للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كتاب أبي معشر

كُتِب إلينا من سنغافورة وجاوه أن هذا الكتاب منتشر في تلك البلاد، يجلبونه
إليها من مصر، وأن بضاعة المنتحلين للتنجيم والعرافة رائجة به، وسألنا الكاتبون
عن رأينا فيه، فأرسلوا إلينا نسخة منه لننظر فيها، إن لم يكن سبق لنا الاطلاع
عليه، فنقول بعد الاطلاع على عدة أبراج منه:
إننا لم نر في لغتنا كتابًا أجمع للمفاسد والمضارّ منه، فهو مفسد للعقل والدين
والآداب، محرض على الفسق والفجور، مقطع للروابط بين الأزواج والأهل
والجيران، وهو على ذلك كله خالٍ من الفائدة واللذة.
أما كونه مفسدًا للعقل، فنعني به أنه يمد الضعيف في غيه، فيزيده فسادًا
بقبوله لما وضع له من بيان ما يعرض للمرء في مستقبل حياته الدنيا.
لو فكر من له مسكة من العقل أقل التفكير في الطريقة التي يبين بها هذا
الكتاب حوادث المستقبل لجميع البشر في ٢٤ فصلاً، منها ١٢ برجًا للرجال، و١٢
برجًا للنساء - لرأى أن ذلك باطل بالبداهة، فإن من مقتضى ذلك أن كل من اتفقت
أسماؤهم وأسماء أمهاتهم، وكل من اتفق العدد الحاصل من جمع أسمائهم وأمهاتهم،
بعد طرح عدد الاثنا عشر منها، حتى تبقى اثنا عشر أو أقل يكونون متفقين فيما
يعرض لهم من الأمور والأحوال في أجسامهم من مرض وصحة وحياة وموت،
وفي أزواجهم وأولادهم وكسبهم وغناهم وفقرهم وأخلاقهم وآدابهم ومكانتهم في
الناس، وفي غير ذلك، لا فرق بين أحد منهم إلا من ثلاثة وجوه، فإن لكل
برج عنده ثلاثة وجوه، يعبر عنها بقوله الوجه الأول من نظر إليه كوكب كذا
يكون كيت وكيت.
فللعاقل أن يجمع أسماء كثير من الملوك والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء
والصناع والزراع والعمال والخدام - أسماءهم وأسماء أمهاتهم بحساب الجمل على
طريقة أبي معشر، ويعرضها بعد الإسقاط على أبراجه، وينظر بعد ذلك فيما
يشرحه من شئونهم، فبهذه الطريقة يظهر له بطلان ما في ذلك الكتاب، إن كان
ممن يشتبه في بطلانه. ولا حاجة إلى شرح ذلك وتفصيله، فإنه يكاد يكون من
البديهيات الأولية، وإنما يروج ما فيه على ضعفاء العقول من العوام والنساء، لأنهم
لا ينظرون في طريقته نظرةً عامةً للبحث فيها، هل هي معقولة أم لا؟ وإنما
يفكرون فيما يلقى إليهم من كلامه المجمل العامّ الذي ينطبق على بعض أحوالهم مع
الإيمان والإذعان التقليدي بأن في أمثال هذه الكتب أنباء عن الغيب يتوارثها الخلف
عن السلف، ويسلمون بها تسليمًا.
أمثال هؤلاء الأغرار تسهل مخادعتهم، فلو قرأت لأحدهم البرج الذي يؤخذ
من اسمه واسم أمه بطريقة أبي معشر أو غيره من البروج، لأخذ من كل ما يقرأ له
شيئًا ينطبق على بعض أحواله، ووجد فيه شيئًا لا ينطبق عليها، ولكنه لانتظاره ما
يمكن أن يصدق عليه، يتشبث ويفطن له، ويَغْبَى عن غيره ويظن أنه غير مقصود
به.
وأما إفساده للدين، فهو مشترك بين إفساده للعقل باعتقاد الباطل الذي ورد
النهي عنه في الأحاديث الصحيحة التي تسمِّي تصديق المنجمين والعرافين كفرًا،
وبين إفساد الآداب التي يأمر الشرع بالمحافظة عليها والتحريض على الفسق وتقطيع
الروابط بين الأزواج وغيرهم.
المعروف من أمر النساء أنهن أحرص على البحث عن مستقبل حياتهن من
الدجالين والعرافين والمنجمين، وإنك لتجد في بروجهن من هذه المفسدات أكثر مما
تجده في بروج الرجال.
مثال ذلك أنه يقول للمرأة: إنها تتصل بكثير من الرجال بالحرام، وإنها
تتزوج عدة أزواج، وإنها تكون سعيدة مع الأخير منهم، وإنها تكون شديدة الحظوة
والقبول عند الكتاب أو الحكام ... فقل لي بعيشك، كيف تكون حال المرأة التي
تعتقد صدق هذا الكتاب إذا سمعت من قارئه عليها أمثال هذه الأنباء؟ ألا يكون ذلك
مجرئًا لها على العشق، وعلى بغض زوجها ... ؟
يظهر لي أن واضع هذا الكتاب كان حريصًا على هذه المفاسد متعمدًا لها،
وأنه كان من كتاب الدواوين أو صديقًا لهم، لأنه يرغب النساء فيهن. ومن خبثه
الدال على تعمده أنه يقول عن بعض النساء اللواتي يحرضهن على الفسق: إنهن
يتُبْن بعد ذلك , ويوفقن للحج إلى بيت الله الحرام، فإنه بذلك ينال من إفساد العفيفة
المتدينة ما كان يعز عليه أن يناله لو لم يخبرها بأنها ستوفق بعد ذلك إلى ما يكون
كفارة لذنوبها.
وقس على هذه المفسدة ما يصفه الكتاب من أحوال أعداء المرأة ومن يكيد لها
ويتربص بها الدوائر، فإن ذلك يذهب بخيالها مذاهب في التطبيق على من تعرف
من أهلها وجيرانها، ومتى اعتقد الإنسان أن أحد الناس عدوّ له، فإنه يحمل أكثر ما
يراه منه على ما يقوي اعتقاده فيه، حتى إنه إذا سمعه يثني عليه، اعتقد أنه يتهكّم
أو يعرض بذمّه.
وجملة القول أن هذا الكتاب من أقبح الكتب وأشدها ضررًا، ولا شك في
حرمة طبعه وبيعه، فما قولك بالاكتساب به، ألا يكون من كبائر الإثم والفواحش؟
بلى، وإن من قدر على منع طبع هذا الكتاب أو بيعه أو انتحال التنجيم به ولم يفعل،
فهو آثم، ويغلب على ظني أن أهل سنغافورة وأهل جاوة، لو بينوا لحكومتيهم ما
في هذا الكتاب من الدّجل والإفساد للآداب العامة، ومخالفة الدين، وطلبوا منع
الدجالين من التنجيم به، لأجابتهم الحكومة إلى ذلك.
ولو نبهت الحكومة المصرية مثل هذا التنبيه، لرجي أن تحاكم الذين يطبعون
هذا الكتاب، وتمنعهم من بيعه، فعسى أن ينتدب لذلك بعض أهل الغيرة، وأن
تحمل الجرائد اليومية على المتجرين بهذا الكتاب وأمثاله، وتطالب الحكومة
بمجازاتهم على ما يمنعهم منه القانون المانع لكل ما يخالف الآداب العامة.