تابع ما قبله (٨) جاء في إنجيل متى (١٥: ٢٢ - ٢٨) أن امرأة كنعانية صرخت إليه ليشفي ابنتها المجنونة، وكانت تقول له: ارحمني يا سيد يا ابن داود، فلم يجبها بكلمة فصارت تصيح وراءه حتى طلب تلاميذه منه صرفها فقال لهم: لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة. فجاءت وسجدت له قائلة يا سيد أعني. فقال لها: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت: نعم يا سيد والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ شفى لها ابنتها بعد هذا العناء العظيم والإلحاح الكبير. فانظر إلى مقدار عطفه ورحمته بالضعفاء. وهو الرجل الذي يقولون: إنه جاء لخلاص الناس أجمعين. ألا يدل ذلك على أن كل ما جاء في تعاليمه مما يفيد معنى الرحمة والمسامحة والإحسان إلى الناس ما كان يريد به إلا أمته اليهودية فقط لا غيرهم من الأمم كما هو صريح عباراته في هذه القصة التي تدل على القساوة المتناهية حتى حركت أعمال المرأة عطف تلاميذه أنفسهم قبله؛ ولذلك طلبوا منه إجابة طلبها فأبى أولا. فهذه هي أخلاق هذا الرجل الذي يمدح نفسه بقوله (مت ١١: ٢٩) : (لأني وديع ومتواضع القلب) فهل يتفق هذا مع فعله مع المرأة الكنعانية؟ نعم هو وديع ومتواضع القلب ولكن مع من؟ مع الأقوياء من أمة اليهود [١] ومع الرومانيين حكامه وحكام أمته. أما الضعفاء الأجانب فهم عنده كلاب. فهذا هو مبلغ تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة على غلوها أحيانًا فهو نفسه كان يخص بها اليهود رغمًا عن دعواهم الآن أنها للبشر أجمعين. وهذه القصة تدل على أنه ليس بإله؛ لأنه مقيد بإرادة من أرسله كما يفهم من قوله: (لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) . ولذلك تركها يوحنا كعادته وأتى بقصة المرأة السامرية، وهي تغايرها بالمرة (يو ٤: ٧ - ٣٠) وغرضه منها أن يظهر أن بعثته كانت عامة، فقال: إنه كان يتكلم مع هذه المرأة السامرية ويطلب الشرب معها مع أن اليهود لا يجوز لهم معاملة السامريين حتى صار تلاميذه يتعجبون من ذلك وهذه القصة - كغيرها مما تقدم - تدل على تأخر زمن هذا الإنجيل عن الأناجيل التي قبله؛ ولذلك أتى بها ليظهر أن بعثته ليست قاصرة على اليهود كما يفهم من قصة المرأة الكنعانية ومن (مت ١٠: ٥ و٦) بل كانت للبشر كافة أما قول متى (٢٨: ١٩) : اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، فهو إن لم يكن إضافة متأخرة كقول مرقس بدعوة الخليقة كلها (١٦: ١٥) الذي ثبت عندهم إضافته أيضًا (كما سبق في صفحة ٥٠) فالمراد به أمم اليهود كافة فإنهم، كما قال سفر الأعمال، كانوا في أورشليم وحدها من كل أمة تحت السماء أع ٢: ٥-١٣ فما بالك بمن كانوا في أرض اليهودية كلها؟ ويؤيد هذا المعنى قول المسيح لتلاميذه (مت ١٠: ٢٣) فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان. فهذه المدن كانت عندهم العالم كله كما أريناك سابقًا ص ١٤ من هذه الرسالة، وعلى ذلك يحمل قوله في مرقس (١٣: ١٠) ينبغي أن يكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم، وقوله في متى (٢٤: ١٤) في كل المسكونة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى. ولا تنس قول لوقا (٢: ١) (صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة) ، أي أرض اليهودية خاصة كما قال صاحب كتاب الهداية المسيحي في مجلد (٢ ص ٢٥٥) وغيره. ومن أمثلة وداعته وتواضعه ورحمته غير ما تقدم ما جاء في إنجيل متى (١٨: ٢١ و٢٢) أن أحد تلاميذه مات أبوه فاستأذنه في الانصراف ليدفنه فلم يقبل وقال له: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. والظاهر من هذا القول أن أبا هذا التلميذ لم يكن مؤمنًا به فلذا حقد عليه حتى بعد موته، ومنع ابنه من الذهاب ليدفنه ولا ندري ماذا كان يفعل به لو قدر عليه وهو حي؟ فهل هذا خلق الرجل الذي أمر غيره بمحبة الأعداء. وقد داس بعمله هذا مع تلميذه على أمر التوراة بإكرام الوالدين وأيضًا بعمله مع أمه مريم ومخاطبته لها بقوله (يو ٢: ٤) ما لي ولك يا امرأة) ولكن كان في أول الأمر وخوفًا من اليهود يقول لهم (مت ٥: ١٧) : (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء) . فما أصدق كلامه هذا وغيره. وهذه القصة تظهر أيضًا أنه ما كان يريد بتعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة والإحسان إلى اليهود عامة كما قلنا من قبل تساهلاً (ص١٩١) بل كان يريد بها من آمن به فقط من اليهود واتبعه ولذلك قال متى (١٢: ٤٦ - ٤٩) : إن أمه وإخوته جاءوا مرة إليه ووقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه نحو تلاميذه، وقال: (ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) يعني من آمن به فقط [٢] . ولذلك أمر أتباعه ببغض غيرهم كما سبق (لو ١٤: ٢٦) فهل هذا هو الأمر بالإحسان إلى الناس كافة حتى الأعداء؟ ومتى عمل هو نفسه بذلك أو أتباعه الذين استغاثت الأرض من سفكهم دماء بعضهم بعضًا لأقل الأسباب ودماء غيرهم من الأمم بغير حق إلى الآن. ومنهم من أدار خده الآخر للضاربين (مت ٥: ٣٩) وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبرًا على ورق، وهي مع ذلك غلو مذموم مخالف للعقل والعدل وللطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال مؤد إلى الفساد بطغيان الأشرار، وبتثبيط همة الأصدقاء وتنفيرهم لمساواتهم بالأعداء فيهملون ولا يبالون. ومن منهم ترك ما اعتادوه من الانغماس في الملاذ والشهوات والترف، وباع كل ماله كما في لوقا (١٨: ٢٢) ووزعه على الفقراء؟ وإذا أطاع الناس هذا الأمر أتصلح أحوال هذا المجتمع ويتقدم إلى الأمام أم يبطل فيه كل عمل واختراع واكتشاف واجتهاد ما دامت الأموال كلها توزع من الأغنياء على الفقراء بلا عمل ولا حساب؟ قال ملحدوهم: الظاهر أن يسوع ما أمر بذلك إلا حيلة؛ ليتمكن هو وتلاميذه من أخذ أموال الأغنياء ليعيشوا بها بلا عمل سوى التجول من مدينة إلى أخرى صارفين في حاجاتهم كلها من أموال غيرهم حتى من النساء (لو ٨: ١-٣) كما هو شأن أهل البطالة والكسل المتشردين، وإذا كان كل شيء ينال بالصلاة كما قال في (مت ١٨: ١٩ و٢٠) فما حاجته بعد إلى أموال الناس التي كان يأخذها منهم ويحملها في صندوق معهم يهوذا الإسخريوطي (يو١٢: ٦) فلماذا لم يترك المال لأهله ويسأل أباه السماوي فيعطيه كل ما احتاج إليه هو وتلاميذه الفقراء الذين لا عمل لهم بعد اتباعه (مت ٤: ١٩ - ٢٢) سوى الإنفاق من المال الذي كان يلقى لهم في الصندوق من الناس. فهذا شيء قليل من كثير مما أصبح بعض الإفرنج يقولونه في المسيح. ومن أراد أكثر منه فليقرأ مثل كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة المذكور آنفًا The Truth about Jesus of Nazareth، وإني أستغفر الله من كل هذا، ومما جاء في هذا الكتاب الإنجليزي وغيره من تأليف ملحدي النصارى أنفسهم. وقال هؤلاء الملحدون أيضا: إذا صح أن يسوع صدق في نبوة واحدة من نبواته فهي قوله (مت ١٠: ٣٤) : لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا. فإن الأرض لم تخضب بدم أكثر مما خضبها به أتباعه منذ أن صارت لهم قوة ودولة ولم يصدر عن أمة في العالم ما صدر من أمته، حتى من رؤساء الدين منهم [٣] ، من ظلم الأبرياء والأذى والاضطهاد وسائر أنواع المفاسد والمظالم، حتى الآن كما هو مشاهد. (انظر مثلاً ص ١٣٠ و١٣١ من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة) . ويقولون: إذا كانت هذه ثمرة دينه في الأرض فبئست الثمرة، وإذا كان ذلك كله مما فعله في ثلاث سنين، وهو فقير حقير ضعيف مضطهد (أش ٥٣: ٣) فكيف به لو كان أوتي عزًّا ومالاً وملكًا كبيرًا وعمرًا طويلاً، لذلك كفر به الناس وكفروا بدينه، وبكل ما جاء به وألفوا المؤلفات الضخمة في مطاعنهم وردودهم وصاروا اليوم يدعون الناس في أوربة جهرًا إلى آرائهم وأفكارهم. فليتأمل في ذلك دعاة النصرانية الذين يطعنون، وهم في بلاد المسلمين خوفًا من أن يسمعهم الملحدون فيضحكون منهم يطعنون في محمد بمطاعن ضعيفة واهية لا تعد شيئًا بالنسبة لما فعله المسيح وما يفعله الآن أتباعه كثيرًا كالانتحار وشرب الخمور والربا والمقامرة وحب المال لدرجة الفناء فيه والفسق والخلاعة والتبرج والزنا والقتل والظلم والانغماس في اللذات والشهوات، وغير ذلك مما أتت به إلى بلادَنَا مَدِنَيَّتُهُم الإفرنجية التي يسمونها مسيحية ولا يخجلون ويظنون أن المسلمين يخجلون من حكم الطلاق وتعدد الزوجات في الإسلام وجهاد الأعداء [٤] في سبيل الله بسبب ظلمهم لنا، على فرض قبحها، ليست كالأشياء التي رووها أنفسهم عن المسيح، وأشرنا إلى بعضها هنا، والحكم عليها بالقبح مع ذلك ليس مما أجمع عليه العقل البشري كمسائلهم تلك، بل هي أمور اعتبارية، ألا ترى أن مسألة تعدد الزوجات في الإسلام هي من المسائل التي يختلف الحكم عليها باختلاف عادات البلاد واختلاف أذواق أهلها فهي أقل من مسألة التزوج عند بعض الأمم بالأقارب الأقربين مثلا. فنحن، وإن كنا نستفظع ذلك التزوج بالأقربين ونستقبحه ونمقته، إلا أنه ليس من المسائل المجمع على قبحها بين سائر البشر، وكذلك عادة رقص النساء مع غير أزواجهن وإبداء زينتهن لغير محارمهن هي عندنا قبيحة وشنيعة وعند الإفرنج حسنة وتعمل رسميًّا في قصور ملوكهم، فالخلاف بيننا وبينهم فيه كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف فإن قيل: إذا كانت هذه المسائل التي حكيتها عن المسيح صحيحة فما جواب المسلمين عنها وهي تنافي معتقدهم في المسيح الذي عظمه القرآن تعظيما، وإن كانت كاذبة فهل يعقل أن الإنجيليين وهم أحباب المسيح يخترعونها وينسبونها إليه كذبًا؟ قلت: إننا لا نقول: إن كل هذه المسائل اخترعها الإنجيليون أنفسهم بل نقول: إنها روايات كاذبة افتجرها بعض أعداء المسيح الأولين من اليهود وغيرهم وروجوها بين أتباعه حتى اشتهرت وظنوها روايات صحيحة فدخلت الغفلة على رواة النصرانية حتى على كتاب الأناجيل لشدة جهلهم وغباوتهم كما دخلت على كثير من محدثي المسلمين وكتاب السير منهم بعض أشياء من المنافقين والوضاعين توجب الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام مع الفرق العظيم بين رواة المسلمين ورواة غيرهم في نقد الحديث كما اعترف بذلك بعض علماء الإفرنج أنفسهم (راجع مثلاً كتاب المسحاء الوثنيين ص٢٣٨ و٢٣٩ لمؤلفه المستر روبرتسن J. M. Robertson) . ومع ذلك فقد ترك بعض الإنجيليين بعض هذه الأشياء ولم يشر إليها أو ذكرها لذيوعها بين الناس، بطريقة مخففة لرفع الإشكال بقدر الإمكان بحيث لا يرى منها أصل القصة جليًّا واضحًا إلا بالرجوع إلى الأناجيل كلها أو بعضها وأخذ عبارة فيها من هنا وعبارة من هناك حتى يتم فهم القصة، كمسألة تردد المسيح على بيت مريم ومرثا في قرية بيت عنيا، فإن علاقة المسيح بهما وكونهما عاهرتين يحبهما المسيح ويكثر مخالطتهما والمبيت عندهما إلخ، إنما يستنتج ذلك كله من مجموع ما رووه فيهما لا من واحد منهما فقط. ومن أعظم الأسباب أيضًا أن بعض هذه المسائل كان يوجد مثلها عند الوثنيين الداخلين في المسيحية كما بيناه في حاشية (صفحة ١٨٥) وقد تأصلت في نفوسهم فلم يهن عليهم تركها فأدخلوها في دينهم الجديد ليجعلوا المسيح كأحد آلهتهم لكي لا يشعروا بالفرق الكبير بين الدينين، شأن البشر فيما ألفوه من آرائهم ومعتقداتهم، وقد قبل منهم أكثر النصارى ما أدخلوه جهلاً منهم بحقيقة دينهم أو فرحًا بهم واستمالة لهم لعلهم لا يرجعون. وربما كان غرض بعضهم أيضًا من ذكر هذه المسائل إظهار أن المسيح وهو عندهم يغفر لمن يشاء (لو م٧: ٤٧ - ٤٩) وقد أعطى هذه السلطة لتلاميذه أيضًا كما سبق (مت ١٨: ١٨ ويو٢٠: ٢٣) فوق الناموس والشريعة وغير مقيد بها وله أن يتصرف فيها كما يشاء ويفعل ما شاء؛ لأنه هو واضعها على زعمهم، وشارعها للناس [٥] وأنه إذا اقترب من المعاصي فلا يقع فيها إلا بمشيئته ولحكمة نجهلها، ولذلك ترى أن أكثر مثل هذه القصص التي أريد بها غالبًا إظهار كبريائه وعدم مبالاته بالناموس، وأنه فوق كل شيء واردة في إنجيل يوحنا دون غيره أو مستوفاة فيه أكثر، وهو الإنجيل الذي ذكر أيضًا (٨: ٢-١١) قصة عدم رجم المسيح للزانية ونقضه شريعة موسى في ذلك (لا ٢٠: ١٠) راجع أيضًا (يو ٤: ٩ - ٣٠) . وأما عبارة إنجيل لوقا (٩: ٥٦) التي تشبه في المبدأ مسألة الرجم هذه فقد وجدوا أنها متروكة من بعض النسخ القديمة، وهو دليل على زيادتها فيه ليجعلوا إنجيل لوقا كإنجيل يوحنا انظر (يو ٣: ١٧ و١٢: ٤٧) فيجوز أن يكون اختراع هذه المسائل والقصص هو لمثل ذلك الغرض أي إظهار أنه فوق الناموس الأكبر، وأنه أكبر من كل شيء، وإن كان هذا الاختراع قد أدى إلى عكسه فذم الناس المسيح ذمًّا شنيعًا بسبب ما نسب إليه، ولكن كتابهم ما كانوا ينتظرون حصول هذه النتيجة المحزنة. وأيضًا فقد كان الاستهتار بالشريعة الموسوية وعدم المبالاة بها وبأحكامها أكبر ما سعى إليه بولس وتبعه في ذلك كثير من الأمم لسهولته كما هو معلوم، فلذا قالوا عن المسيح ما قالوا: فإن مبادئهم كانت أقرب إلى الإباحية والاشتراكية من أي شيء آخر كما سبق (انظر صفحة ٥٩ و١٠٥ و١٨٧) . أما غرضنا نحن من ذكر هذه المسائل هنا مع أننا نبرأ منها إلى الله مرارًا وتنفر منها طباعنا، والإسلام يحرم علينا نسبتها إلى عيسى عليه السلام، ويوجب علينا التأدب في حقه وحق سائر الأنبياء، فهو أن نظهر أننا يمكننا أن نقابل النصارى بالمثل لولا ديننا وآدابنا، وأن نري متعصبيهم أن الطعن في محمد عليه السلام بالروايات الضعيفة والأحاديث الموضوعة أو بالمسائل المختَلف بيننا وبينهم في قبحها وحسنها ليس من العقل ولا من الإنصاف في شيء وعندهم في أناجيلهم القانونية لا الموضوعة ما يوجب الطعن في المسيح بأشد مما يوجد عندنا في محمد، حتى نفر عقلاؤهم وعلماؤهم في أوربة من المسيح والمسيحية، ومن كان في بيت من زجاج لا يليق به إن كان عاقلاً أن يرمي بالحجارة الساكنين في بيوت من حديد. ومما تقدم ترى أن الاعتقاد بهذه الأناجيل ضار بمقام المسيح عليه السلام ضررًا بليغًا ولا خلاص للناس من كل الإشكالات المتقدمة وغيرها التي أوقعت المفكرين والعقلاء في الإلحاد إلا بنبذ هذه الكتب والاعتقاد بالقرآن الشريف فإنه هو الذي برأ المسيح بالحق من كل عيب، ومن كل دعوة إلى عقيدة باطلة ورفع مقامه رفعًا حقيقيًّا عاليًا. أما هذه الأناجيل فقد حطته من حيث لا تشعر وهي تسعى في تأليهه بنسبة أقوال إليه تدل لو صحت ولن تصح، على جنون قائلها لشدة بساطة كاتبيها وبعدهم عن العلم الصحيح والعقل وشدة تأثرهم بالوثنية، ومع أن رواية هذه الأناجيل هي عند النصارى أصح الروايات بل مكتوبة بالوحي الإلهي، فقد رأيت ما تؤدي إليه من نسبة ما لا يليق إلى المسيح، وهو منه براء عليه السلام. فكيف يكون الحال إذا عاملنا النصارى كما يعاملوننا في طعنهم في محمد صلى الله عليه وسلم وأخذهم بكل سخيف ضعيف من الروايات؟ ولكن ديننا يحول بيننا وبين ذلك، وهو أيضًا لا يتيسر لنا؛ لأنهم أضاعوا الروايات الأخرى وأغلب الأناجيل، ولم يبق إلا ما وافق آراءهم وأهواءهم، ومع ذلك فنحن قد أخذنا بأصح رواياتهم في اعتقادهم وأريناك كيف تؤدي إلى الطعن في المسيح عليه السلام، وهم إنما يأخذون بأضعف الروايات عندنا وأسخفها بل بالموضوع منها وأحيانًا يفتجر بعضهم الروايات لنا افتجارًا، فهل أمكنهم بعد ذلك كله نسبة شيء قبيح قبحًا حقيقيًّا لمحمد صلى الله عليه وسلم [٦] كخلوته بالزانيات وحبه لهن وتردده عليهن مرارًا هو وتلاميذه ودلكهن قدميه بالطيب ودهن رأسه به ومسح رجليه بشعورهن، وعدم إنكاره على الناس شرب الخمر ومساعدتهم على ذلك بل فرضه عليهم وسكره، وتجرده من ملابسه مرة أمام تلاميذه وعشقه لأحدهم وإجلاسه له في حضنه، وكذبه على إخوته، وعقوقه لوالدته ومنعه تلميذه من دفن أبيه، وحقده على كل من لم يؤمن به إلخ، وهو مع ذلك كله فقير مسكين ضعيف مضطهد، فما بالك إذا أوتي ما أوتيه محمد من الملك والعز والمجد والعظمة وسعة الرزق وطول العمر. وقد حثَّ عيسى تلاميذه - وهو ضعيف - على المقاومة للدفاع عنه وحمل السيوف واستعمالها في ذلك، وأمر الناس كافة ببغض آبائهم وسائر أقاربهم الأقربين وإلقائه الشقاق والحرب والتفريق بينهم، ثم إن أعظم تعاليمه موجبة لضعة النفس والذل، وهي ليست عملية ولا يمكن إطاعتها وفيها من الغلو ما فيها وتؤدي إلى خراب هذا المجتمع، بل القيام ببعضها مستحيل حتى عليه هو نفسه كمحبة الأعداء وهو نفسه لم يحبهم بل كان يسبهم سبًّا شنيعًا (مت ٢٣: ١٣ - ٣٦) ويحقد عليهم وما منعه من الانتقام منهم إلا ضعفه كما بينا، ومن ذلك حثه الناس على بذل جميع ما لهم للفقراء وعلى عدم اهتمامهم بشئون الحياة وترك العمل [٧] [٨] (مت ٥: ٤٤ و٦: ٢٥ و١٩: ٢١ - ٢٥) وحضه لهم على عدم التزوج وعلى الخصاء (مت ١٩: ١١ و١٢) وإيجابه الطاعة العمياء والخضوع للرؤساء بلا قيد ولا شرط لشدة خوفه من قياصرة الرومان، ونصه على أن سلطتهم هي من الله (مت ٢٢: ١٥ - ٢٢ ويو١٩: ١١) ولذلك قال بولس اتِّباعًا له: (إن من قاومهم فقد قاوم ترتيب الله وسيأخذ لنفسه دينونة) (رو١٣: ١ و٢) [٩] . ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي ((يتبع بمقال تالٍ))