للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة غيبية ومالية

(س٨-١١) من صاحب الإمضاء في مركز المنصورة مصر:
حضرة صاحب الإرشاد الأستاذ المجاهد في الله شيخ الإسلام السيد محمد رشيد
رضا.
سلام الله عليكم أهل البيت ورحمته وبركاته. وبعد فإني ألتمس من فضيلتكم
الفُتْيَا على ما يأتي بأدلتكم العقلية المنطقية، وبراهينكم النقلية الصحيحة، راجيًا
نشرها في المنار؛ ليعم النفع ولكم الشكر منا والثواب من ربنا.
(١) هل شُقَّ صدرُ النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجت منه علقة سوداء،
أو علقتان وما الحكمة في ذلك؟ والقلب الذي هو بيت الحكمة غير محسوس، فهل
يريد أهل السير بتلك الروايات التي أخالها ضعيفة تنقية قلبه الجسمي الصنوبري أم
قلبه الروحي؟
(٢) ما معنى خاتَم النبوة، وهل كان يُرَى وما الحكمة؟ أهو معجزة نقول
للناس هذا خاتم الأنبياء بدليل هذا الطابع أم ماذا؟
(٣و٤) إن فلانا يدخر أمواله في صندوق التوفير ويأخذ نظير ذلك ربحًا
ولئن سألته ليقولن لك هذا حِلٌّ، أفتى به الأستاذ الإمام، فما حكم هذا، وحكم
المودعين في المصارف والبنوك بربح مقدر معروف؟
(٥) يزعم أحد المبشرين أن الجن لم يساعدوا سليمان وأنه لم يعرف منطق
الطير، وأن الهدهد لم يكن هو السبب في اتصال ملكة سبأ به، وراجع من
الإصحاح الثاني بالإصحاح التاسع من أخبار الأيام الثاني، ولولا أن أحد المسلمين
المثقفين بالعلوم الحديثة استحسن رأيه وصوَّبه ما كنت اكترثت بكلام هذا المبشر
الضليل، فهل حقًّا لم يرد ذلك في الكتب التي بأيديهم، وهل تؤول تلك الآيات
المحكمة عندنا نظرًا لإرضاء عقلية متعلمنا المخصص في التاريخ كما يزعم (أعوذ
بالله من هذا التعليم) أفتنا على عجل بربك الذي وقفت نفسك على إظهار دينه الحق
وتطهيره من أدناس المبطلين، وسلام عليك وعلى جميع المصلحين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الغفار الجيار
... ... ... ... ... مدرس بمنية محلة دمنة مركز المنصورة
(٨) شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم:
أخرج ابن إسحاق وابن راهويه وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم
وابن عساكر من طريق عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حديثًا طويلاً عن حليمة
بنت الحارث السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة منه أنه صلى الله
عليه وسلم كان بعد شهرين أو ثلاثة من سنته الثالثة خلف بيوتهم مع أخ له من
الرضاعة فجاء أخوه يشتد فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب
بياض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائمًا منتقعًا لونه
فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني ما شأنك؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بياض
فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئًا فطرحاه ثم رداه كما كان. وفيه أنهما
خشيا أن يكون قد أصيب فرداه إلى أمه. إلخ
(أقول) من المعلوم أن عبد الله بن جعفر لم يسمع هذا الحديث من حليمة بل
قال الذين أخرجوه عنه: إنه قال: حُدِّثْتُ عن حليمة، ولم يذكر مَن حدثه به، وقد
أخرجه ابن إسحاق من طريق نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع
الحديث، وعبد الله بن جعفر ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها.
وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة
مخالفة للأولى في سياقها، وفي موضع وقوعها إلخ، وهي التي يذكرونها في بعض
قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الفلابي عن يعقوب بن جعفر بن
سليمان عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، وقد قال الدارقطني في
محمد بن زكريا الفلابي مخرجه: إنه كان يضع الحديث وصرَّح غيره بكذبه أيضًا.
وأخرج مسلم عن شيبان بن فروخ حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع
الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا
حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ ثم أعاده في
مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قتل
فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره اهـ.
أقول: هذه الرواية تقوي رواية عبد الله بن جعفر عن حليمة ويحتمل أن
يكون أنس سمعها منه فهو لم يقل: إنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ولا
من غيره، وحماد بن سلمة تركه البخاري وهو من أثبت من رَوَى عن ثابت
البناني، ولكنه تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، على أن أنسًا رضي الله عنه كان
بعد كبر سنه ينسى بعض ما حدَّث به، ويقال: إن مسلمًا تحرى من رواية حماد
عن ثابت ما سمعه منه قبل تغيره.
ثم أخرج مسلم عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك
يحدثنا عن ليلة أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة
نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصة نحو حديث
ثابت البناني وقدم فيه شيئًا وأخر وزاد ونقص اهـ. وهي معارضة بما يأتي،
وهو أصح منها.
أقول: رواية شريك عن أنس في قصة الإسراء والمعراج طويلة، وفيها أنها
كانت قبل البعثة، وهي مخالفة لرواية ثابت البناني من كل وجه، وقد أخرجها
البخاري برمتها في التوحيد، وفيها أن القصة ومنها شق الصدر كانت رؤيا منامية.
وأقوى الروايات في شق الصدر ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس
ابن مالك عن مالك بن صعصعة من حديث الإسراء والمعراج الطويل، وليس لمالك
هذا غير هذا الحديث الذي يرويه أنس عنه وفيه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
حدَّثه عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحِجْر -
مضطجعا - إذ أتاني آتٍ فَقَدَّ - قال: وسمعته يقول فشقَّ - ما بين هذه وهذه - أي
أشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب
مملوءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد) . هذا لفظ البخاري وزاد مسلم (ثم
حشي إيمانًا وحكمة) إلخ، ومن المعلوم بالضرورة أن الإيمان والحكمة ليسا مادة
جسمانية فتوضع في القلب الجسماني.
وجملة القول: أن الروايات في شق الصدر مختلفة من عدة وجوه، وأقواها
أنه كان ليلة الإسراء بعد البعثة، وحملها بعضهم على التعدد، وقد كانت في حالة
بين النوم واليقظة، وفي رواية شريك في حالة النوم؛ لأنه يقول في أولها: (بينا
أنا نائم) في أخرها (ثم استيقظت) والاختلاف فيها كالاختلاف في سائر أخبار تلك
الليلة، سببها أنها أخبار عن أمور غيبية فالإحاطة بها تتعذر أو تتعسر.
والظاهر من مجموعها أنها تمثيل لحفظ نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقلبه
من حظ الشيطان من سائر بني آدم بالوسوسة والإغواء، فالمراد منها أن الله تعالى
طهَّر نبيه وصفيه من كل ما لا يليق بمنصبه الأعلى من الشهوات والأهواء التي
هي موضوع وسوسة الشيطان، وكثيرًا ما تتمثل المعاني بالصور الحسية في المنام
وفي الكشف الروحاني كما ثبت في رؤى النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة، وفي
رؤيا يوسف عليه السلام، والرؤى التي أولها لصاحبيه في السجن ثم لملك مصر.
وقد استشكل بعض الفقهاء استعمال طست الذهب وأجابوا عنه بأنه كان قبل
تحريم استعمال أواني النقدين، وهي غفلة تامة من وجوه من أظهرها أن جبريل
عليه السلام مكلف في عالم الغيب وفي تصوير الحقائق للنبي صلى الله عليه وسلم
بالصور الحسية، وأن يتبع فروع الشريعة العملية، وقد لمح هذا الحافظ ابن حجر
فقال بعد ذكر جوابهم الأول: ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص
بأحوال الدنيا وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب فيلحق بأحكام
الآخرة، والظاهر ما حققناه؛ إذ لا يعقل سواه، وقد علمت منه أن دعوى رؤية
أخي النبي في الرضاع لشق الصدر ورؤية أنس لأثر المخيط فيه لا تصحان، ولو
كان في صدره أثر خياطة لرواها أمهات المؤمنين وغيرهن لغرابتها، ولما هاجر
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أنس ابن عشر سنين وخدم النبي صلى
الله عليه وسلم عشر سنين، ومات سنة ٩٣ على الأرجح فكان عمره ١٠٣ سنين
رضي الله عنه.
(٩) خاتم النبوة ومعناه:
ثبت في أحاديث الصحيحين وغيرهما أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم
علامة تسمى خاتم النبوة، وهي غدة بين كتفيه مثل بيضة الحمامة تشبه الخال
الكبير، وقد اختلفت الروايات في حجمه ولونه وصفته وكونه بين كتفيه أو مائلا
إلى الكتف الأيسر عند غضروفه، وفي بعضها أن حوله ثآليل. والروايات
الصحيحة فيه متقاربة، وثم روايات باطلة لا حاجة إلى الإشارة إليها، ردها الحافظ
ابن حجر وغيره.
والمشهور أن هذا الخاتم كان من العلامات المأثورة عن علماء أهل الكتاب
لنبي آخر الزمان كما ورد في رواية إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وفي
بعض روايات بحيرا الراهب، وهذه لا تصح، وفي بعض الروايات أن الملك
ختمه بهذا الختم عقب شق صدره فظهر أثره فيه ولم يخلق معه، وقالوا: إن حكمته
الإشارة إلى عصمته صلى الله عليه وسلم من وسوسة الشيطان في تفصيل لهم
معروف، والله أعلم.
(١٠ و١١) صندوق التوفير والبنوك:
ذكرنا في المنار مرارًا، وفي تاريخ الأستاذ الإمام أن الحكومة لما أرادت
إنشاء صندوق التوفير في مصلحة البريد طلب سمو الخديو جماعة من علماء
المذاهب الأربعة في الأزهر لمقابلته في قصر القبة وسألهم عن طريقة شرعية له،
فوضعوا له طريقة مبنية على قاعدة شركة المضاربة فاستفتت الحكومة فيها مفتي
الديار المصرية وكان الأستاذ الإمام رحمه الله فوافق عليها فاعتمدت الحكومة على
ذلك فنفذت المشروع.
وأما الذين يودعون أموالهم في المصارف بربح معين فله صور كثيرة، فمنه
ما يدخل في شركة من الشركات التجارية أو الصناعية أو التجارية المشهورة في
بنك مصر، وما ليس كذلك فما كان منه يستغل كصندوق التوفير فله حكمه، وما
كان دينًا للبنك بربح سنوي فهو ربا ظاهر، ونحن قد وضعنا كتابًا خاصًّا في أحكام
الربا والشركات المالية العصرية طُبِعَ أكثره وشغلتنا الشواغل ومنها العسرة عن
إتمامه، ونرجو أن يتم في هذا العام فيكون كافيًا في هذه المسائل الكثيرة التي نُسْأَل
عنها فنرجئ الجواب.
(١٢) تسخير الجن لنبي الله سليمان:
هذه مسألة واردة في كتاب الله تعالى ليس لمسلم أن يعتد فيها بكلام نصراني
مبشر ولا منفر، ولا باستحسان مسلم مثقف بالعلوم العصرية لقول المبشر، ولعله
أبعد منه عن الإسلام، وأما ما يحتج به المبشر والمثقف من عدم ورود ذلك في
أخبار الأيام ولا أخبار الملوك من أسفار العهد العتيق، فلا حجة فيه علينا، ودليلنا
المنطقي الجدلي على رده أن السكوت عن ذكر الشيء لا يقتضي عدم وقوعه أو
نفي وجوده، ودليلنا الشرعي أن كتبهم التشريعية التي صدقها القرآن - وهي التوارة
والإنجيل والزبور - لا حجة علينا فيما عندهم منها؛ لأنه قد ثبت بنص القرآن أنها
محرفة، وأنها لم توجد كاملة صحيحة كما أنزلت، وإن الله تعالى أنزل القرآن
مهيمنًا عليها، فما وافقه منها فهو المقبول، وما خالفه فهو مردود، وما كان بينهما
فهو موقوف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ولأن ما
قررناه فيه قد أثبتناه بالدلالة التاريخية من كتبهم وكتب التاريخ القديمة والحديثة،
وقد فصلنا هذا وذاك في المنار، وفي التفسير أيضًا. فإذا كان هذا حكم الشرع في
كتبهم التشريعية المنزلة، فأي قيمة تبقى لكتبهم التاريخية الموضوعة؟ وهل يقول
مسلم أو عاقل: إننا نتأول كتاب الله تعالى لأجل أن نوافقها فيما سكتت عنه أو فيما
خاضت فيه؟
وأما تأويل أمثال هذه الآيات؛ لأنها من الخوارق الغيبية التي أيد الله بها
بعض أنبيائه فلا يقول به إلا من كان تدينه بالوحي صوريًّا، لا إيمانًا حقيقيًّا، وإنما
يشترك في جواز التأويل أن يكون لظواهر غير قطعية الدلالة عارضها ما هو
قطعي شرعًا أو عقلاً، وكون أمور الغيب مخالفة للمعهود المألوف في عالم الشهادة
المادي لا يقتضي تأويلها؛ لتوافق السنن المادية، فلكل عالم سننه، وقد أقمنا
الدلائل على آيات الأنبياء وخوارق العادات مرارًا آخرها ما حققناه في كتاب
(الوحي المحمدي) الذي صدر حديثًا فراجعوه، وفي تفسير هذا الجزء شيء في هذا
المعنى فتأملوه.