آثار جديدة. هدم دين أو دينين. ملك أم إله. مذهب جديد في النصرانية، قيصران أم نبيان. خطوة من أوربا. وثبة إلى الإسلام. ظهور آية من آيات القرآن. حيَّا الله التاريخ والمؤرخين فكم كَشَفا من خفايا الأكوان، وأظهرا من خبايا الأزمان، وكم أضل الجهل بالتاريخ من إمام كبير، وعالم نحرير، فانحرف عن سبيل، وأخطأ محجة تأويل، فقد كان مثل الإمام فخر الدين الرازي يتوهم أن التوراة منقولة بالتواتر، ويحيل لذلك أن يكون وقع في ألفاظها التحريف والتبديل ويصرف الآيات الواردة في ذلك إلى التحريف المعنوي، وسبقه إلى هذا الرأي مثل الحافظ البخاري قياسًا على نقل المسلمين لكتابهم وما كان ينبغي لأمثال هؤلاء أن يضعوا الأقيسة النظرية، حيث يجب أن تكون البراهين اليقينية؛ ولذلك خالفهم الأكثرون. وإننا لنسمع في كل يوم ناعقًا من دعاة النصرانية يصيح محتجًّا على عوام المسلمين بقول فلان وفلان من علمائهم أن التوراة التي بين الأيدي سالمة من التحريف اللفظي محفوظة من التبديل. وكيف نقبل قول أحد في أمر عندنا فيه الحكم العدل، والقول الفصل، وهو كتاب الله تعالى. ولسان الوجود أفصح مفسر لكتاب الله تعالى. كان علماء المسلمين يحكمون على التوراة والإنجيل ولا يطلعون عليهما فلما اطلعوا سددوا وقاربوا؛ ولكن لم يتجلَّ حكم القرآن إلا بعلم علماء أوربا وبحثهم عن آثار الأولين، ووقوفهم على تاريخ الأقدمين. بيَّن هؤلاء العلماء أن كلام التوراة في الخليقة مخالف لما أثبته العلم في مسائل كثيرة فقام أهل التأويل يقولون: إن العلم غير الدين، وإن كتب الدين إذا تكلمت عن الخليقة فإنما تتكلم بما هو معروف عند الناس؛ لأنه ليس من غرضها بيان حقائق الموجودات وإنما غرضها إصلاح القلوب، وهذا الكلام صحيح ولكنه ليس عذرًا مقبولاً عند العلماء عن ذكر أمور مخالفة للواقع لا حاجة إليها في إصلاح القلوب وإذا سكتوا لهم على هذا فبأي تأويل يدفعون ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من مخالفة تاريخ التوراة للآثارات التي حفظها بطن الأرض للأمم؟ ! أم كيف يدفعون تلك القوارع التي تظهر من علماء الألمان قارعة بعد قارعة؟ ! وبها استبان أن التوراة مقتبسة من البابليين بعد السبي حتى شرائعها وأحكامها. كتب بعض هؤلاء العلماء كتابًا حديثًا أودعه جداول أحصى فيها ما وقف عليه من الكلمات البابلية في كتب العهد القديم التي يطلق على مجموعها لفظ (التوراة) وبيَّن أن تلك الكلمات التي مازجت لغة هذه الكتب العبرية لم تكن معروفة على عهد موسى (عليه السلام) واستنتج من مباحثه أن هذه الكتب أُلفت بعد أن سبى البابليون بني إسرائيل بأزمنة مختلفة؛ ولعل هذا الكتاب النفيس يُنقل إلى العربية في زمن قريب فإن اعتداء دعاة البروتستانت قد أعد النفوس للعناية بمثل هذه الكتب فكانوا نافعين للإسلام والمسلمين، خلافًا لما يتوهم بعض الغافلين! بعد هذا ظهر من علماء الألمان نبأ أخص من هذا وهو أنه وُجد في الآثار التي اكتشفت من عهد قريب في خرائب سوس من بلاد بابل شريعة (حمورابي) أو (ملكي صادق) منقوشة على عمود من صم الصفا (الصوان) فإذا هي متفقة مع شريعة التوراة في أكثر الأحكام فجزم الباحثون بأن الإسرائيليين قد اقتبسوا شريعتهم التي يسمونها التوراة من هذه الشريعة أيام كانوا في أسر البابليين. وكانت النتيجة عند هؤلاء العلماء أن موسى لم يكن نبيًّا وشريعة قومه لم تكن وحيًا! ! اشتبه عليهم الباطل بالحق والحق بالباطل وإننا نجلِّي الحقيقة في هذا المقال بما هو لب اللباب، والعجب العُجاب. حمورابي أو ملكي صادق يقول علماء ألمانيا الأعلام كغيرهم: إن حمورابي هذا هو أمرافل المذكور في الفصل الرابع عشر من سفر التكوين في قصة لا تنطبق تمامًا على الاكتشافات الحديثة وهو هو (ملكي صادق) ؛ لأن معنى هذه الكلمة العبرانية (ملك البر أو ملك السلام) وهو يلقب نفسه بهذا اللقب في شريعته المذكورة آنفًا، ومما جاء في الفصل الرابع عشر من سفر التكوين أن ملكي صادق هذا قد بارك على إبراهيم (عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام) وأن إبراهيم أعطاه العشور. قال بعد ذكر محاربة إبراهيم لكدر لعومر واسترجاعه الأسرى ومنهم لوط أخوه: (١٧ فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه إلى عمق شوى الذي هو عمق الملك ١٨ وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزًا وخمرًا وكان كاهنًا لله العلي ١٩ وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات والأرض ٢٠ ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك، فأعطاه عشرًا من كل شيء) . وقال بولس زعيم الديانة النصرانية المعروفة لهذا العهد في آخر الفصل السادس وأول الفصل السابع من الرسالة إلى العبرانيين ما نصه: (١٩ حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد (١) لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك وباركه (٢) الذي قسم له إبراهيم عشرًا من كل شيء. المترجم أولاً ملك البر ثم أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام (٣) بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد (٤) ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء عشرًا أيضًا من رأس الغنائم) . هذا هو ملكي صادق بشهادة العهدين العتيق والجديد فإذا كان الله - تبارك وتعالى - يحل في الأجسام كما يقول النصارى فمَن أجدر بهذا الحلول من ملكي صادق وهو يمتاز على المسيح بكونه من غير أم ولا أب وكونه بلا بداية ولا نهاية؟ ! وهو الذي بارك إبراهيم أبا الأنبياء وهو واضع الشرائع التي اقتبست منها التوراة والنتيجة أنه بشهادة العهدين أعظم من إبراهيم وموسى وعيسى وإن شئت فقل: إن بولس نزهه عن البشرية، ووصفه بأخص صفات الألوهية، والتاريخ يشهد أنه وثني أفليست هذه الكتب أيضًا كتبًا وثنية؟ ! *** هذه التوراة لا خلاف ولا نزاع بين أهل الكتاب في أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فُقدت. ثم وجد عندهم غيرها وفقد ثم وجد غيره. والأخبار عندهم في ذلك معمَّاة وطرقها مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، جاء في الفصل الرابع والثلاثين من أخبار الأيام الثاني: (١٤ وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب وجد (حلقيا) الكاهن سِفر شريعة الرب بيد موسى ١٥ فأجاب حلقيا وقال لشافان الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر إلى شافان ١٦ فجاء شافان بالسفر إلى الملك..) إلخ. وفي دائرة المعارف أنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه موسى (قال) : ولا دليل لهم على ذلك. وأقول: إن ادعاء شخص بمثل هذه الدعوى لا يوثق به فإنه مهما كان عادلاً لا يزيد خبره عن كونه مظنون الصدق محتمل الكذب. ثم إن هذه النسخة التي وجدوها قد فُقدت أيضًا، والمعتمد عليه عندهم أخيرًا هو ما كتبه عزرا كما فصلناه من قبل في المجلد الرابع من المنار. ففي الفصل السابع من سفر عزرا ما نصه: (وبعد هذه الأمور في ملك أرتحشستا ملك فارس عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا ٢ بن شلوم بن صادوق بن أخيطوب ٣ بن أمريا بن عزريا بن مرايوث ٤ بن زرحيا بن عزي بن يقي ٥ بن أبيشوع بن فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن الرأس ٦ عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤاله - إلى أن قال - (٨ وجاء إلى أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك ٩ لأنه في الشهر الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله الصالحة عليه ١٠ لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعلم بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاءً) . وذكر بعد هذا صورة الكتاب الذي كتبه هذا الملك لعزرا الكاهن بالإذن لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم معه من شاء منهم وفيه ما نصه: (٢٥ أما أنت يا عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب..) - إلى أن قال - (١٦ وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقضَ عليه عاجلاً إما بالموت..) إلخ. بهذه العبارة يستدلون على أن عزرا كتب التوراة بعد فقدها وهو لا يدل على زعمهم وأنَّى له أن يكتب التوراة كما أنزلت وقد مضت القرون عليها وهي مفقودة ولم ينقل أن أحدًا حفظها كما يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم. نعم، لا يعقل أن أمة تُؤْتَى شريعة وتعمل بها وتساس بأحكامها ثم تنساها بالترك كلها بحيث لا تحفظ منها شيئًا بل المعقول أن العمل من أسباب الحفظ فالإسرائيليون - وإن طال عليهم أمد السبي وحُكموا زمنًا طويلاً بغير شريعتهم - لا بد أن يكون أهل الفهم والبصيرة منهم قد ظلوا يذكرون كثيرًا من تلك الأحكام الإلهية فلما رحمهم أرتحشستا ملك بابل وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم وأمر كاهنهم عزرا بأن يضع لهم قضاة وحكامًا يعملون بشريعة إلههم وشريعة الملك كتب لهم عزرا هذه التوراة الحاضرة وأودعها ما كان لا يزال يحفظه من وصايا الرب وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت هذه التوراة الحاضرة وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت هذه التوراة مزيجًا من الشريعتين كما تبين بالاكتشافات الجديدة. وكتب العهد العتيق التي يسمون مجموعها التوراة تؤكد كون الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام قد كُتبت بعده بزمن طويل كما بيناه في الجزء التاسع عشر من المجلد الرابع، ومن ذلك ما جاء في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ونصه: (٢٤ فعندما كمل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها ٢٥ أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً ٢٦ خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب..) إلخ. ومنه ذكر وفاة موسى في الفصل الأخير من هذا السفر المنسوب إليه، وقول كاتبه بعد ذلك (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (ثم قوله) ولم يقم بعدُ نبي في إسرائيل مثل موسى) وهاتان الجملتان تدلان على أن هذه التوراة قد كتبت بعد موت موسى واندراس قبره بزمن طويل. وقد ذكرنا في ذلك الجزء أن علماء بروتستانت لم يسعهم إلا الاعتراف بفقد توراة موسى وأن صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية) صرح بفقدها وانقطاع عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين في مدة ملك منسا وأمون وأنه قال بعد ذلك (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها. والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرب بختنصَّر الهيكل وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فُقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) هذا نص عبارته بالحرف. وقد علمت أن ليس في سفر عزرا ذكر نسخ ولا كتب وإنما قصارى ما يفهم منه أن الملك البابلي أمره بتعيين حكام لإسرائيل يحكمون بما يعرف من شريعة إلهه وشريعة الملك. ونتيجة ما تقدم كله أن أسفار التوراة الحاضرة نفسها تؤيد الاكتشافات الحديثة وأنه ثبت بمجموع الأمرين أن التوراة الحاضرة ليست توراة موسى وإنما فيها شيء منها لاستحالة أن تكون نسيت كلها وذلك كافٍ في هدم الديانة اليهودية والديانة المسيحية المبنية على كتبها. * * * زلزال النصرانية في أوربا أنس النصارى واليهود بما في كتبهم من الدلائل على عدم الثقة بنقل التوراة والإنجيل وكابروا أنفسهم والناس بدعوى تواترهما، إن شرط التواتر أن ينتهي سند الرواة الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب لكثرتهم إلى من جاء بالكتاب كأن ينتهي تواتر التوراة إلى موسى نفسه لا إلى عزرا الذي لا يعلم أحد من أين جاء بما جاء به هل هو من البابليين أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته البابليين؟ ! أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته البابليين. ولكن القيامة اليوم قائمة في أوربا لاكتشاف شريعة حمورابي (ملكي صادق) وبيان أنها توافق هذه التوراة في أحكامها وتخالفها بعض المخالفة في تاريخها؛ لأنهم لم يروا مجالاً في هذا للمكابرة والمواربة. وقد حكم العلماء بأن إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) هو الذي حمل نسخة هذه الشريعة من بابل إلى فلسطين عند قدومه إليها وأن موسى (عليه الصلاة والسلام) قد اقتبس منها كل ما رآه يصلح لسياسة بني إسرائيل كما اقتبس بعض ذلك من الشريعة المصرية التي تربى في بيت ملكها وبذلك تكون هذه الشريعة التي يفتخر اليهود والنصارى بأنها إلهية مقتبسة من الشرائع الوثنية ويكون موسى مزورًا بادعاء أنها أوحيت إليه من الله! (حاشاه حاشاه) . خطب العلامة اللاهوتي الأثري (دليتش) أحد أعضاء (جمعية الشرق) في هذا الموضوع خطبة مطولة في برلين حضرها قيصر الألمان والقيصرة وجماهير العلماء والكبراء وقال في خطبته على رؤوس الأشهاد: إن شرائع التوراة منقولة عن الشرائع البابلية وليست وحيًا من الله واستنتج من ذلك أنه لا حاجة إلى دين وراء وجدان الخير المغروس في الفطرة؛ وذلك أنه ختم الخطابة بقوله: إننا نضع أيدينا على قلوبنا ولا نحتاج إلى وحي غير الوحي الذي يصدر عنها! . قرع هذا العالِم النصرانية بهذا القارعة في ذلك الملأ العظيم فتزلزلت هي ولم تزلزل مكانته من نفوس القوم وإن كان فيهم مَن استاء منه؛ لأن تقاليد الدين مطبوعة في وجدانه فهو يأنس بانطباعها، ويتألم لانتزاعها، أو لأن السياسة تقضي بالمحافظة على الدين وإن زلزله العقل، وزعزعه النقل، فقد نقلت الجرائد أنه بعد خطابه جلس إلى القيصر والقيصرة يحادثهما ويحادثانه بكل طلاقة وقبول. وقد عجب بعض الناس أن رأوا غليوم الثاني الذي أقام أوربا وأقعدها ثم دعاها إلى محاربة الصين دعا أن أهانت بعض دعاة الدين يلاطف عالمًا لاهوتيًّا أثريًّا بعد أن قضى على هذا الدين القضاء المبرم. ولا عجب فإن الدين عند هذا القيصر وأمثاله من آلات السياسة ولا يصح أن تكون السياسة عدوة للعلم الذي هو أقوى آلاتها. * * * المذهب الجديد بعد هذا اجتمع القيصر بهذا الخطيب مرة أخرى ثم أعلن رأيه في المسألة فلاح لذهنه الوقاد أن يضع للنصرانية مذهبًا جديدًا يستبقي به كونها آلة سياسية تنتفع بها أوربا في مقاومة الشرق ويقطع به لسان العلم عن المحاجة والمجادلة فكتب إلى صديقه الأميرال (هولمن) كتابًا يقول فيه ما تعريبه باختصار قليل جدًّا: (إن الأستاذ دليتش دخل مع القيصرة والوكيل العام (درياندر) في بحث استمر عدة ساعات وما كنت أنا إلا من السامعين. ومن سوء الحظ أن الأستاذ انتقل من البحث التاريخي في المسائل الدستورية إلى مسائل دينية لا محل لها فلبثت مصغيًا حتى إذا ما انتهى إلى الخوض في العهد الجديد عرفت رأيه فإنه قال في مخلِّصنا أقوالاً شاذة مناقضة لما أرى وأعتقد؛ ذلك أنه لا يعتقد بلاهوت المسيح ويرى أن ليس في التوراة شيء من الوحي والنبوة عن يسوع بأنه المسيح. فهنا يفنى الأستاذ دليتش المؤرخ الأثري في الأستاذ دليتش اللاهوتي فيبقى هذا اللاهوتي ماثلاً بما فيه من النور والظلام معًا. إنني أنصح له بأن يخطو في هذه السبيل خطوة بعد خطوة لائذًا بجانب التأني والحذر وأن يختص بهذه الآراء الدينية رصفاءه اللاهوتيين ويودعها كتبهم وأن يكفينا الخارجين عن هذه الدائرة مثلنا مؤنة البحث في هذه المسائل ولا سيما (جمعية الشرق) التي لم تنشأ لتكون ندوة للبحث في جميع الآراء وإنما نبعثر الأرض [١] ونقرأ ما كتب على الآثار المستخرجة منها لمساعدة العلم والتاريخ لا لتأييد الآراء الدينية أو تفنيدها. ويا ليت دليتش لم يتجاوز في هذا العام الحد الذي وقف عنده في العام الماضي وهو الاستدلال بما تستخرجه جمعيتنا من الآثار الشرقية على ما كان للمدينة البابلية القديمة من التأثير في مدنية الإسرائيليين لنعرف العادات والأخلاق والشرائع التي أخذوها من البابليين ونرى هل يوجد فيها ما يزكي البابليين مما تصفهم به التوراة من الأوصاف التي لا شك في كونها شنيعة وغير عادلة، هذا هو حد شرطه الأول وكان غرضه منه كبيرًا يجب علينا أن نشكره له؛ ولكنه من سوء الحظ قد تجاوزه في هذه المرة. (ولو أنه شرح المسألة وترك للسامعين استخراج النتائج الدينية منها لنالت خطبته استحسان جميع السامعين؛ ولكنه طفق يناقش في مسألة الوحي فأنكرها بالجملة والتفصيل ثم ظن أنه قادر على إثبات كون أصلها بشريًّا محضًا فارتكب خطأً عظيمًا بما دمر على النفس [٢] في باطنها وعبث بهيكلها المقدس في غير واحد من سامعيه الذين تختلف عقولهم باختلاف طبقاتهم. سواء كان مخطئًا أو مصيبًا في الواقع ونفس الأمر فإنه قد نكس في نفوس كثيرين أنفس الصور والاعتقادات المقدسة عندهم وزلزل أساس إيمانهم إن لم نقل إنه نسفه في اليم نسفًا. وهذا عمل لا يجسر عليه إلا أصحاب القرائح الملتهبة والعقول الكبيرة) . *** أقيصران أم نبيان؟ ! (أما الوحي فهو في اعتقادي الذي كاشفتك به أنت وغيرك من قبل نوعان: أحدهما تاريخي، وهو مستمر لا ينقطع. وثانيهما ديني خاصّ وكان تمهيدًا لمجيء المسيح. أما الوحي الأول فهو أن الله يظهر دائمًا في الجنس البشري الذي هو خليقته وصنيعته فإن نفخ في الإنسان من روحه أعني منحه شيئًا من ذاته [٣] إذ أعطاه نَفْسًا حية. وهو يراقب نمو الجنس البشري بعناية الأب ليحسن أحواله فيظهر تارة في رجل عظيم هنا، وتارة في رجل آخر هناك سواء كان ذلك الرجل كاهنًا أو ملكًا وسواء كان بين الوثنيين أو اليهود أو النصارى [٤] وقد كان (حمورابي) من هؤلاء الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهوميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوته وقَنْت والإمبراطور غليوم الكبير. فإن الله اختار هؤلاء ورآهم أهلاً لأن يعملوا بحسب إرادته أعمالاً عظيمة دائمة خدمة لأممهم، سواء كان ذلك العمل روحانيًّا أو عالميًّا، وكثيرًا ما كان جدي يقول: إنه لم يكن إلا آلة بيد الله. ولا شك في أن ظهور الله تعالى في الأشخاص يكون على حسب استعداد أممهم ودرجتها في الحضارة، ولا يزال يظهر هذا الظهور حتى في عصرنا هذا (كأنه يومئ إلى أنه ظهر فيه الآن كما ظهر في جده من قبل) . (أما النوع الثاني من الوحي وهو الديني الروحاني الخالص فقد ابتدأ من زمن إبراهيم ببطء وحكمة ولولاه لقضي على النوع البشري وقد نما وتسلسل نسل إبراهيم على الاعتقاد بإله واحد وقد حفظته عناية الله تعالى بحفظه هذا الإيمان حتى ختم هذا الوحي وانتهى بظهور المسيح الذي كان أعظم مظهر لله تعالى في هذا العالم. ذلك أن الله ظهر يومئذ في شخص الابن بصورة بشرية (تعالى الله عن هذه الوثنية) وهو مخلصنا الذي يملأنا حماسة ويدعونا إلى اتباعه وإننا لنشعر بناره تأجج في أحشائنا، وبرحمته تعزينا. وإننا باتباع وصاياه نقتحم كل شيء لا نبالي بالتعب ولا بالازدراء ولا بالحزن ولا بالفقر ولا بالموت؛ لأننا واثقون بالنصر لسماعنا منه الوحي الإلهي الذي يصدق دائمًا. (هذا هو رأيي في المسألة فإن (الكلمة) عندنا معشر البروتستنت بمنزلة كل شيء وذلك بفضل (لوثر) علينا. وكان على (دليتش) أن لا ينسى ما كان يعلمنا إياه لوثرنا العظيم وهو: (يجب عليكم أن تبقوا على الكلمة) . (ومن البديهي عندنا أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من البشر لا وحي الله. ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله اعتبر تلك الشريعة موحى بها من الله إلا اعتبارًا شعريًّا رمزيًّا؛ لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن شرائع أقدم منها على الأرجح وربما كان أصلها مأخوذًا من شرائع (حمورابي) ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالاً بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل وبين شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى وذلك لا يمنع قطعيًّا من الاعتقاد بوحي الله لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته. وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي: (١) إنني أومن بإله واحد. (٢) إننا معاشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله إلى شيء يمثل إرادته وأولادنا أشد احتياجًا منا إلى ذلك. (٣) إن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا بالتقليد. وإذا فندت الاكتشافات الأثرية بعض رواياتها وذهبت بشيء من رونق تاريخ الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك لأن روح التوراة يبقى سليمًا مهما طرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال وهذا الروح هو الله وأعماله! (إن الدين لم يكن من محدثات العلم فيختلف باختلاف العلم والتاريخ وإنما هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله. هذا وإنني مع الشكر والثناء أظل دائمًا صديقك المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... غليوم ... ... ... ... ... ... ... ... ... إمبراطور وملك (المنار) هذا هو كتاب عظيم الألمان وهو على ما فيه من التمويه والمواربة والتعارض والتناقض والميل مع ريح السياسة يدل على فهم ثاقب وفكرة وقادة وينبّئ عن بُعد غور. ومجمل ما يقال فيه: إنه مذهب جديد أو دين جديد ويظهر أن هذا القيصر يعتقد أو يدَّعي بأن الله جل وعلا قد ظهر فيه كما ظهر في جده غليوم الأول فكانا نبيَّين أرسل أحدهما لتكوين الوحدة الألمانية، وثانيهما لحفظ مجدها وإطلاع كوكب سعدها، وقد غمط حق من كان أحق منه ومن جده بهذا الظهور الإلهي المدعى وهو البرنس بسمرك الذي كان آلة في يد الله وكان جده غليوم الأول آلة بيده. ولئن غمط حق بسمرك فقد غمط حق من هو أعظم منه ومن إبراهيم وموسى وعيسى وهو (محمد) عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام فهو الذي جاء عن الله تعالى بعلوم وعمل بعناية الله تعالى أعمالاً لم يسبق ما يقاربها لغيره ولن يلحقه بما يقاربها غيره، فشريعته أعدل من شريعة التوراة ولا يمكن أن يوجد اكتشاف يظهر أنها مستفادة من شريعة أخرى والوحدة التي كونها بنفسه أحوج إلى المعونة الإلهية المحضة من الوحدة التي كونها بسمرك وغليوم الأول؛ لأن تفرق قبائل العرب وشعبها كان أشد ولم يكن عندهم من العلوم والمعارف والمدنية التي تقرب بعضهم من بعض مثلما كان عند الولايات الجرمانية. ثم إن الوحدة العربية قد استتبعت من الفتوحات ونشر العلم والمدنية في الممالك ما لم يكن مثله أو ما يقاربه للوحدة الألمانية على أن تبرير هذه الأمة في العلوم غير مجهول؛ ولكن الفرق بين الأمتين أن ظهور هذه كان في عصر العلوم والاكتشافات والاختراعات وظهور تلك كان في بداوة وجاهلية وأمة أمية. فأيهما كان بالأسباب العادية، وأيهما كان بمحض العناية الإلهية؟ ! * * * الحكم العدل في الكلام وخطوة أوربا أو وثبتها إلى الإسلام في كتاب القيصر أفلاذ من الذهب النضار، وفيه كثير من الحصا وقطع الفخار، وقد كاد يصل بذكائه إلى الحق ولكن بقي دونه حجاب نكشفه بعد بيان نتائج كتابه وهي: (١) أن للعالم إلهًا واحدًا يدبره بقدرته، ويخص بعض العباد بمزيد معونته. (٢) أن البشر في حاجة شديدة إلى معرفة الله تعالى بأن يكون بينهم وبينه عهد وصلة ليعرفوا بذلك ما يريد بهم وما يرضاه منهم. (٣) أن الله تعالى قد وهب البشر هذه الحاجة بالوحي الديني. (٤) أن حقيقة الوحي هي ظهور الله تعالى في البشر بأن ينفخ فيهم من روحه - أي يعطيهم شيئًا من ذاته - وهو قسمان: ديني محض، وغير ديني محض. هذه أربع نتائج عامة كلها مستفادة من كلامه وهي صحيحة إلا الأخيرة منها فإنه قارب فيها الحق ولكنه لم يصل إليه. والصواب أن فاطر السموات والأرض لا تتجزأ ذاته وأن البشر - وإن كانوا مكرمين ومفضلين على كثير من المخلوقات - لا يخرجون عن كونهم جندًا صغيرًا من جنوده التي لا تحصى فليس من العقل ولا من الحكمة أن نغتر بأنفسنا حتى نحصر الذات الإلهية في أفراد منا دون هذا العالم الكبير الذي تعد أرضنا كتلة صغيرة منه، وجميع ما فيها من الأحياء كالذرات الصغيرة التي نراها تعيش في كتلة من هذه الأرض. ولكن هذا العالم العظيم الذي يدهش الواقفين على بعض أسراره بنظامه وإحكامه لم يكن هذا النظام العام فيه بفعل هذه الأجسام التي نعرفها بحواسنا؛ ولكن الله تعالى بث فيه عالمًا روحانيًّا غير منظور جعله علة لهذا الإحكام والنظام. وقد لمحت عقول البشر هذا العالم في طور وثنيتهم فسموه عالم الآلهة، وزعموا أن لكل أمر عام إلهًا خاصًّا يدبره. ولكن الأنبياء سموه عالم الملائكة. وقولهم هو الحق لأنهم عرفوا ذلك بالوحي. والوحي عبارة عن اتصال روح النبي بروح من هذه الأرواح واستفادته نوعًا من العلم منه. الروح الذي يفيض العلم على الأنبياء يسمى بلسان الدين الروح الأمين وروح القدس عبر عن اتصاله بروح النبي لإفادة العلم بلفظ النزول قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: ١٩٣-١٩٤) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: ٥٢) وأما العلم الذي يستفيدونه من هذا الوحي فأهمه معرفة الله تعالى على الوجه الصحيح ومعرفة الحياة الآخرة، ويلي ذلك بيان الأعمال النفسية والبدنية التي تؤيد هذا الاعتقاد وتقويه وترقي النفس الإنسانية. والفرق بين علم الأنبياء الذي يسمي وحيًا وبين علم هوميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وبسمرك وغليوم الأول وغليوم الثاني وأمثالهم أن علم الأنبياء لم يكن مكتسبًا وإنما كان يقع لهم بواسطة الروح الذي ينزل على قلوبهم، وأن موضوعه ما ذكرنا من أمر الإيمان وحفظ الصلة بين العبد وربه. وأما علم أولئك الملوك والشعراء فقد كان كسبيًّا وموضوعه ليس متعينًا فهو خيالات وتصورات وحكايات وسياسات منها الحق والباطل، ومنها الحالي والعاطل، ولا معنى للقول بأن كل نابغ في شيء من الأشياء يسمى نبيًّا وعلمه وعمله وحيًا إلا إذا أردنا أن نجعل الوحي أمرًا عاديًّا كما يقول الذين أنكروا الوحي في أوربا لسقوط ثقتهم بالكتب المنسوبة للأنبياء والقيصر أرقى عقلاً أن يقول بذلك وما قلناه قريب من قوله ولعله لو وقف عليه لقال به. وأما النتائج الجزئية في كلامه فهي: (١) أن الوحي الديني الروحاني المحض قد بدئ بإبراهيم وانتهى بالمسيح. (٢) أن ظهور الله في المسيح كان أعظم ظهور له في هذا العالم. (٣) أن اتّباع وصاياه كافية لاقتحام كل شيء ثقة بالنصر. (٤) أن ما في التوراة من التاريخ والشرائع والأحكام بشري مستفاد من البشر وليس وحيًا من الله ولا يمنع ذلك كون موسى نبيًّا. (٥) أنه ليس عندنا شيء نتخذه عهدًا بيننا وبين الله تعالى فنعرف به مراده بنا وما يرضاه لنا إلا هذه التوراة. وإن ما فيها من الكذب على الله تعالى بنسبة الشرائع إليه ومن الكذب في التاريخ المقدس لا يحول دون ذلك! وهذه النتائج كلها غير صحيحة فإن التوحيد قد عرف عند الأمم قبل إبراهيم وبعث قبله أنبياء دعوا إلى مثل ما دعا إليه هو والأنبياء من ذريته؛ ولكنهم انقرضوا وعفت آثارهم، وإن ظهور الله - عنايته ووحيه - في المسيح كان دون ظهوره في موسى فإنه كان متبعًا شريعته مع إصلاح قليل؛ ولذلك قال: (ما جئت لأنقض الناموس) وإن ظهوره في محمد كان أعظم من ظهوره في إبراهيم وموسى والمسيح فمَن دونهم من البشر؛ لأنه هو الذي صدق عليه وحده القول المأثور عن المسيح عليه السلام: (١٢ أن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ١٣ وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ١٤ ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم) (١٦ يو) . فقد صرح بأن الناس لم يكونوا مستعدين في ذلك العصر لمعرفة كل الحقائق الدينية، وقد علّم محمدٌ الناسَ جميع الحق في العقائد المبنية على البرهان والعبادات المؤثرة في الروح والأخلاق المبنية على الاعتدال والأحكام المبنية على العدل. وأسس دينًا - هو وإن ضعف زعماؤه - أرسخ الأديان وأقواها، وشريعة هي - وإن قل أنصارها - أعدل الشرائع وأعلاها، وأمة كانت باتباعه أعز الأمم وأنماها، نعم، إنها الآن مريضة ولكنها ستبل إبلالاً، وتعود لها السيادة الأولى إن شاء الله تعالى. هذه إشارة إلى بطلان النتيجة الأولى والثانية. وأما الثالثة فبطلانها أظهر؛ لأن هذا القيصر وأمته أبعد الناس عن وصايا المسيح التي تدور على الزهد المطلق والذل وترك الانتصار للنفس ولو اتبعوا وصايا الإنجيل لضربتهم فرنسا عن الخد الأيمن (الإلزاس) فأداروا لها الخد الأيسر (اللورين) . وأما الرابعة فقد جمعت بين النقيضين، وهما كون موسى يدعي أن شريعته وحي من الله وما هي بوحي من الله، وإنما نقلها عن شرائع الأمم الوثنية وكونه مع ذلك نبيًّا موحًى إليه من الله! ولا ندري ما هو هذا الوحي المبهم إذا لم تكن الشريعة وحيًا ثم لا ندري ما هو الدليل على هذا الوحي؟ ! . هذا رأي يمكن أن يُقبل في حيز السياسة لا في حيز الدين، ويمكن أن يقال باللسان، ولا يمكن أن يستقر في الجَنان. ومن العجائب أن البابا وافق على رأي قيصر الألمان في كون شريعة التوراة وتاريخها من وضع البشر لا من وحي الله كما جاء في بعض الصحف؛ ولكن ماذا يصنع البابا إذا لم يجد منفْذًا لدفع الشبهة ولا طريقة لحل الإشكال؟ ماذا يصنع وقد أقنعه بذلك العلم والاكتشافات التي لا يكاد يخفى عليه شيء منها وهو في الدرجة العليا علمًا وعقلاً وسياسةً؟ لعله لا يوجد في الأرض مَن هو أحرص من البابا ومن غليوم الثاني على المحافظة على التوراة وتقديسها ولا من هو مثلهما علمًا، وقد أعياهما حل هذا الإشكال مع طول باعهما وسعة اطلاعهما وكثرة أتباعهما من العلماء والحكماء. * * * آية جديدة للقرآن وإن تعجب فأعجب العجائب أن القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا قد نطق بما أثبته العلم وأيدته الاكتشافات في هذا العصر، وحل الإشكال حلاًّ لا بد أن يرجع إليه جميع العلماء في وقت قريب. وهذه معجزة ظاهرة، أو نبوة باهرة - كما يقولون - ولا غرو فالقرآن لا تنتهي عجائبه، وهو حجة الله على العالمين منذ أُنزل إلى يوم الدين، حكم القرآن بأن بني إسرائيل نسوا حظًّا من الوحي الذي ذكرهم الله تعالى به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام وحفظوا حظًّا آخر وقع فيه شيء من التحريف والكذب. قال تعالى (في سورة آل عمران ٢٣) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} (آل عمران: ٢٣) وقال في (سورة النساء) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (النساء: ٤٤-٤٦) إلخ. وقال بعد آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: ٥١) ، وقال تعالى (في سورة المائدة ١٣) بعد ذكر أخذ الميثاق على بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: ١٣) . وهذا الحكم هو المعقول وإنما ظهر صدقه وكونه معقولاً في هذا العصر فصح قول المسلمين في القرآن (لا تنقضي عجائبه، ولا تتناهى غرائبه) فيا له من معجزة تفيض بالمعجزات الكبيرة، ويا له من آية بينة تنطوي على آيات كثيرة، أنَّى لأمي نبت في أرض جاهلية، وتربى في أمة أمية أن يحكم على شريعة كانت أم الشرائع، وتاريخ أمة كانت أشرف الأمم حكمًا لم يعرف عن علماء الشرائع والقوانين، ولا عن مدوني القصص والتواريخ، فيحز في المفصل، ويقول القول الفصل، ويأتي بكلمتين ثنتين لا تبلغ مساحتهما في الكتابة سطرًا واحدًا: {فَنَسُوا حَظًًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٤) ، {.. أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَاب} (آل عمران: ٢٣) ؟ تتمخض الأيام والسنون، وتمر الأجيال والقرون، ثم لا تظهر حقيقة تأويلهما إلا بعد أن تنبث دفائن الأرضين، وتستخرج منها آثار الغابرين، ليتم قول الكتاب أيضًا: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: ٥٣) . {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: ٨٢) أفلا يتأملون في قوله للنبي الأمي الذي أنزل عليه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: ٤٨) . فإلامَ الشك والارتياب، وقد ظهرت آياته لأولي الألباب؟ ! بهذا الحل يتبرأ موسى عليه السلام من شبهة الكذب على الله تعالى وتتبرأ شريعته من شبهة الاقتباس من الشرائع البشرية لأن هذه الشريعة لو كانت موجودة بالنص الذي كتبه موسى عن الوحي الإلهي لظهر الفرق بينها وبين شريعة (حمورابي) وتبين أن المشابهة بينهما قليلة لا تصلح شبهة على اقتباس المتأخرة من المتقدمة. على أن التوافق بين الشرائع في بعض المسائل أمر طبيعي سواء كانت سماوية أو بشرية أو بعضها سماوي وبعضها بشري؛ لأن الوفاق في الطبائع وحال الاجتماع يقضي بالوفاق في الأحكام. ومازالت تتوارد خواطر العلماء والشعراء على بُعد الدار، واختلاف الأعصار، وإذا كنا لا نرى دليلاً أو أمارة على أن أحدهما أخذ عن الآخر فلا يجوز لنا أن نحكم بهذا الأخذ. والدليل على أن التوراة الحاضرة قد اقتبس بعضها من البابليين واضح مما في سفر عزرا ومما أظهرته الاكتشافات. ويدل سفر عزرا وغيره أيضًا على ما يقضي به العقل من عدم نسيان بني إسرائيل شريعة الرب فتعين أن يكون الحاضر مزيجًا. فقد اتفق في المسألة العقل ونقل كتب العهد العتيق والتاريخ والآثار على تصديق القرآن في حكمه على بني إسرائيل وشريعتهم. فعلى عظيم الألمان ومقدس الكاثوليك (البابا) أن يرجعا إلى حكم الله تعالى في المسألة فهو أفضل من حكمهما الذي يزيل ثقة جميع النصارى بالوحي وكتبه ويجعلهم إباحيين مفسدين للعمران. وليعلم الزعيمان العظيمان أن دين الله تعالى واحد، وأن تلك الأديان قد نسي بعضها ونسخ الباقي؛ لأن الله تعالى أراد أن يعطي البشر ما هو أكمل منها كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: ١٠٦) فعليهما أن يتركا التعصب لقومهما وأن يكونا زعيمين للبشر كافة لا للألمان والكاثوليك أو النصارى خاصة، وذلك بأن يأخذا بجوهر الدين الخالص الذي بيَّنه القرآن وهو الكتاب المحفوظ الذي لا ريب فيه الذي جاء بالحق وصدق المرسلين وإذا تأملاه بإخلاص فلا شك أن نور الحق يشرق عليهما كما أشرق على كثير من أهل العلم في أوربا. جاء في كتاب (ديانات الأمم وعقائدهم) للأستاذ ليننز ما خلاصته: (إن دين الإسلام دين يوافق الناس كافة ويجعلهم أمة واحدة وإنني أؤمل أن أرى النصارى بعد حين آخذين بدرس هذا الدين والتدين به وموالاة محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن دينه الدين القويم المبين) (راجع ٥ الصفحة ٢٩٢-٣٠٠ من هذا الكتاب المطبوع في لندن سنة ١٩٠١ ومثل هذا القول أقوال كثيرة) . وقد بينا في مقالة (مسير الأنام ومصير الإسلام) بعض المبشرات التي تدل على خطوات أوربا إلى الإسلام من حيث تدري ولا تدري وإننا نعد هذا الاكتشاف الجديد الذي أيد القرآن وما قاله عظيم الألمان وحبر أحبار الرومان فيه خطوة من تلك الخطوات، بل وثبة من الوثبات. ... ... ... والعاقبة للمتقين، والله ولي المؤمنين.