وبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين لمحمد الرشيدي بك آل الحجازي من أركان الحرب سابقًا (في برلين)
(تمهيد) إن الألمان من أكثر الأمم تسامحًا في الدين أو من أقلها تعصبًا فيه على الأقل. ولكن تفريط المسلمين في تبليغ العالم الغربي حقائق العقائد والعواطف التي أودعها الدين الحنيف في صدور أهله، والآداب العالية والأحكام العادلة التي عامل البشر كافة، وأهل الكتاب خاصة وإفراط حشرات الشرق المؤذية (والأرمن أشدها عداوة وخبثًا في الكيد لمواطنيهم من أهل الإسلام) هذا الإفراط وذلك التفريط قضيا بأن يقع كل أجنبي ألمانيًّا كان أو غير ألماني في شَرَك عناكب السوء هذه التي تملأ صدره حقدًا واحتقارًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع سعيها طبعًا في ابتزاز مال ذلك الأجنبي. كنا نعلم ما يعلم كل شرقي عاشَر الأوربيين والأميريكيين من انتشار المعتقدات الغربية والتهم الباطلة بينهم في المسلمين وأنهم لا يعرفون عنهم سوى أنهم قوم عائشون على الفطرة ولا يدرون من أمور الحياة سوى التغذي بطعام سيئ يتناولونه بأصابعهم القذرة والارتواء بالماء والقهوة والتسلي بالتدخين والاستمتاع بالنساء بالتزوج منهن بغير حساب؛ لأنهن لسن إلا متاعًا للشهوة البهيمية، يشترين كما تُشْتَرَى الأنعام ويُلْفَظْنَ كما تُلْفَظُ النواة بغير مراعاة لحالتهن ولا لحقوقهن، وإن أطيب الطيبات عندهم سفك دماء المسيحيين. وكنا نعمل على قدر الاستطاعة في تفهيم الأمم التي نحتك بها أن الدين الإسلامي مثل سائر الأديان التي تأمر بالخير وتنهى عن الشر، وأنه أوصى بصفة خاصة بمراعاة أهل الكتاب وبمجاملة المسيحيين الذين وصفهم بأنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، ولم يأمر بمعاداتهم وبقتالهم إلا عند بغيهم وعدوانهم على المسلمين، وأن مركز المرأة في الإسلام أفضل وأكمل ضمانة لسعادتها وسعادة عائلتها من مركزها في أي أمة متمدينة من أمم أوربة وأميريكة، وأن تأخرها عن المرأة الأوربية أو الأميريكة في الرقي العلمي والاجتماعي لم يكن إلا نتيجة الأسباب التي أدت لتقهقر مدنية الرجال أنفسهم في الشرق، تلك الأسباب التاريخية والسياسية القديمة والحديثة التي لسوء نيات الأمم الأوروبية فيها عمل كبير، وأن المسلمين ليسوا أقل نشاطًا من غيرهم بل إنهم من أكبر الأمم استعدادًا لعظائم الأمور، كما تدل عليه آثارهم في العلوم والفنون والصناعات التي تدين بها الأمم الغربية لهم وأعمالهم في الظروف العصيبة الحاضرة. ولكن كانت دائرة عملنا ولا تزال ضيقة لقلة كفاءتنا العلمية الدينية في بسط شئون الدين الحنيف بسطًا وافيًا شافيًا، وقلة كفاية وسائلنا المادية لتوسيع نطاق هذا العمل العظيم. ولقد كنا نفكر دائمًا في اقتراح القيام بهذه المهمة الدقيقة الجسيمة على الاختصاصيين بالشئون الدينية، ولكننا كنا من جهة أخرى نظن أن الدولة العثمانية التي كان ولا يزال لها من الاستقلال والوسائل المادية والأدبية ما يُمَكِّنَها من هذا العمل الضروري للعالم الإسلامي عمومًا، ولها هي نفسها خصوصًا قد فكرت في الأمر وسعت في القيام به دفعًا لتطاول الأعداء على الدين وعليها؛ إلا أن قضية مقتل طلعت باشا وأسبابها ونتائجها وما رأيناه في أثنائها وبعدها، دلتنا على أن هذه الدولة الإسلامية الكبيرة لم تفكر إلى الآن في هذا الواجب. نعم بينت لنا هذه القضية الحالة النفسية لدى القضاة والمحامين وغيرهم من الموظفين ولدى الشعب الذي عَدَّ تبرئة ذلك المجرم الأرمني عملاً منطبقًا على العدالة تمام الانطباق.... وإن لم يقم القضاء بكل الواجبات التي توجبها النزاهة والعدالة ولم يستمع لآراء نظارة الخارجية، وبينت لنا نتائج إهمال المسلمين وتفريطهم في الدفاع عن دينهم وأنفسهم إزاء المكايد والمهاجمات التي تتوالى عليهم منذ زمن طويل. ولقد استدعى التفاتنا الخاص شهادة الزور التي افتراها (القسيس) المدعو بالدكتور ليسيوس تلك الشهادة التي حوت من الأكاذيب والغل والضغينة ما يتنزه عنه القسيسون الحقيقيون الذين أخلصوا الحب والطاعة للمسيح الكريم، بل ما ينفر منه أدنى صعاليك الوثنيين إن كان عنده ضمير. ولم يكن ليسيوس هذا من أولئك الأشخاص الذين يوجدون - ويا للأسف - في كل طائفة دينية، أي من المتعصبين تعصبًا أعمى عن جهل وغباوة، بل هو (مدير) البعثة الألمانية الدينية الشرقية التي يرأسها الجراف (الكونت) فون برنستورف مصدر النشرة المدعوة بالشرق المسيحي، هذه النشرة المُعْتَنَى بها أتم اعتناء، فهو ذو مكانة عند طائفة من المسيحيين يظنون أنه من أصدق خدام المسيح. إن الكذب الصراح والاختلاق المحض اللذين ظهرا لنا في شهادة ذلك الشخص المنتحل للدين وجدّه وكدّه في السعي لتبرئة ذلك المجرم، أمور جعلتنا نعتقد اعتقادًا قويًّا أنه ممن اشترتهم إنكلترة والجمعية الأرمنية [١] وأنه من أشد الأعداء للدين المسيحي نفسه، ومُحَال أن يستفيد دين بأمثال هؤلاء الناس الفاسدي الضمير، ولقد بحثنا في الأمر بعد أن ضاعت مساعينا لدى وزارة الخارجية التي أخفقت هي نفسها في الاعتراض على ذلك القضاء المخطئ ولدى إدارة الأمن العام لنحصل على أكثر ما يمكن من المعلومات التي يتقى بها ضرر هؤلاء المشركين بالله والمضرين بالناس، فوفقنا إلى الحصول على أشياء منها مجموعة كاملة للسنة الأولى من (مجلة الشرق المسيحي) عن سنة (١٩٠٠) هذه المجلة التي تصدرها تلك البعثة الدينية (! !) التي تدل على أنه كان لتلك البعثة في سنة ١٩٠٠ ستة مراكز عمل في بلاد الدولة العثمانية، واثنان في بلاد فارس واثنان في بلغارية. وتدور أعمال هذه المراكز على المحور الذي تبينه جليًّا مقالة الأرمني (أبراهام أميرشانيانس) في تلك المجموعة - تلك المقالة المُعَنْوَنَة بـ (واجبات البعثة المحمدية ومهماتها) كما أن المجموعة كلها تدل على مقدار دناءة الوسائل التي تتخذها البعثة الرئيسية التي يديرها ذلك القسيس (ليسيوس) . ولنقتبس لكم أجزاء من تلك المقالة التي ملأت أربع صفحات كبيرة من صحف تلك المجموعة؛ لتروا صورة وصفهم للدين الإسلامي وعملهم لإزالته من الوجود: قال (أبراهام أميرشانيانس) المذكور، فيما سطره: (إن الإسلام من أشأم ما ظهر في تاريخ الإنسانية. وهو خليط من الصدق والكذب، فهو لذلك أشد خطرًا من الوثنية. وإن الدين المسلط على مائتي مليون رأس ليس من السهل التغلب عليه. فيجب تحضير خطة دقيقة تكون كأحكم الخطط الحربية وضعًا لمهاجمته وإنفاذ هذه المهاجمة بأنجع وسائل التعبئة) . وبعد أن أوصى بضرورة مراعاة اختلاف أنواع المسلمين من أهل بلاد إسلامية مستقلة، وأهل بلاد تابعة لدولة مسيحية في أوربة أو في المستعمرات، لاتخاذ أحسن الطرق في إنفاذ تلك المهاجمات لمن تعرض للمحمديين الذين ينتحلون الدين المسيحي للأخطار الناشئة عن صرامة عقاب الحكومات الإسلامية لهم، وعن شدة تعصب أبناء جنسهم لهم، قال: إنه لا ينصح بالكف عن العمل لتنصير المسلمين في البلاد الإسلامية المستقلة، بل يوصي بالحذر واتخاذ الوسائل لإنقاذ من يؤتى بهم إلى المسيحية. وقد وضح الطرق التي تستعمل في الديار التابعة للحكومات المسيحية للوصول إلى هذا العرض، وهي: تبشير مباشر في الكنائس وفي الدور وفي مدارس تربية البنين والبنات الابتدائية والعالية - وهذا أهم الوسائل عنده - واستخدام الجرائد والنشرات للحملة على الإسلام والترغيب في المسيحية، والاستعانة بالمبشرين والمعلمين والمعلمات والمربين والمربيات، وكذا بالباعة المتجولين وبالعمال. وقد استنتج (إبراهام إيميرشانيانس) هذا من انتحال بعض مسلمي البلغار والصرب الدين المسيحي أن الدين الإسلامي لا ثبات له، وأن قلة ثباته هذه برهان على أنه ليس دين حق أو كما يقول: (لا يمكن أن يكون دين حق) . وبعد أن قال: (إن الإسلام بدون سيف يؤيده شيء لا يعتد به) [٢] وصف المسلمين الذين انفصلوا عن الدولة العثمانية والذين في المستعمرات المغلوبة على أمرها فشبههم بسمك تركه الجَزْر على الأرض اليابسة يفتح فاه ويطبقه لعدم إمكان بقائه حيًّا في غير العنصر الذي يعيش فيه [٣] . وصاح: (ما أبرك الوقت وأسعد الفرصة السانحة لتلقين هؤلاء المسلمين حقائق يسوع المسيح!) . ثم نصح لجميع البعثات المسيحية بتوحيد مساعيها في العمل لتكون كوحدات جيش واحد يهاجم الإسلام متبعًا خطة واحدة، وبعد أن دل على مواضع ضعف الإسلام في جنوب آسية والصين وغيرها من الأصْقَاع التي لم يرتق فيها العلم والفهم، حض على العمل فيها ونشر مؤلفات (إيلمنسكي) و (مالوف) و (أو مالوو) و (سايلولوف) و (أوسابلوكوو) و (ماشانوف) على مسلمي القوقاس وعرض برنامجه الذي نختار منه هذه الفقرات: ١- احتلال البعثات الدينية للديار الإسلامية المستقلة والمغلوبة احتلالاً منظمًا، وعملها متحدة عملاً منظمًا. ٢- تأسيس مدارس لأبناء مسيحيي الأهالي أو المسلمين الذين انتحلوا الدين المسيحي يتخرجون فيها لخدمة عمل البعثات، وذكر أن من هذه المدارس ما يوجد في الإسكندرية وفي قسطنطينة في الجزائر وفي قازان. ٣ - إلقاء محاضرات في أماكن هذه البعثات آنًا بعد آن. ٤ - نشر الكتب المؤلفة لتنوير المسلمين الذين لا يعرفون عن الدين المسيحي إلا أمورًا (معكوسة) وكتبًا للعائلات وجرائد، وغير ذلك من وسائل نشر الدعوة. وكتب المجادلة كتلك الكتب (الجليلة) التي ألفها المولوي عماد الدين في الهند. ٥ - نشر مثل هذه الكتب على الأهالي المسيحيين ونشر انتقاد لحياة (محمد) وقد كان المؤلفون المسيحيون يستقون بعض أخبار هذه الحياة من الكتب الكاذبة التي يؤلفها المصنفون المسلمون عن حياة نبيهم ... كما أنه تجب ترجمة كتاب (ريجوزي) أو (ريكوزي) أو (ربغوزي) إلى اللغات الأوربية لإظهار فساد معتقدات المسلمين في الله وفي الآخرة.... ٦ - إصدار نشرة دورية عامة للبعثات الدينية.... ومن غرائب أفكاره في الموضوع قوله: (إن طريق بغداد الحديدية ستزعزع الإسلام من أساسه) (! ! !) . و (إذا كان الروس يمدون خطًّا حديديًّا من باكو إلى البوسفور فإن ذلك يقضي على الإسلام قضاء مُبْرَمًا (؟ ؟ ؟) . و (إن الدين الإسلامي قائم على السيف، فإذا أصابت هذا السيف فلول، فلن يعود تركي ولا إيراني ولا تتري يؤمن بهذا الدين!) وقد ذكر بعد ذلك تأسيسهم لقاعدة عمل عظيمة الأهمية في بلغارية وهي القاعدة التي يسعى فيها لتنصير مسلمي بلغارية ووقاية المسلمين الذين يعتنقون الدين المسيحي في تركية أو في بلاد إيران من فتك أبناء جنسهم بهم. وهاك نبأ من سيرة (إبراهام إيميرشانيانس، أو إيميرشانيانز) فإن في هذه القصة مواعظ وعبرًا: إبراهام هذا هو ابن قروي أرمني من القوقاز يدعى (ميرزا فاروخ) (أو فروخ؟) كان اختطفه بعض الفارسيين من اللصوص المتاجرين بالرقيق، فوصل إلى سري إيراني يدعى أمير، كان سردار فأوصى ابنته بتربية الطفل كما فعل فرعون مصر مع موسى مع بُعْدِ الشبه بين الطفلين والتربيتين فرُبِّيَ تربية إسلامية، وعُلِّمَ تعليمًا إسلاميًّا إلى أن صار ميرزا (فقيهًا؟) وكاتب سر لسيده الذي كان قائد في جيش بلاده. واستصحب القائد كاتبه فروخ في محاربته للروس فقتل هذا القائد فيها، وفي أثناء عودة فاروخ (أو فروخ) هذا التقى بأقارب له فارتد إلى دينهم وخرج هاربًا من فارس.... . إلى شوشة قريته في القوقاس. وهناك تعرف إلى الدكتور بفندر السويسري المبشر وغيره وتقلد المذهب البروتستانتي؛ وإذ كان يعرف الفارسية والتركية والعربية وتعلم الأرمنية والروسية، استخدمته الحكومة الروسية معلمًا، وتمكن من ترجمة (العهد الجديد) إلى تركية القوقاس وعلم ابنه إبراهام هذا اللغتين الفارسية والتركية وأسلمه إلى الدكتور تسارمبا فأرسله أولاً إلى ريفال ثم إلى سويسرة ليتمم علومه في مدرسة (المبشرين) ببازل (بال) ولما منعت الحكومة الروسية عودته إلى وطنه أرسله المبشرون السويسريون إلى القسطنطينية. وهنالك بقى مدة عشر سنوات بوظيفة قسيس لطائفة الأرمن مشتغلاً مع المبشرين السويسريين ثم استخدمه (كاتوليكوس) الأرمن لإدارة المدرسة الدينية فبقى فيها ثلاث سنين. وبعد أن تجول في بلاد فارس سكن في تفليس وترجم كتبًا دينية ينشرونها هناك. ولما اشتغل بالوعظ غضب عليه رئيس المجلس وأقر نفيه فقبض عليه وسيق مع عائلته وأولاده السبع إلى المنفى.... . وبعد أن فقد ابنيه توسط أحد الأمراء له في تخفيف العقاب وذهب إلى هلسنجفورس ومنها إلى وارنه في بلغارية واتخذ بعد ذلك تنصير المسلمين حرفة له. ومن يستطيع أن يثبت لنا أن هرب أبيه من فارس بعد موت ذلك القائد الذي رباه ليس له علاقة بمقتل ذلك القائد؟ أي من ذا الذي يمكنه أن يبرهن لنا على أن أباه لم يقتل مربيه غيلةً وغدرًا؛ ليتمكن بما سلبه منه من العودة إلى موطنه؟ إن كان فروخ هذا نقي اليد مرتاح الضمير، فلماذا هذا الهرب وهذا الفرار؟ ومن أين أتته النقود التي مكنته من الوصول السريع إلى بلاد القفقاس؟ إن هناك مسائل يجب أن يفكر فيها أولئك الذين يظنون أنهم يستطيعون أن يتبنوا ويربوا مثل هذه الأطفال المختطفة والمسروقة التي ينمو معها الحقد والضغينة كلما نمت قواها الفكرية والجسدية ولا تستخدم ما أمدها به الإحسان إلا في الإساءة! لو كان ذلك القائد الفارسي فكر في هذا الأمر لما فعل ذلك الخير الذي لم ينتح إلا شرًّا، وهل يحترم الذئب إذا كبر شاة غُذِّيَ بِدَرِّهَا؟ ولو كان ذلك القائد ألزم أولئك اللصوص بإرجاع ذلك الطفل لأهله؛ ليتربى فيهم ويأخذ لغتهم ودينهم ويعيش معهم ويموت فيهم - لما مكن ذلك الثعبان وابنه إبراهام من جمع كل هذا السم الذي كان هو أول ضحاياه. ومن هذا القبيل شخص اسمه: (يوهانس اويتارانيان) تصوره تلك المجلة بملابس شيخ كردي تارة، وبملابس أوربية تارة أخرى، وهو يدعو المسيحيين للتعاون على تنصير المسلمين، ويدَّعِي أنه من المسلمين الذين هداهم الله إلى النصرانية، ويقص في المجلة تاريخه وما جرى لغيره من المسلمين المتنصرين. ومن هؤلاء رجل اسمه (ميرزا إبراهيم) قبض الناس عليه في خيوى وسجنوه، وقتلوه؛ لأنه بعد أن تنصر أخذ يضايق الناس بسعيه في حملهم على ترك دينهم. ولكن لنترك إبراهام وأباه، ومن هم على شاكلته، وكثير ما هم ولننظر ما يصنعون وما يتبعون من الخطط. ليس من العجيب أن تكون تلك المجموعة السنوية مجموعة طعن في الدين الإسلامي وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم يقبلوا المسيحية طوعًا أو كرهًا، ولا فائدة من تحصيل الحاصل بترجمة تلك الصحائف الكثيرة المشتملة على شتائم يبرأ المسيح عليه السلام منها ومن قائلها، وكفى بما أتينا به برهانًا على نياتهم وموضحًا لخططهم وطرقهم. ولكن نلاحظ أن (القسيس) ليسيوس عند كلامه عن حائط العبرات أو الدموع في القدس وهو الحائط الذي يبكي عنده اليهود منذ عشرين قرنًا زوال ملكهم وتخريب هيكلهم - يَسْتَدْرِج نفسه وقارئه إلى اعتقاد أن (المسيحية أعطاها الشرق إلى الغرب، وسيعطيها الغرب للشرق) أي أنه لم يفكر في الخطر الصهيوني بل حصر همه في العمل ضد الدين الإسلامي! نحن لا نستنكر أن يحاول المسيحيون تنصير المسلمين، ولا أن يروم المسلمون إسلام المسيحيين بالتي هي أحسن إذا استطاعوا أو لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً؛ لأننا نعتقد أن النفس البشرية تجد منها لها حاثًّا ودافعًا إلى إفادة غيرها ما تعتقد صلاحه ونفعه، ولذلك لا ننقم على مسيحيٍّ يريد ويسعى في أن يجعل المسلمين نصارى بالطرق التي تقبلها الحكمة والآداب، ولكننا نعد اتخاذ المطاعن البذيئة وطرق الغش والكذب وسائل لهذه الغاية وجريمة لا يغفرها الله، ولا يرضي عنها المسيح ولا يقبلها ذو نفس شريفة تكره الكذب والتزوير في المعاملات العادية عمومًا، والشؤون الدينية خصوصًا. ولقد كان تَرَفُّعُ المسلمين عن النظر إلى تلك الدنايا، وعدم اهتمام الحكومات الإسلامية والعلماء والمفكرين من المسلمين بمراقبة ما تدبره هذه الجمعيات من المكايد الخسيسة، لسببين - ولأمر أعظم ضررًا من تنصير بعض المسلمين ممن لا يعرفون من أمور دينهم شيئًا. فإن النجاح الذي أدركه (المبشرون) في مشارق الأرض ومغاربها منذ عشرات، بل مئات من السنين في تنصير المسلمين أقل من أن يذكر. ذلك الأمر العظيم الضرر هو إلقاء عداوة المسلمين واحتقارهم في نفوس الأمم الأوربية والأمريكية. وهو ما جعل تلك الأمم ترتاح لوقوع الأمم الإسلامية في شِرَاك الدول الاستعمارية، وصيَّرَها لا تتأثر إذا اقترف أمثال البلغار والصرب واليونان والإفرنسيين والإنكليز في الديار الإسلامية فظائع كانت أوربة وأميريكة لا تغتفرانها لو اقترفها هؤلاء في بلاد أمم مسيحية. نعم إن الحق لا يعدم نصيرًا. ولقد رأينا في السنين الأخيرة ما يثبت ذلك من تغير الآراء في ألمانية نحو المسلمين بتأثير الكتب والمقالات التي كتبها القواد والضباط والجنود والموظفون والعلماء الألمان ذاكرين فيها ما لاحظوه وما شاهدوه وما اختبروه من أحوال المسلمين في أثناء الحرب العالمية. ولكن ذلك لا يكفي في إيضاح الحقائق عن الدين الإسلامي وأهله، فإن دعاة السوء لا يزالون مستمرين في العالم كله على وصف هذا الدين وأهله بأشنع الأوصاف وحمل العالم المسيحي والوثني على اعتقاد أن كل اعتداء على الشعوب الإسلامية عمل خيري، وأن كل نقمة تحل بالمسلمين نعمة للمسيحيين وغيرهم. ولذلك نرى أن من الواجب على الدول الإسلامية التي بقيت محافظة على استقلالها أن تنظم وسائل الدفاع عن دينها وسمعة أممها في العالم. وعلى الكتاب المسلمين أن يجِدّوا في إفهام العالم الحقائق التي يحاول أولئك المجرمون طمسها. ويسمح لنا حضرات علماء الأزهر والزيتونة والفاتح وغيرهم أن نقول: إن أولئك المعتدين على دينهم وكرامة أمتهم يتعلمون اللغات العربية والتركية والفارسية والهندية تعلمًا جيدًا؛ ليتطاولوا على الإسلام والمسلمين، فلماذا يمتنع علماؤنا من تعلم اللغات الإنكليزية والإفرنسية والألمانية وغيرها؛ ليدفعوا تلك الأراجيف والأكاذيب ويظهروا للأمم فضائل هذا الذين التي تفوق جميع فضائل الأديان الموجودة في العالم؟ إن العلماء بتمكنهم من دقائق هذا الدين ومعرفة أموره التي لا تصل إليها مدارك غيرهم هم أحق الناس بالقيام بهذا الواجب الذي نسعى نحن الذين تنقصنا الوسائل الكثيرة إلى تأديته! وعسى أن يسمع صوتنا، فنرى حضرات الكتاب والمفكرين عمومًا والعلماء خصوصًا قد اهتموا بالأمر واشتغلوا بإنفاذه بكل ما أوتوا من نشاط وهمة وكفاءة، ونجد وفود علماء الإسلام تتجول في أوربة وأميريكة؛ لتنير للشعوب الغربية تلك الظلمات وتهتك تلك الحُجُب التي نسج برودها أولئك الأفاكون المختلقون الذين نعتقد أن المسيح عليه السلام يبرأ مما صنعوا ويصنعون باسمه الكريم! (المنار) سواء وصل صوتك أو لم يصل {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (الروم: ٥٢) وقد ارتفع قبل صوتك الشريف أصوات أفراد آخرين رأوا شيئًا مما رأيت وشيئًا مما لم تره، ولكن الإسلام ليس له دولة تسمع وتبصر، وتعقل وتشعر فتعمل، وأكثر حملة العمائم موتى القلوب كُمْه البصائر، مظلمو العقول، لا يهمهم من الحياة إلا أمر معاشهم ولو بالذل والمسكنة، وإن ما فسد في بضع قرون لا يصلح في بضع سنين. وإنا قضينا أكثر من ربع قرن ونحن ندافع عن الإسلام ونُفَنِّدُ ما يفتريه عليه دعاة النصرانية ودعاة الإلحاد ولم نجد لنا وليًّا ولا نصيرًا من أمراء المسلمين وملوكهم، ولا من منتحلي الرياسة الدينية وعلماء الرسوم منهم، بل وجدنا من إيذائهم وسعايتهم أضعاف ما وجدنا من إيذاء المبشرين وحماتهم الذين منعوا المنار أن يدخل السودان المصري بسعاية هؤلاء المبشرين، ودعونا حكومة الخلافة العثمانية في الآستانة إلى تأسيس جمعية للدعوة والإرشاد ومدرسة لتخريج الدعاة والمرشدين فارتعدت فرائص رجال الحكومة الاتحادية من كلمة الدعوة، ثم أبوا تنفيذ الاقتراح حتى بعد تغيير الاسم، فأسسنا الجمعية وافتتحنا المدرسة في مصر، ونالت من الأوقاف العامة والخاصة إعانة قبل الحرب، برعاية عزيز البلاد في ذلك الوقت. ولم تلبث أن قطعت بعدها بإيعاز بريطاني في أوائل عهدها، ووعدنا السلطان حسين ورؤساء أكثر الوزراء بإعادتها، ولم ينجز لها أحد وعدًا، ولا رعى للإسلام عهدًا. ومن ذلك أن رشدي باشا في عهد وزارته أخبرنا أنه عرض أمرها على الملك فؤاد فارتاح إلى مساعدتها، وأنه مهَّدَ لنا السبيل لديه، لعرض الأمر عليه ... ولكن حال بعض رجال القصر دون ذلك.... ولكن نحمد الله تعالى أن دعوة الإصلاح تمتد، ولو ببطء، فعسى أن تزول الغصة قبل فوات الفرصة.