يذكر قراء (الأفكار) ما عرّبناه من مدة من تلغراف الإمبراطور غليوم إلى القيصر نقولا، إذ قال له يومئذ: إنه موصى - على فراش موت جده - بالمحافظة على صداقة روسيا. وقد قرأنا مؤخرًا تلك الوصية المشهورة التي أوصى بها الإمبراطور غليوم الأول حفيده إمبراطور ألمانيا الحالي في الساعات الأخيرة من حياته، إذ استدعاه، وزوده بنصائحه، ووصاياه، وما يفرض عليه عمله، والسياسة التي يجب عليه اتِّباعُها إذا تبوأ العرش، وهذا ملخص نص الوصية: إذا كتب لك الحق - سبحانه وتعالى - أن تملك على عرش أجدادك القياصرة فاعتنق الحق والعدل، وبثهما في الرعية، واعتن بالجيش مزيد العناية، واجهد في اكتساب ميل العامة، وحب الشعب الألماني بأسره، واسْعَ في تقرير السلام العسكري والسياسي في داخل المملكة وخارجها، مع مراعاة قوانينها، وشرائعها، وساعد الضعيف، وأعضد العاجز، وساو كليهما بالقوي، حتى لا يكون امتياز ولا حيف، و (حتى) تكون حرية مطلقة في جميع الأديان والمذاهب، تودد إلى الأمم الغربية على إخلاف نزعاتها، وحافظ على اتحاد أوستريا والمجر حليفة جرمانيا الأمينة؛ لأن في هذا الاتحاد موازنة للسياسة الأوربية، ورابطًا بين الدولتين من قديم التاريخ، ولا تحرم البلاد من فوائد السلم وثماره الطيبة المذاق، إذا لم تكن الحرب أمرًا واجبًا فيما لو تعدت على ألمانيا دولة ورامت مهاجمتها أو مهاجمة حليفتها، ولا تستخدم قوة ألمانيا لإثارة حرب عدائية تكون أنت البادئ فيها؛ فإن ألمانيا ليست في حاجة إلى مجد عسكري جديد، ولا إلى افتتاح حديث، حاذر الحرب قدر استطاعتك وإياك، ودولة الشمال، ثابر على اتِّباع خطة المودة الوطيدة نحو قيصر روسيا إسكندر الثالث، ودع ألمانيا أن تسير على خطة السلام والوفاق الحبي مع روسيا، وابذل كل نفيس في سبيل مرضاتها، واستمالة ودها إليك، وأيد الصلات السلمية التي كانت لنا في مدة المائة سنة الماضية في مملكة روسيا جارتنا، فهذه كانت حاساتي (؟) الشخصية التي تنطبق على مصالح ألمانيا) . انتهى هذا بعض ما وقفنا عليه من وصايا الإمبراطور غليوم الأول إلى حفيده الإمبراطور غليوم الثاني، الذي بذل جهده في اتِّباع وتحقيق أماني جده من توثيق عرى الصلات مع جاراته، والممالك المتحالفة معه، حتى تبقى العلائق الودية على سابق حالها غير واهية ولا منفصمة. وقد عرف العالم أجمع ما كان لروسيا من الشأن المهم في حربي عام ١٨٦٦ مع النمسا، وعام ١٨٧٠ مع فرنسا، والخدمة الجليلة التي قام بها إسكندر الثاني قيصر روسيا في تسهيل الوحدة الألمانية، وقد عرف ذلك غليوم الأول، كما عرفه وزيره البرنس بسمارك، ولهذا أوصى حفيده غليوم الثاني بتحسين صلاته مع روسيا، ولا يزال العالم يذكر تلغراف غليوم الأول إلى القيصر إسكندر الثاني سنة ١٨٧٠، إذ قال له (أعترف بأن جل الفضل في فوزي ونجاحي عائد إليك) فضلاً عما كان من أعمال بسمارك في حياة غليوم الأول وفردريك الثالث في تسهيل التقرب إلى روسيا بالرغم من التحالف الثلاثي، ومن مبادئ أوستريا وسياستها البلقانية. وقد كان بسمارك لا يطيب له عيش إلا يوم يأمن نفوذ روسيا، والإمبراطور غليوم الثاني ذاته - بعد قبضه على صولجان الإمبراطورية - زار القيصر الروسي قبل أن يزور حليفتيه النمسا وإيطاليا، كما زار جده غليوم الأول قيصر روسيا يوم تبوأ عرش أجداده، وعمل على تأييد التحالف الشمالي، واهتم في زيادة التقرب من روسيا لتحسين صلات الدولتين، إذ لم يشأ أن يبتعد عنها لما بين الأسرتين المالكتين في روسيا وألمانيا من صلة القربى، فضلاً عن ضرورة الاحترام للوصية السابقة الذكر. ولكن دلكاسه الداهية وزير خارجية فرنسا حالاً مشهور بعدواته لألمانيا، فعين منذ سنة ونصف سفيرًا لدولته في بطرسبرج، واستطاع بدهائه الغريب أن يُفْهِم روسيا أن النمسا ليست بالعدوة الرهيبة لو لم تكن تعضدها ألمانيا، وأن خير طريقة لكسر شوكة النمسا هي إضعاف ألمانيا وساعدته الظروف، والحنكة السياسية، فأبان لروسيا مطامع ألمانيا، وما صنعته مع روسيا في معاهدة برلين وغيرها، وقد نجح دلكاسه في سياسته نجاحًا باهرًا، إذ أضاف إلى الحقد الكامن في قلوب الشعب حقد الحكومة الروسية، فتراخت العلائق بين الحكومتين، وسعى القيصر للتملص من ربقة نفوذ إمبراطور ألمانيا عليه، وخصصت حكومته عشرة مليارات ليرة لنظارة الحربية لسنة ١٩١٣، واشترت بتسعة وعشرين مليونًا من الليرات أوتوموبيلات حربية وأضافت عددًا عظيمًا إلى جيشها الهائل، وجعلت الخدمة العسكرية في بعض الفرق أربع سنوات، وأرادت تغيير المعاهدة التجارية بينها وبين ألمانيا، وضربت رسمًا باهظًا على القمح الوارد من ألمانيا إلى فنلندا، وأطلقت سراح الصحافة؛ فأثارت على حكومة برلين عواطف السلافيين، ومكنت الحقد بين الشعبين، وكان المسيو دلكاسه العامل في كل ذلك الذي وصل إلى هذه النتيجة. وكانت الأمة الروسية قد رأت خيلاء الأمة الألمانية؛ فهالها أمرها لاسيما وهي تنظر إليها نظرة جار يود ضرر الآخر، تجارة، وصناعة، وسياسة. أضف إليه الحقد المتولد في قلوب السلافيين ضد الجرمانيين، وتصرف بسمارك نحو روسيا في معاهدة برلين كما قلنا بعد أن كان حليفها سنة ١٨٧٨، وقلما ترى الآن في روسيا من يحب ألمانيا، حتى من أولئك الذين يجري في عروقهم الدم الألماني أو النمساوي كالبولونيين في بوزين، وفرسوفيا والتشك في برات، والصرب والكروات في إغرام وبلغراد، حتى في طيات قلوب البلغاريين في صوفيا، وهذا الحق المنفجر في جميع جوارح السلافيين أرغم حكومة بطرسبرج على الانتصار للصربيين، وشهر الحرب على النمسا، وقد أرادت حكومة القيصر أولاً أن تتخذ من السلافيين حقدهم لرشق نباله في صدور النمساويين فقط، وذلك لأن ألمانيا قد لعبت دورًا مهما في بلاط روسيا لوجود عدد عظيم من الدوقات الألمانيات في القصر الإمبراطوري - كماريا بافلوفنا قرينة الغراندوق فالديمير وإليزابت فيودوروفنا شقيقة القيصر، ورئيسة دير كبير الراهبات، ودوقيات أولدنبرغ وليستنبرغ، والإمبراطورة ألكسندرا - وعدد عظيم من القواد، والضباط، وولاة الأمور الألمانيي الأصل الذين يشتغلون بجميع قواهم لزيادة متانة العلاقات بين روسيا وألمانيا، عدا عن العلائق الوطيدة الشخصية بين القيصر والإمبراطور، ولأن حربًا عوانًا تقع بين ألمانيا وروسيا لا تفيد الثانية كثيرًا. أما حقد حكومة القيصر على النمسا فكان ولا يزال هائلاً جدًّا؛ لأن فيها إلا أقل من ١٦ مليونًا من السلافيين تابعين لخمسة عشر مليونًا من الجرمانيين، لذلك ليس من الصعب على حكومة بطرسبورج الضرب على وتر نصرتهم الجنسية، فضلاً عن أن النمسا ما زالت تعرقل سياسة روسيا في البلقان، وكانت الحرب بينها بين روسيا أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. اهـ.