للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد

] قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [[١] .
سبحان الذي يُغيّر ولا يتغير، ولا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم،
سبحانه مِن حَكَمْ عَدْلٍ، يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، قد أنقذ أهل حرمه،
وحرم رسوله من ذلك (المنقذ) الجبار، والمرائي الختار، ومن سلالته المخاتلين،
وجعل العاقبة للمتقين.
وردت أنباء الحجاز في الشهر الماضي بأن أهله قد نصَّبوا السلطان عبد
العزيز آل سعود ملكًا عليهم، وكنا كالجمهور نتوقع من رويته تأخير القطع في شأن
حكومة الحجاز إلى أن ينعقد المؤتمر الإسلامي الذي دعا إلى عقده في مكة أو يظهر
اليأس منه، ثم علمنا من الأنباء الرسمية وغير الرسمية التي وصلت إلى مصر أن
أهل الرأي في مكة وجدة أحبوا أن يكون أمر تعيين الحاكم العام في بلادهم لهم دون
غيرهم من أهل الأقطار الإسلامية، الذين لا يعنيهم من أمر الحجاز إلا النظام الذي
يحفظ به الأمن والعدل في البلاد، وتسهيل سبل المناسك والزيارة في الحرمين
الشريفين، وهو ما يجب أن ينظر فيه المؤتمر أولاً، ويليه ما يحب أهل الفضل
والغيرة من المسلمين أن يخدموا به الحجاز من نشر العلم ووسائل العمران، ولذلك
ألحَّ هؤلاء على السلطان بأن يقبل مبايعتهم له، واحتجوا عليه بما صرَّح به مرارًا
من جعل تقرير مصيرهم واختيار حاكمهم لهم - فتمنع وطلب إرجاء ذلك، فعلم به
زعماء النجديين وأهل الحَل والعقد فيهم من العلماء والقواد فجاؤوه وأقاموا عليه
الحجة بوجوب قبول مبايعة أهل الحجاز له؛ لئلا يذهب جهادهم في تطهير الحجاز
من رجس الظلم والإلحاد عبثًا، بل أنذروه عاقبة الامتناع بحديث (لا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق) رواه الإمام أحمد وغيره بهذا اللفظ وورد بلفظ آخر
في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن - فلم يسعه إلا الإجابة؛ لأنه ليس بالمستبد
دونهم كالطواغيت الذين أدال الله له منهم.
وإننا ننشر أهم الوثائق الرسمية والتاريخية في ذلك نقلاً عن العدد ٥٥ من
(أم القرى) المكية، الذي صدر بمكة المكرمة في ٣٠ جمادى الآخرة سنة ١٣٤٤
الموافق ١٥ يناير سنة ١٩٢٦، كما نشرنا مثلها في مبايعة الملك حسين بالملك ثم
بالخلافة، مع العلم بأن هذه البيعة اختيارية كان يرى المبايَع تأجيلها، وتلك إجبارية
كان تقرر في السر، ولم يكن أحد يشك في قتل من يمتنع عنها.
***
صورة البيعة الآتية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبايعك يا عظمة
السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على
الحجاز، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة
رضوان الله عليهم، والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله، وأن يكون
الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة
المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه تحت رعاية الله ثم رعايتكم.
وقد رفعوا مع كتاب البيعة الكتاب الآتي:
***
كتاب كبراء مكة للسلطان
حضرة صاحب العظمة السلطانية أيده الله تعالى
المعروض إلى عظمة السلطان الموفق المُعان أنه قد اجتمع الداعون الموقِّعون
أدناه من أهل الحَل والعقد بمكة المكرمة، وتذاكروا في الأمر وقابلوا بارتياح كل ما
جرى بين عظمتكم وبين الهيئة المتمثلة في مجلسكم العالي صباح أمس من خيرة
الأهلين، وبمناسبة اهتمامهم بذلك، ومزيد بشرهم به سارعوا جميعًا إلى تقرير عقد
البيعة على المنوال المسطور أعلاه، راجين أن ينزل ذلك من رغبات عظمتكم
منزلة القبول، وأن تتفضلوا بتتويجه بالإشارة السلطانية؛ ليكمل لهم مقصدهم الوحيد
بحصول رضائكم العظيم، مسترحمين الإنعام بتعيين وقت عقد البيعة عند البيت
العظيم، والله يديم بالتوفيق أيام دولتكم.
١٩ جمادى الثانية سنة ١٣٤٤
عبد القادر الشيبي، حسن عدنان، محمد المرزوقي أبو حسين، محمد سعيد
أبو الخير، عبد اللطيف عالم، محمد شرف رضا، محمد علي كتبي، حسين بن
عبد الله العطاس، عباس عبد العزيز المالكي، عبد الرحمن الزواوي، محمد
صالح قطب، عبد العزيز ريس، عمر جان، أحمد مفتي، عبد الرحمن بشناق،
صالح شطا، بكري قزاز، عبد الله حموده، عبد الله أحمد زواوي، عمر علي
بوقري، محمد عرابي، سجيني عايش ريس، محمد نور عقيلي، عيدروس
بن عقيل السقاف، عمر أحمد فقيه، محمد فقيه، محمد نور فطاني، صدقة
عبد الجبار، عبد الله باسلامة، أحمد أمين سراج، محمود شلهوب، عبد الرحمن
محمد ياسين , محمد علي خوقير.
***
توقيع السلطان على صورة البيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى إخواننا الموقعين
أسماءهم سلام عليكم - وبعد فقد أجبناكم إلى ما طلبتم، ونسأله سبحانه وتعالى
المعونة والتوفيق للجميع.
في ١٢ جمادى الثانية سنة ١٣٤٤
... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم الكريم
***
حفلة البيعة
بعد أن أدى الناس صلاة الجمعة يوم ٢٥ جمادى الثانية هرعوا إلى مكان الحفل
عند باب الصفا من المسجد الحرام، حيث فرشت الطنافس، وأُعدَّ مجلس خاص
لعظمة لسلطان، وأقيم منبر أمام مجلسه لخطيب البيعة، ولم تأزف الساعة السابعة
والثلث حتى أقبل الموكب السلطاني المهيب، وأخذ عظمة السلطان مكانه فنادى
المنادي {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: ٥٦) ثم اعتلى المنبر الشيخ عبد الملك مرداد
الخطيب وتلى الخطاب الآتي: (أحمد رب هذا البيت المعظم، وأشكر الله على ما
أنعم به علينا وتكرم، سبحانه وتعالى مَنَّ علينا بنعم لا تُحصى، ومنن لا تُستقصى
أبدل خوفنا بالأمن العام، وأمرنا بالتآلف والتعاضد والوئام، فأحمده جل وعلا حمد
عبد يعرف مقدار نعمته، وأشكره شكر من تداركه الله بإزالة نقمته.
أيها الإخوان: إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بالأمن بعد الخوف،
وبالرخاء بعد الشدة، وقد انقشعت عنا غمة الحروب والعناء، وأقبلت علينا بفضل
الله عز وجل أوقات المسرة والهناء، وقد توحدت الكلمة بحول الله تعالى وقوته،
وتعطف علينا هذا السلطان المحبوب بقبول البيعة المشروعة، الواجبة علينا بعد
طلبنا لها من عظمته، وها أنا أذكر صورة البيعة مع القبول حرفيًّا) وتلا ما
نشرناه قبل هذا.
ولما وصل الخطيب إلى تلاوة نص البيعة باشرت قلاع مكة بإطلاق المدافع
إعلانًا لتلك البيعة، فأطلقت مائة مدفع ومدفع، وما انتهى الخطيب من خطبته حتى
هرع الناس أفواجًا أفواجًا مزدحمين للمبايعة، ولولا رجال الحرس الخاص والشرطة
يوقفون الزحام وينظمون سير المبايعة، لأودى الزحام بغير قليل من الناس، وقد
كان ترتيب المبايعين على الشكل الآتي:
الأشراف، فشيخ السادة، فالوجهاء والأعيان، فالمجلس البلدي، فأهل المدينة
المنورة، فأهل جدة، فبقية خدم الحرم، فالمطوفون والزمازمة، فمشايخ الجاوه،
فأهل الحرم ومشايخ الحارات، فأهل المحلات.
وقد دامت حفلة المسجد الحرام ما يقرب من الساعة، والناس يمرون
ويبايعون، وبعد ذلك مشى جلالة الملك إلى البيت الحرام، فطاف به سبعًا، وصلى
في المقام، ثم شرف دار الحكومة فجلس في سرادقها، واكتظت بالناس على
رحبها، ولما استقر بالحاضرين المقام نهض الشاب الأديب حسن قابل وتلا خطابًا
ذكر فيه خلاصة تاريخية عن الأطوار التي مرت على الحجاز قبل رحيل الترك
عنه إلى يومنا هذا، ثم عرض بما كان عليه الحال في العهد السابق، وأن الحق هو
للحجازيين في تقرير مصيرهم، وأن لا بد للبلاد من ملك مستقل يكون قادرًا على
صيانة الحجاز من الداخل والخارج، وأن الرجل الذي يستطيع القيام بهذا الأمر هو
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وأنه بالنيابة عن أهل جدة يمد يده مبايعًا،
وطلب من عبد الله رضا أن يقوم ويبايع عن أهل جدة بملكية الحجاز.
ثم قام حضرة الفاضل بكر ناظر فتكلم كلمة تناسب المقام، وتلاه الشاب
الناشئ شاكر بن محمد عامر الزبدي فألقى خطابًا كان له وقع حسن، وتبعه حضرة
الفاضل صدقة منصور فتكلم موجِزًا تاريخ العلاقات بين أمراء جزيرة العرب، وما
أدى (إليه) النزاع الذي كان بين الحجاز ونجد إلى أن وفق الله الكريم بفضله،
وتوحدت الكلمة بين البلدين، ثم أثنى على همة جلالة الملك بما هو أهله.
ثم تكلم عبد الرحمن بشناق بصوت جهوري مخاطبًا جلالة الملك بأن الله ما
أعطاك هذا العطاء إلا لأنك سائر في مرضاته، ودعا الله للأمة بالتوفيق.
ثم تكلم صديقنا الشيخ عبد العزيز العتيقي، فذكر طرفًا من سيرة الأمة زمن
السلف الصالح، ولزوم الاستمساك بذلك الحبل المتين، ليرجع للمسلمين ما كان لهم
من عز وسؤدد.
***
خطاب ملك الحجاز بعد البيعة
ولما انتهى الخطباء من خطبهم أقبل جلالة الملك على الحشد المجتمع بوجهه
الطلق ولسانه العذب، فحمد الله بما هو أهله، وسأله المعونة على الأعمال، ثم
انطلق انطلاق السيل يعظ ويرشد ويدعو للاعتصام بكتاب الله وإلى التوحيد
الخالص، بأسلوب يسترعي الأسماع ويأخذ بالألباب، ثم قال:
(أوصيكم بتقوى الله في جميع أعمالكم، أوصي الجميع بالتقوى، كل يجب
أن يتقي الله في عمله، التاجر في تجارته، والصانع في صنعته، والموظف في
وظيفته، أسمع خطباءكم يقولون: هذا إمام عادل، وهذا كذا، فكل رجل مهما بلغ
من المنازل العليا إذا لم يكن يخشى الله ويطلب مرضاته فلا أثر له ولا لعمله، فمتى
تُرِكَتِ الشهوات، وهُجِرَتِ المحرمات، وعبدنا الله على بصيرة، لاقينا الخير كله،
وهل جاء البلاء للناس إلا من اتباع شهوات النفوس التي فيها خراب الدين والدنيا؟
لذلك أدعوكم إلى الدين، واتباع آثار السلف الصالح، وأن نتخذ الصراحة في
القول، وأن نترك الرياء والملق في الحديث، ومتى اتفق الأمراء والعلماء، كل
واحد منهم يستر على صاحبه، فالأمير يمنح المراتب، والعلماء يُدلِّسون ويتملقون،
ضاعت أمور الناس، وفقدنا - والعياذ بالله - الآخرة والأولى، إنه لم يُفسد الممالك
إلا الملوك وأحفادهم وخدامهم، والعلماء وأعوانهم، وإنني والله لأود أن لا أكون
في هذا المقام، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
(إن الأمر - والحمد لله - قد استتب في البلاد على أحسن حال، ولم يبق
لأحد حجة في النكوب عن العمل الصالح، ولينصرف كل إنسان لإصلاح عمله) .
(إن التمدن الذي فيه حفظ لديننا وأعراضنا وشرفنا فمرحبًا به وأهلاً، وأما
التمدن الذي يؤذينا في أدياننا وأعراضنا وشرفنا، فوالله لو قطعت منا الرقاب
وذهبت فيه العيلات، لم نرضخ له ولم نعمل به) .
(إني أحمد الله الذي جمع الشمل وأمَّن الأوطان، وإن لكم عَلَيَّ عهد الله
وميثاقه أنني أنصح لكم كما أنصح لنفسي وأولادي وعائلتي، أحبكم في الله وأعاديكم
فيه) اهـ.
وقد تعالت الأصوات من الحاضرين (جزاك الله خيرًا جزاك الله خيرًا) .
وقد كانت القهوة العربية تدار على الحاضرين حينًا بعد حين، ثم انصرف
الناس من مجلسهم فرحين مسرورين اهـ.