حقائق نافع بيانها لعله ظهر للقارئ من المقالة التي ترجمتها الجريدة من قلم ضابط إنكليزي له اطلاع على أحوال إفريقيا الإسلامية أن الأوربيين غير غافلين عن سير المسلمين في سائر شؤونهم وجميع أقاليمهم، وتراهم يُظهرون من الاهتمام ببعض الذين لهم زعامة دينية، وبكل ما هو مظنة القوة والاجتماع، ما يبيِّن للسامع أن رابطة صغيرة بين جماعة قليلة من المسلمين، تُرى في نظر الأوربيين غولاً يخشى اغتياله ويجب أن يحال بينه وبين النمو؛ لئلا يكون شره مستطيرًا. والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي منها الآن بما يقوله هذا الكاتب الإنكليزي الذي ترجمته (الجريدة) قال: (وقلَّ أن ترى في أوربا من يعلم شيئًا كثيرًا عن هذا المذهب، حتى لو سمع معظم الأوربيين كلمة (سنوسية) لما فهموا شيئًا، مع أنها لفظة لها في آذان فاهميها وقع شديد ومعنى مُرٌّ مَضّ، وما يُعلم عن هذا المذهب وإن قل، ينبئ بانتشار نفوذه وقوته، وأنه على مضادته لأوربا، لا يبعد أن يكون السبب في أخطار وأهوال، ربما أفضت إلى كسح العنصر الأبيض من أفريقية، كما تنبأ بذلك الدكتور كارل بيتر وهو حجة) . إن هذا الكاتب قد عظَّم من هول زعامة السنوسي تعظيمًا، جعله يستدبر الصواب استدبارًا، ونراه قد عزا لهذه الطائفة كل حركات عروق المسلمين في قلوبهم وأحشائهم، ولا يستطيع الواقف على حقيقة الحال إلا أن يغيب في العجب؛ إذ يراه يقول: إن مصر من جملة البلاد التي يسري فيها نفوذ السنوسي، وأنها تحركت بأصابع من هذا النفوذ، فيا للعجب! متى تحركت مصر؟ وكيف تحركت؟ وما هي حركتها؟ وأين هو سلك الاتصال بين حركتها والكهربائية السونسية؟ ولكن ليست مصر وحدها في الانجذاب إلى هذه الكهربائية على رأي الكاتب بل كل حركات قلوب المسلمين عمومًا وإفريقية المسلمة خصوصًا، فهو يقول: (ولا ينكر أحد ما يشمل الأقطار الأفريقية المسلمة وغيرها من السخط العام الآن، وإليك شاهدًا على ذلك حرب الصومال، والحركة المصرية، وثورة زولو، والقلاقل التي في مستعمرة ألمانيا الجنوبية الغربية، وحوادث شتى بالشاطئ الغربي. خطوب صغيرة لكنها تنذر بالخطب الأكبر، والداهية الدهياء. ثم أضف إلى ذلك مسألة المغرب الأقصى ومصاعب فرنسا في شمال أفريقيا، والحركة الأثيوبية الزنجية في الجنوب) . ويقول في مكان آخر: (ويظهر أن الاضطراب الذي جرى بمصر حديثًا؛ كان سببه دعاة الطريقة السنوسية هناك، وإن كان السنوسيون لم يريدوا ذاك الهياج ولم يستحثوه لمجيئه قبل أوانه، ولذلك لم ينهضوا بتغذية الفتنة التي أنتجوها) . ويقول في الختام: (وخلاصة القول أن السخط بين أهالي أفريقية عام طام، فشرارة واحدة تضرم النيران من أقصى أفريقية إلى أقصاها، وفى زعمي أن السنوسيه هي مصدرة الشررة التي لابد أن تصيب لغم السخط المستقر في صدور الأهالي) . إن أمثال هذه الكتابة تدعونا إلى أن نتفكر ونستقصي بالبحث عن تفاسيرها. ولا يظهر لنا من خلال المذاهب المتعددة في تفسير هذا الاهتمام الذي يظهره هؤلاء الكتاب إلا أن القوم مضطرون لهذا السهر والتجسس على شؤون البلاد التي ملكوها، والتي يطمعون أن يملكوها، فهم قد عرفوا أن القوه بالتضام والاتفاق، ويريدون أن يقطعوا من البلاد التي يطمعون بها كل أرومة للتضام، ويحرصون على أن يجتثوا كل سنخ للقوة، وقد زعموا أن الطريقة التي عليها السنوسية هي أرومة عظيمة لتجمع المسلمين الناقمين على أوروبا، وأن هذه الجماعة التي حوله سيكونون يومًا جيشًا جرارًا كالجراد، يلقف في طريقه كل نابتة من الأوربيين. إما أن تكون هذه المزاعم مصطنعة؛ لتعظم الحكومات الأوربية في أعين شعوبها هول (الخطر الإسلامي) كي تكون تلك الشعوب راضية عن كل فتك بهذه الشعوب؛ ليقطعوا دابر كل تحاب بينهم وتعارف وتعاطف، حتى يكونوا أفذاذًا مقطعي الأطراف مشرفين على الانقراض من غير رثاة. وإما أن تكون قائمة في أذهانهم خطأ أو إسرافًا في سوء الظن، أو تكبر في مخيلاتهم من مظاهر التآخي الديني. وخليق بنا على كلا الوجهين؛ أن لا نمر بهذه المسألة متجاهلين هذه المزاعم التي عليها يبنون صرحًا من سياسة الإسراف بسوء الظن. والكلام في روح هذه المسئلة؛ وهي الرابطة الدينية والجامعة الإسلامية، تدور حوله أغلاط كثيرة تقع من باحثينا وباحثيهم؛ والأغلاط منشأ سوء التفاهم ومنشأ التنافر الذي ما برحنا نراه يمتد في عهد كنَّا نظنه يتقلص فيه. فلذا رجحنا اليوم أن نخوض غمار هذا البحث غير رامين إلا إلى تجلية الحقائق التي نعلمها. وكلامنا إن لم ينفع في دوائر السياسة، ينفع في دوائر العلم التي يطوف حولها الشرقي والغربي متصافحين. ونرجو أن يأتي يوم تعلو فيه الحقيقة في هذه المسئلة على المزاعم؛ مصطنعة كانت أم خطأ. *** (١) اللغط في الجامعة الإسلامية مركز الدائرة في هذه المسئلة هي الجامعة الإسلامية، وقد شغف كثيرون من الباحثين منا ومن الأوربيين ببلوغ الحقيقة في هذه النقطة، فَأَبَت على أكثرهم واستعصمت بحجُب من التشابه، فعمي السبيل على الطالبين، وانقسموا فرقًا، وسلكوا مذاهب؛ أعقلهم الذين اعترفوا بأنهم لم يروا وجه الحقيقة، ومنهم من وصف الذي شبه له زاعمًا أنها هي الحقيقة. والذين اشتهوا الوصف والبيان، ولم يطيقوا أن يظهروا العجز من بعد البحث والنظر، قد اختلفت أقوالهم: فمنهم من يثبت وجود هذه الجامعة، ومنهم من ينفيه. والمثبتون منهم من يتشاءم به، ومنهم من يتيمن، ومنهم من لا يبني عليه أملاً، ومنهم من لا يوجس منه وجلاً. لكن يظهر من الفصول والمقالات الكثيرة التي قرأناها لكتاب الأوربيين أن في أوربا كلمة واحدة عامة بوجود هذه الجامعة، وأن فيها خطرًا على المستعمرات الأوربية، أو قد تكون عائقًا عظيمًا يومًا ما عن بلوغ أوربا أمانيها من ابتلاع كل بلاد المسلمين ابتلاعًا تامًّا. ويؤذن هذا بأن من يقول غير هذه الكلمة منهم هو من الشاذين. والكُتَّاب المسلمون يميل أكثرهم إلى تصديق هذا الحدس الأوربي، وتتغنى أقلامهم بأن المسلمين كثيرون، وكلهم في الدين إخوان، وأن مستقبلهم حسن بواسطة كثرتهم وجامعتهم الدينية، وعلى شيء من هذا بنى السيد توفيق البكري كتابه (مستقبل الإسلام) . والغريب في الأمر أن أكثر الباحثين في (الجامعة الإسلامية) يبتون فيها الأحكام من غير أن يقولوا لنا: ما حقيقتها وما تاريخها، أذلك لشدة وضوحها أم لأنها ليس لها صورة حقيقية واحدة، فهي تصور كما يقوم ظلها في خيال الكاتبين. (٢) حقيقتها ما الجامعة الإسلامية إلا اتفاق في كلمة واحدة؛ وهى أن القرآن كتاب الله، جاء به محمد رسول الله. ولكن المطلع على تاريخ المتفقين هذا الاتفاق، يعلم أنه لم يدفع عنهم الاختلاف الذي لا اتفاق معه بعد، فمنذ اختلف المسلمون ثلمت جامعتهم، ولم يتفقوا اتفاقًا سياسيًّا بعد عهد عمر ولا اتفاقا دينيًّا بعد عهد علي، فما هي جامعة قوم مختلفين منذ ثلاثة عشر قرنًا؟ اختلافًا سياسيًّا واختلافًا دينيًّا، يقتل بعضهم بعضًا، ويستعين بعضهم علي بعض بأهل الملل المخالفة من الأساس. ما هي جامعة قوم لم يخل يوم من أيامهم من قتال فئة منهم فئة أخرى، منذ مقتل خليفتهم الثاني إلى يومنا هذا؟ ما هي جامعة قوم يُسرُّ ملوكهم المختلفون بذهاب ممالك ملوك آخرين منهم؟ ما هي جامعة قوم حدثنا التاريخ من حديثهم أن أجنبيًّا شرقيًّا (هولاكو) اكتسح بلادهم وهم في عزهم، فلم تتضام أيديهم علي مقاتلته، وكانت لا تزال قويه على قتال بعضها بعضًا. وحدثنا التاريخ من حديثهم أن أجنبيًّا غربيًّا (الصليبيين) هاجم بلادهم، فلم يجتمعوا كلهم على طرده، حتى حركت الهمة طائفة منهم قويت وحدها على صده. الجامعة التي يلغطون بها هذه هي (صوره مكبرة في خيال الأوربيين منتزعة من دعوى المسلمين الإخاء الديني. وصورة محبوبة في خيال المسلمين منتزعة من مس الحاجة إلى مثلها على رأيهم) ثم قد أصبح لهاتين الصورتين ظل في الوجود قام عليه الحساب الحاضر. فالأوربي يقول يجب محو هذا الظل لئلا يصير شبحا حقيقيًّا هائلاً ويذهبون في محوه مذاهب كما يبين في كتاباتهم المتنوعة المختلفة. والمسلم يقول يجب جعل هذا الظل شبحًا حقيقيًّا يكون بهيبته حاميًا حقوقنا أجمعين ولهذا عظم تشبث المسلمين هذه السنين بمسألة هذه الجامعة الإسلامية للدلالة على التضام والترابط ولكن لا يصنع هذا شيئا ما دام الاختلاف الديني والسياسي قاضيين أن يدوم تقتيل المسلمين بعضهم بعضا ويقعد بعضهم عن نصرة الآخر. ولو تدبر الأوربي والمسلم لالتفلتا إلى أمر نافع غير هذا لأن الظل لا يصير شبحًا. لو تدبر الأوربي لعرف أن الجامعة الإسلامية قد يخلقها الإسراف في إبادة مُلك المسلمين ولعرف المسلم أن هذه الجامعة لا تنفع حتى يقوم العلم الصحيح عندهم مقام التقاليد وتكون الجامعة يومئذ جامعة قومية. (٣) السخط العام من الأوربيين لو تدبر الأوربيون لعلموا أن السخط العام الحقيقي الذي يرونه ويسمعون به ليس ناشئًا من الجامعة الإسلامية، بل هو ناشئ من سوء الإدارة، وهو يجر إلى هياج الشعوب نفسها باسم الخلاص من الظلم، لا باسم الدين، ويشهد التاريخ أن شعوبًا كثيرة هاجت على حكوماتها نفسها باسم الخلاص من الظلم، لا باسم الدين، فإذا لم ينتظر الأوربيون من المسلمين الذين تحت حكمهم هياجًا إلا باسم الدين، فإنهم سوف يتعبون من سوء نتائج هذا الخطأ على تمادي الأيام. (٤) خطر الجامعة الإسلامية وعندي أنه إن صح أمر الجامعة الإسلامية، لا ينتظر منها الشر الذي ينذر به كتاب الأوربيين إلا أن يكون الشر عندهم هو صد المطامع وإيقافها عند حد. ولماذا لا ينتظرون إلا الشر من قوم كان لهم دول عظيمة، فلم يسيئوا إلى بني آدم، كما ينتظرون منهم الآن. (٥) السنوسية أما السنوسية فطائفة في الصحراء بين طرابلس ومصر، ملتفون حول شيخ طريقة، في الأرض كثير من أمثالها وأمثاله. واضع هذه الطريقة هو السيد أحمد ابن إدريس وهو رجل من صوفية المغرب وعلمائه، رحل إلى اليمن وتوفي فيها، وهو شيخ الأستاذ المرغني المشهور، وشيخ الشيخ إبراهيم الرشيدي، وشيخ العلامة السيد السنوسي (محمد علي) المولود عام ١٢٠٤ في مستغانم، وقد طلب العلم في فاس، ثم رحل إلى مكة فلقي أحمد بن إدريس، فأخذ عنه التصوف وخلفه في الطريقة، وأحب أن يؤسس له مركزًا في الحجاز، فلم يساعد على ذلك فغادر الزاوية التي بناها في جبل أبي قبيس عند مكة، ورحل إلى طرابلس الغرب سنة ١٢٥٥هـ، ونزل في الجبل الأخضر وبني هناك عدة زوايا، ثم رجع إلى الحجاز سنة ١٢٦٣ هـ، فأقام بمكة سبع سنين يقرأ الحديث فنما ذكره، وزار مصر عائدًا من الحجاز فأجَلَّه عباس باشا الخديوي آنذاك، وهرع الناس لزيارته. ولما كثر مريدوه في صحراء ليبيا، أراد أن يعتزل البلاد التي فيها الأمر والنهي لحكومات معروفة، فأرشده مريدوه إلى جغبوب لعزلتها ووجود الماء هناك، فبني زواية عام ١٢٧٣هـ وأقام فيها بين عربان البادية إلى أن توفى عام ١٢٧٦هـ، فخلفه ابنه السيد محمد المهدي السنوسي، وقام مقامه بنشر الطريقة، وازداد عدد المريدين على هذا، ودخل في مريديه ملك واداي، فلذلك أصبح مقامه في تلك الجهات كمقام الملوك؛ لأن مريديه يجبون له عن طيب نفس المفروض عليهم من زكوات أموالهم وهو يصرفها على اللاجئين على تلك الزوايا من الضعفاء والمرابطين وأبناء السبيل. وكل من عرف السنوسية حق المعرفة يمتدحهم على قيامهم في كبد هذه الصحراء بما ينفع بني آدم: من المؤاخاة، وتقليل الشرور بين القبائل، وإيواء ابن السبيل، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال. فلماذا لا يترقب كتاب الأوربيين من هؤلاء إلا كل شر، وهم قوم قد بعدوا جهد استطاعتهم عن هذه السياسات المبنية على ما لا حد له من الطمع. ولا ذنب لهم إلا شبه قوة على الدفاع. هذه حقيقة السنوسية، لا ما زعمه الكاتب من أنها جمعية سياسية في لباس ديني تتربص بالأوربيين يومًا عبوسًا قمطريرًا، يكون شره من سيوفهم وبنادقهم مستطيرًا. هذا ولقد حاول جلالة السلطان استدعاء السنوسي إلى الآستانة؛ بإيعاز من سياسة أوربية، فلم تنجح هذه الدعوة، ولن تكون نتيجة البعثة التي بعثت لهذه المهمة إلا تبادل التحيات والهدايا. فالسنوسية في معزل عن هذه الأمور، ولا نظن بالسيد السنوسي شيخ هذه الطائفة اليوم؛ أنه يبغي من وراء هذه العزلة الدخول بنفوس خلق الله إلى المذابح البشرية. وأبعد شيء عن الصواب زعم الكاتب وأمثاله أن الفروض الدينية هي التي تحمل على إبادة غير المسلم، وهذا منتهى الجهل بالتاريخ. وقانا الله سوء نتائج الجهالات. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الزهراوي