنجز الله لهم ما وعدهم به من الغنى والملك ما يثبت لكل عالم بذلك أن
تعددهن كان خيرًا وصلاحًا للأمة وإعلاء لشأن المرأة فيها، إذ كن أفضل سيرة من
جميع نساء الأنبياء والمرسلين، بل لا يكاد يفضلهن من نساء الأمم إلا مريم ابنة
عمران، ومن هذه الأمة غير فاطمة بنت محمد عليهما السلام، وصلى الله على
محمد وأهل بيته وعلى رسل الله أجمعين.
التسري وملك اليمين والمخادنة
٤٥- تمهيد في الرق وإصلاح الإسلام فيه
هذه المسألة مما يجب علينا بيان الإصلاح الإسلامي والهدي المحمدي فيها بما
هو مصلحة للنساء وعناية بالجنس اللطيف، وهي تعد من فروع تعدد الزوجات
في أحد الاعتبارين، ومن فروع الاسترقاق في الاعتبار الآخر، وكل منهما كان
شائعًا في الشعوب والقبائل الهمجية وفي أمم الحضارة والملل السماوية وهما في
الإصلاح الإسلامي من ضرورات الاجتماع البشري التي تُقَدَّر بقدرها، أما الرق
فقد مهد الإسلام السبل للقضاء عليه من غير تكليف الأمم التي اعتادته وصار منوطًا
بمعاشها ومصالحها أن تبطله مرة واحدة، فتختل مصالحها فتعصي آمرها، وما كان
الإسلام دولة عسكرية تقهر الناس على شرعها بالقوة؛ وإنما أخذ الناس من طرق
الإقناع والوازع النفسي، والله يقول لنبيه في كتابه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: ٤٨) {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية:
٢١-٢٢) {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: ٤٥) .
وهذا التمهيد له طريقان (أحدهما) سد ذريعة الاسترقاق بحصره في سبب
واحد، وهو أن يرى إمام المسلمين المصلحة العامة تقضي باسترقاق الأسرى
والسبايا في قتال الكفار الشرعي كحماية دعوة الإسلام وداره (وطن المسلمين) من
الاعتداء عليهما، وترجيح ذلك على مصلحة المن عليهم بالعتق لإظهار فضل
الإسلام وسماحته وعلى مصلحة فداء أنفسهم أو فداء أسرى المسلمين وسباياهم عند
الأعداء بهم عملاً بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا
فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: ٤) .
وإنما تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين في حالات قليلة
نادرة لا تدوم، كأن يكون المحاربون للمسلمين قومًا قليلي العدد (كبعض قبائل البدو)
يقتل رجالهم كلهم أو جلهم، فإذا ترك النساء والأطفال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة
على الاستقلال في حياتهم فيكون الخير لهم أن يكفلهم الغالبون ويقوموا بشؤونهم
المعاشية [٦] ، ثم تجري عليهم أحكام الطريقة الثانية في تحريرهم.
(الطريقة الثانية) : ما شرعه لتحرير الرقيق من الترغيب في الأجر وجعله
كفارة لكثير من الذنوب، وتوسيع أبواب ما يعتق به العبد، حتى قال مصلح
الإنسانية الرءوف الرحيم: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد بيَّنا هذا بالتفصيل في
المنار ولا محل له هنا؛ فإن موضوع رسالتنا مصلحة الجنس اللطيف في الشرع
الإسلامي والإصلاح المحمدي ومنها مسألة التسري.
قلنا: إن مسألة التسري من فروع مسألة تعدد الزوجات، وقد بيَّنا من قبل أن
أكثر شعوب البشر قد جرت على هذا التعدد بصور مختلفة، وأن سببه القديم
الأعظم فيها هو الرق، ثم اختلفت صفاته وتعددت أسماؤه، فالمشهور الآن أن أهل
أوربة هم الذين تواطئوا بدعوة الدولة الإنكليزية على إبطال الرق من العالم، كما
أنهم هم الذين يتشددون في تحريم تعدد الزوجات؛ ولكنا بيَّنا أيضًا أن أهل أوربة
هم أشد شعوب الحضارة الملية استباحة للسفاح واتخاذ الأخدان، وأنهم هم الذين
أفسدوا على أهل البلاد الشرقية التي تقلدهم في حضارتهم عفتهم وصيانتهم، وتكلفوا
حماية البغايا والقوادين والقوادات في بلادهم إذا كانوا من رعاياهم، وناهيكم بخزي
الرقيق الأبيض.
٤٦- مقدمة ثانية
في التسري والمخادنة عند الإفرنج والرقيق الأبيض
إن نخاسة الرقيق الأبيض التي تصدر أوربة بضاعتها إلى كل قطر توجد فيه
ثروة تبذل المال في شهوة السفاح - لأشد خزيًا للإنسانية وإفسادًا لها وامتهانًا لشرفها
وجناية على النساء من نخاسة الرقيق الأسود التي يتجر بها من يختطفون البنات
والولدان من زنوج أفريقية؛ فإن أكثر هؤلاء يباعون ليكونوا خدمًا في بيوت
الأغنياء، وأقل الإناث منهن يستمتع بهن، فإن كان مبتاعوهن من المسلمين الذين
يظنون أن هذا رق جائز، ورزقن أولادًا منهن يكون أولادهم أولادًا شرعيين لآبائهم،
ويكن هن بذلك أمهات حرائر بعد وفاتهم.
وأما هذا الرقيق الأبيض فهو سوق للألوف المؤلفة من البنات الحسان من
المراهقات والمعصرات والبالغات كالأنعام ونقلهن من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى
قطر؛ لأجل التجارة بأعراضهن بالسفاح والمخادنة التي تفسد الزوجية الشرعية
على أهلها، وتنشر ميكروبات الأمراض التناسلية في أجسام المبتلين بها، وتفعل
سمومها المعنوية في الأخلاق والأرواح شرًّا مما تفعل ميكروباتها في الأبدان، وقد
تفاقم بعد حرب المدنية العامة شرها، وتضاعف وزرها، وهاك ما كتبه بعض
علماء الحقوق في تاريخ التسري وحاله في أوربة في القرن الماضي.
جاء في كتاب المقارنات والمقابلات نقلاً عن الأصل الفرنسي منه ما نصه:
(١٥١) ويكاد التسري واتخاذ الجواري والأخدان يكون عام الوجود في
جميع بلاد الدنيا حتى في البلاد المحلل فيها تعدد الزوجات وهو مستعمل في أفريقيا
وأمريكا وأوربة بكيفيات مختلفة ... إلخ، ثم قال:
(١٥٢) وقد كان التسري معروفًا عند قدماء اليونان بطريقة تقرب من تعدد
الزوجات؛ لأن الأولاد المرزوقين من التسري كانوا يعاملون معاملة المرزوقين من
النكاح المشروع، وفي زمن من الأزمان وجد عندهم نوع آخر من التسري خلاف
الأول كانت الجارية فيه عبارة عن رقيقة يتخذها الرجل للتمتع خارج بيته ولا
علاقة شرعية ولا قانونية بينه وبينها.
(١٥٣) وأما التسري عند قدماء الرومان فكان مشروعًا في قوانينهم ويقرب
كثيرًا من النكاح الصحيح؛ لأنه كان يمنع الرجل من التزوج بغير الخدن التي
سيستفرشها فهو في الحقيقة شكل من أشكال النكاح المحرم فيها تعدد الزوجات.
وكان الأولاد المرزوقون منه ينسبون لأبيهم؛ ولكنهم يعاملون معاملة أمهم، أي
لا يرثون من أبيهم كالمرزوقين من النكاح المشروع، وكان يطلق عليهم اسم أولاد
طبيعيين، لتمييزهم عن الأولاد الشرعيين، ومعنى الطبيعيين هنا المرزوقون من
النكاح المباح طبعًا لا شرعًا، وقد كان حالهم كثير الشبه بحال الأولاد المرزوقين
من التسري في زمننا هذا؛ لأن واضع أحكام الشرع الفرنساوي نقل عن شرع
الرومان معظم أحكام التسري.
(١٥٤) وقد نسخ هذا التسري الروماني بحكم النصرانية؛ ولكن
الأورباويين لا يزالون يتخذون الأخدان، ولم يتبعوا شرعهم الديني في تحريم تعدد
الزوجات كما يتبع عربان قبائل المغرب شرعهم الديني ويتمسكون بأحكام النكاح
وتحريم الزنا؛ فإن هؤلاء الأقوام يقتلون المرأة التي تلد من الزنا ويعدمون ولدها،
ثم يبحثون عن الزاني بها ويحاكمونه، أما الأورباويون فلا يعاقبون على التسري
واتخاذ الأخدان، ويغضون الطرف عنه ولو أنه غير جائز شرعًا، والسبب في
انتشار التسري في أوروبا كثرة الإجراءات الواجبة الاستيفاء لعقد الزواج المشروع
وقيود وتكليفات أخرى سبق ذكرها، وأكثر ما يكون التسري في أوروبا بين أرباب
الصنائع من الذكور والإناث، وبين أرباب الأموال من الرجال وأسافل نساء المدن،
وحكم التسري عندنا عدم تقييد الطرفين بأي رابطة بحيث يجوز لكل منهما
الانفصال في أي وقت شاء، وعدم تكليف الرجل بأي حق للمرأة سواء أتت بولد أو
لم تلد، أما الأولاد المرزوقون منه فحالهم أدنى من حال الأولاد المرزوقين من
النكاح الصحيح، وكانوا قبل بضع سنين مجردين عن كل حق على آبائهم، وقد
كثر عددهم في باريس كثرة عظيمة جدًّا من كثرة انتشار التسري، إذ يقال إن عشر
أهلها يعيشون في تسر أي بدون زواج مشروع، ويقال إن العدد الأعظم من ذلك في
بعض جهات ألمانيا مثل بلاد ساكس وبفاريا وسلبورغ.
(١٥٥) وقد يرى الباحثون في أمور المعاش وأحوال الناس أن تحريم
التسري في أوروبا جاء مضرًّا بالنساء والأولاد المرزوقين من التسري، وقولهم هذا
قاصر على النظر في الأمر من هذه الوجهة بقطع النظر عن مخالفته للدين اهـ.
هذا ما كتبه الأستاذ مسيو جان ديفهلي في القرن الماضي وأن حال بلاد الإفرنج
كلها في هذا القرن لشر مما كانت عليه قبله في تجارة الأعراض، وكثرة سبايا
الرقيق الأبيض؛ ولكن فرنسة جعلت أولاد الزنا بالأخدان كالأولاد الشرعيين في
إثبات النسب والإرث كما رأينا في بعض الصحف.
كل ما أثبته هذا الكاتب المؤرخ القانوني عن التسري وما في معناه في الشعوب
الأوروبية وغيرها فهو من أفظع الجرائم والإهانة للنساء وإلقاء هذا الجنس اللطيف
الضعيف في مواخير الفحش والفساد، وبؤر الأدواء والأمراض، أفهذه هي الشعوب
التي حررت النساء؟ أم هذا هو القرن العشرون الذي كرمت مدنيته النساء؟ كلا إن
نساء الإفرنج ما أخذن حقًّا من حقوقهن المهضومة إلا بقوة العلم وقوة الإرادة وقوة
الاجتماع التي اكتسبتها بتأثير التربية والتعليم العام، كما أن الشعوب الأوربية ما نالت
حقوقها السياسية من ملوكها ونبلائها إلا بالقوة القاهرة، وستضطرهم قوة النساء
واستقلالهن إلى ما هو شر لهم ولهن كالبلشفية، أو ما هو أضر، وأدهى وأمر، من
فوضى الحياة الزوجية وانهيار بناء الأسرة، وقلة النسل المفضي إلى الانقراض إلا أن
ينقذ الله هذه الحضارة بهداية الإسلام.
الإسلام هو الذي قرر جميع الحقوق الإنسانية وخص النساء بالعطف والتكريم
فقال نبيه: (ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم) على حين لم تكن
الشعوب ترفعهن فوق الحيوانية، إلا إلى الرق والعبودية، وإنني أبين بكلمة
مختصرة حكم الإصلاح الإسلامي المحمدي لهذا المرض الاجتماعي البشري.
٤٧- التسري الصحيح في الإسلام
كل ما كانت عليه الأمم القديمة، وكل ما عليه الأمم الحاضرة من التسري
واتخاذ الأخدان فهو في شرع الإسلام من الزنا المحرم قطعًا الذي يستحق فاعله أشد
العقاب، وكل من يستبيح هذا الفجوز الخفي وما هو شر منه من السفاح الجلي فهو
بريء من دين الإسلام.
وأما التسري الشرعي المباح في الإسلام فهو خاص بسبايا الحرب الشرعية إذا
أمر إمام المسلمين الأعظم خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم باسترقاقهن؛ وإنما
يكون له أن يأمر بذلك إذا ثبت عنده بمشاورة أهل الحل والعقد أن المصلحة فيه
أرجح من المن عليهن بالعتق ومن افتداء أسرى المسلمين وسباياهم بهن إن وجد
عند الأعداء سبايا وأسرى منا، فليس الاسترقاق واجبًا في الإسلام؛ ولكنه يباح إذا
كان فيه المصلحة التي لا يعارضها مفسدة راجحة، ولكل حكومة إسلامية أن تمنعه
بل منعه من مقاصد الإسلام العامة، والاسترقاق المعهود في هذا العصر للسود
والبيض كله باطل في الإسلام، فالتسري بالنساء اللاتي يختطفهن النخاسون، أو
يبيعهن الآباء والأقربون، أو يغريهن التجار والقوادون، كله عصيان لله ولرسوله.
تلك الطريقة الشرعية لوجود السبايا في بلاد المسلمين، وهل يرتاب عاقل
عادل في أن الخير لهن إن وجدن أن يتسرى بهن المؤمنون، فيكن في الغالب
أمهات أولاد شرعيين كسائر الأمهات الحرائر؟ فإن الجارية التي تلد لسيدها تعتق
بموته إذ لا يصح ولا يجوز في الشرع أن تكون مملوكة لولدها بمقتضى إرثه لوالده،
وفي بعض الآثار أنه يحرم بيعها منذ ولادتها؛ ولكن لا تجب لها أحكام الزوجية
المعروفة بيد أنها قد تكون أحظى عند الرجل بأدبها وقلة تكاليفها وعدم تحكمها
كالزوجة التي تدل بحقوقها الشرعية والاعتزاز بأهلها.
هذا هو المعهود في السراري في الإسلام وأقل أحوالهن أن يكن كالزوجات في
حصانتهن وشرفهن وضمان رزقهن وحفظ كرامتهن، فمن وصايا مصلح البشر
ونبي الإنسانية في الرقيق أن يعبر عن الذكر بالفتى لا بالعبد، وعن الأنثى بالفتاة لا
بالأمة وهو في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وسلم: (هم إخوانكم وخولكم
جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما
يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه) وهذا متفق عليه من
حديث أبي ذر، وفي حديث أبي هريرة عند الجماعة كلهم ما يقتضي استحباب
جلوس الخادم مع سيده على الطعام، وقال أنس: كانت عامة وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: (الصلاة وما ملكت
أيمانكم) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي.
بل مضت سنة المصلح الأعظم العملية في السبايا أن يعتقن ويتزوج بهن
معتقوهن كما فعل صلى الله عليه وسلم بعتق صفية الإسرائيلية وتحرير جويرية
العربية وتزوجه بهما وجعلهما من أمهات المؤمنين ليستن به غيره، وتقدم ذكر ذلك
في أسباب تزوجه بهما.
وحث على ذلك ورغب فيه بقوله: (أيما رجل كانت عنده وليدة - وفي رواية
جارية - فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله
أجران) والحديث متفق عليه [*] ، وتقدم ذكره في تعليم النساء.
نعم إنه صلى الله عليه وسلم تسرى بمارية القبطية وهي من رقيق أهل الكتاب؛
لأنه أقر أهل الكتاب على أنكحتهم ورقيقهم، وقد اتخذ التسري بها ذريعة للوصية
بأهل مصر إذ تفتح بلادهم لأصحابه وعلل ذلك بأن لهم (ذمة ورحمًا) ولو عاش
إبراهيم ولده منها لكانت أمه به سيدة نساء هذه الأمة.
والحكمة العامة المقصودة من التسري في الإسلام هي حكمة الزوجية نفسها،
وحق النساء فيها أن يكون لكل امرأة كافل من الرجال لإحصانها من الفحش،
وجعلها أمًّا تنتج وتربي نسلاً للإنسانية، إلا ما يشذ من ذلك بأحكام الضرورة.
فليتأمل النساء والرجال من جميع الأمم والملل هذا الإصلاح الإسلامي والهدي
المحمدي في تكريم المرأة وحفظ شرفها حتى التي ابتليت بالرق هل يجدون مثل هذا
في دين من الأديان أو قانون من القوانين؟ وهل يمكن أن يوجد في بلد تقام به
شريعة الإسلام مواخير للفجور واتجار بأعراض الجنس اللطيف الضعيف؟
أرأيت أيها المحيط خبرًا بتاريخ الأمويين في الأندلس والعباسيين في الشرق لو
وجد الآن بلد في الدنيا تعيش فيه السراري كما كن يعشن في بغداد وقرطبة
وغرناطة، ألا تهاجر إليه ألوف الأيامى والبنات من أوربة ليكن سراري عند أمثال
أولئك المسلمين إن صح عندهم استرقاقهن؟ فكيف لا يتمنين أن يكن أزواجًا لهم مع
التعدد؟ ألا يفضلن هذه المعيشة على ما تعلمه من عيشة مواخير البغاء الجهرية
والسرية، ومن عيشة الأخدان المؤقتة السيئة العاقبة على الجسم بعد ذهاب الشرف
وجميع مزايا البشر؟ دع الاتجار بهن وسوقهن من قطر إلى آخر كقطعان الخنازير
والغنم.
هذا وإننا قبل طبع هذه الكراسة قرأنا في بعض الصحف أنه صدر حكم قضائي
نهائي في باريس بأنه يجوز للرجل أن يوصي بما شاء من تركته لمعشوقته التي
يستريح معها ويجد من عنايتها ما لا يجد من زوجته الشرعية، والشر يعقب الشر.
ألا فليتأمل النصارى في أحكام الرق في الإسلام، والرق في التوراة والإنجيل
وحينئذ يوقن العاقل المستقل الفكر منهم أن ما جاء به الإسلام أعدل وأفضل وأكمل،
فهو إما وحي مكمل لما قبله، وإما أن رأي محمد صلى الله عليه وسلم أعلى وأكمل
من وحيهم! !
ها هي ذي شريعة التوراة تبيح للعبراني أن يستعبد أخاه العبراني ويسترقه
بثلاثة أسباب (أحدها) الفقر، فكان يبيع نفسه ليوفي دينه [٧] (ثانيها) السرقة
فهو يُسْتَرَقُّ جزاء ما سرقه، إذا لم يجد مالاً يعوض به المسروق [٨] (ثالثها) بيع
الوالدين لبناتهم ممن يتسرون بهن [٩] ، وأما استعباد العبراني للأجنبي فقد كان يكون
بالأسر في الحرب وبالابتياع من النخاسين كما كان عند الوثنيين، وليس فيهما ما في
الإسلام من أحكام الرقيق وحقوقه والوصايا فيه، وقد ذكرنا بعضها هنا.
وها هي ذي الديانة المسيحية لم تنسخ شيئًا من أحكام هذا الرق والعبودية
الشديدة التي في العهد القديم، بل فيها أن المسيح عليه السلام قد أوصى العبيد في
مواضع شتى بطاعة ساداتهم، ولم يأمر السادة بعتقهم ولا أوصاهم بالرفق بهم بمثل
ما فعل أخوه محمد عليهما السلام، وتعليل ذلك عندنا أن شريعة موسى خاصة
بشعب نَسَبي أُريدَ تفضيله على أمم الوثنية لإظهار التوحيد، وهي مؤقتة كما يقول
النصارى معنا، وأما الإصلاح المسيحي فيها فهو مؤقت بقدر ما سمح به ذلك الزمن،
وإن هذه المسألة من جملة الأشياء الكثيرة التي قال المسيح عليه السلام إنه لا
يستطيع أن يقولها لهم لأنه سيأتي بعده البارقليط روح الحق [١٠] الذي يقول لهم كل
شيء (راجع إنجيل يوحنا) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))