(تقريظ العلامة الفقيه الأديب، الكاتب الشاعر الخطيب، صديقنا الأستاذ الشيخ إسماعيل الحافظ الشهير من نابغي تلاميذ الأستاذ الإمام ومريديه، وعضو محكمة فلسطين الاستئنافية الشرعية في القدس الشريف) . قال بعد رسوم الخطاب: تشرفت بالتحفة السنية التي تفضلتم بإهدائها إليَّ، وهي الجزء الأول، ثم الجزء التاسع من تفسيركم الكبير المعروف بتفسير المنار وهو الذخيرة الثمينة، والحجة القويمة، والنعمة الورافة، والقدوة المتبعة، التي طالما ارتقبها المخلصون ليفوزوا باقتنائها، ويهتدوا بضيائها، وينعموا بآلائها، ويتقدموا إلى معرفة الحق الصريح، وممارسة العلم الصحيح، تحت لوائها. قرأت الجزء الأول من هذا التفسير وقسمًا غير قليل من الجزء التاسع فعلمت كيف يختص الله من يشاء من علماء هذه الأمة بفضله، فيفضي إليهم بسر شريعته، ويكمل نفوسهم بفقه دينه، ويقيمهم على الطريق السوي، في فهم كتابه، والتحقق بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوهما إلى الناس في كل زمان على الوجه الملائم لذلك الزمان، ورأيت بعين الإعجاب كيف أحاط السيد الكريم حفظه الله بمقتضيات الزمان، ونفذ إلى روح العصر، ووقف على ما حدث فيه من مسائل العلم ومشاكل الاجتماع، وما تجدد من مذاهب وآراء، ومزاعم وأهواء، وما نبغ من شبهات وشكوك يثيرها دعاة الإلحاد إرضاء لأهوائهم، ومن أباطيل وأضاليل ينشرها رجال التبشير توصلاً إلى غايتهم، وكيف قدر حالة المسلمين إزاء ذلك كله وحاجتهم الماسة إلى هداية قرآنية تنقذهم من ظلمات هذه المدنية الحاضرة وشرورها، وتأخذ بيدهم إلى الأخذ بمحاسنها والاستضاءة بنورها، فأخرج لهم تفسيره هذا لم ير الناس مثله تفسيرًا تُبَادر القارئ فائدته، وتدنو من المستفيد قطوفه، وتملأ القلوب جلالته، ويأتي على أقصى ما يطلب المتفهم من معاني الآيات، ومن نكات بلاغتها ووجوه إعجازها، وما يقتبسه من نور هدايتها، بأسلوب فذ طريف يلقيها به في نفسه، ويقر ما يلقيه من ذلك بشواهد من نفس القرآن الحكيم، وبطرائف من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وشمائله وجوامع كلمه، بعد التثبت منها وتمحيصها تمحيصًا قلما كتب مثله لأحد من قبله، ويؤيده بأمثلة من كلام البلغاء وجهابذة الفصاحة، ومن عبر التاريخ الصحيح، ومن آثار الصحابة ومن يليهم من علماء الدين، ثم يوضح ذلك بقضايا العلوم والفنون القديمة والحديثة، وبقواعد الاجتماع وبسنن الله في خليقته، فهو لا يترك في معاني الآيات الكريمة سؤالاً إلا بادره بجوابه، ولا خطأ من بعض وجوه الفهم إلا عاجله بصوابه، ولا شبه معارضة بين العقائد الدينية والقواعد العلمية إلا أزالها بفصل خطابه، ولا أصلاً من أصول الاجتماع، ولا سنة من سنن التكوين، ولا حكمة من حكم التشريع، إلا عالجها معالجة الحكيم، حتى راض صعابها، واستخرج لبابها. وجعل ذلك كله خادمًا لبيان الهداية الإلهية، والدلالة الربانية، التي اشتمل عليها القرآن الحكيم، والتي هي الغاية المقصودة للمؤلف أيده الله من تأليف هذا التفسير، فأفاض في بيان تلك الهداية وفي دلالة العقول عليها، وسوق النفوس إليها. وعني ما شاء له إخلاصه بكشف شبه الحائرين من المسلمين في فهم العقيدة، ودلَّهم بيانه العذب على مزايا الشريعة، وسلك في تقرير عقائد الإيمان مذهب السلف الأقوم، ونصره على مذاهب المتكلمين، وقرب فهمه إلى الأذهان بأحدث ما عرف في هذا العصر من النظريات العلمية، في المظاهر الروحية والمدارك النفسية، وفي مادة الكون الأصلية وظواهرها وأطوارها، كما نراه في بحث الرؤية، وفي تحقيق معنى الكلام الإلهي والاستواء ونحوها. ثم انبرى للملحدين فدمغهم بالحجة الساطعة حتى كشف أسرارهم، وأبرز للناس عوارهم وعمد إلى جماعة المبشرين الذين لم يتركوا وسيلة من وسائل التنفير من الدين الإسلامية فَفَلَّ حدهم وهزم جندهم. واهتم الاهتمام كله بتقرير أن الإسلام هو موطن العزة والسلطان، وأنه هو الذي يرفع نفوس الآخذين به إلى أسمى ما ترتفع إليه نفس بشرية، ويوجب عليهم اجتناب سَفْسَاف الأمور والأخذ بمعاليها، ويهيب بهم إلى الرقي المادي والمعنوي في هذه الحياة بالأسباب التي جعله الفاطر الحكيم نتيجة لها ومترتبًا عليها، ويتبع ذلك أن يوجب عليهم تعرف كل ما يتوقف عليه ذلك الرقي من علم وعرفان، وإحسان وإتقان وسيرة وخلق , ولقد أمعن حفظه الله في جميع ذلك استقراء واستقصاء، وأتى على ما يستقصيه إيضاحًا وبيانًا، ودليلاً وبرهانًا، حتى ملأ القلوب حكمة وإيمانًا، وأفاض على سرائر العاملين وجوارحهم إخلاصًا وإحسانًا. ليس للمسلمين سبيل أهدى لهم في حياتهم الأولى والآخرة إلا سبيل القرآن، وليس لهم وسيلة للنجاة مما مُنُوا به إلا الرجوع إلى هداية القرآن، ولا أرى بين تفاسيره ما يُجْلِي هذه الهداية ويُشِفُّ عن أسرارها ويقرُّها في النفوس مثل هذا التفسير، المنقطع النظير، ولا طريقة أقرب إليها وأدل عليها كالطريقة التي جرى عليها المؤلف مقتفيًا آثار شيخنا الأستاذ الإمام طيَّب الله ثراه، فهو قد قدم بتفسيره هذا أعظم خدمة للمسلمين في هذا العصر، فما أجدرهم أن يتلقوه بما يجب له من العناية والاهتمام، وما أحقه بأن تتزين به دور الكتب ومعاهد العلم، وما أخلق أساتذة المدارس العلمية والمعاهد الدينية في البلاد الإسلامية، أن يرجعوا إليه، ويُعَوِّلُوا عليه، جزى الله مؤلفه الكريم خير ما جزى به العاملين المخلصين، وحفظه بوقايته، وأمده بتوفيقه وعنايته؛ ليكمل هذا الكتاب الجليل في عمله الجليل في أثره، ولينشئ أمثاله من الخيرات الحسان، إن شاء الله تعالى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ *** تقريظُ (الأستاذِ المُعِنِّ المُفِنِّ، الغوَّاصِ على جواهر كل علم وفن، في بحار آيات التنزيل صاحب المصنفات التي سارت بها الركبان أخينا الشيخ طنطاوي جوهري الشهير) . قال بعد رسم الخطاب: اطلعت على الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم المنار، فأحببت أن أكتب ما عَنَّ لي فيه فأقول: إن الله عز وجل لما خلق الناس جعلهم مختلفين صورًا وأشكالاً وأحوالاً وألوانًا، فهم وإن اتفقوا في الماهية، واتحدوا في الإنسانية، افترقوا في أميالهم وتباينوا في مشاربهم وطرق أعمالهم وتفكيرهم وسبل تعبيرهم وتأويلهم، وفهم ما يسمعون، وتفسير ما يقرءون، كما افترقت أغصان الأشجار في رياضها، وتباينت في أفانين أزهارها، ويانع ثمارها، وإنما كان ذلك لتَعْظُم العطايا، وتَكْثُر المزايا، وتَسْعَد البرايا، فيأخذ كل امرئ ما يواتيه، ويتعاطى منها ما يشتهيه) . فما مثل العلماء إلا كمثل الدوحات المختلفات أثمارًا، المتفقات غايات، فالروض يتنوع صنوف أزهاره، وافتنان أفنانه، واختلاف أزهاره، مثل مشاهد بما يقتطفه الناس من ثمار العلم والحكمة، وما يجتنون من أزاهير الأدب والفن من مؤلفات للمؤلفين الذين اتفقت غاياتهم وتباينت طرقهم، وما مثل كتاب الله تعالى إلا كمثل روضات غناء، ومثل المفسرين والعلماء بالفنون المختلفات، إلا كمثل علماء بفنون علم النبات وثمراته، قد أتوا من كل حدب ينسلون {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: ١٤٨) فمنهم من نظر في أشجارها وترتيبها، ومنهم من فكَّر في ثمارها وأزهارها، ومنهم من فكر في أسمائها ومنافعها الدمائية والغذائية، ومنهم من قاده رأيه ودله اختباره على البحث في أمر السماد وإزالة الحشائش لتنمو الشجرات. هكذا تفسير القرآن فمن المفسرين من فكروا في العلوم اللسانية، ومنهم من بحثوا في العلوم العقلية، ومنهم المجدون في العلوم الفقهية أو القصصية أو التاريخية أو الكونية و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) . فأما أخونا الفاضل الشيخ محمد رشيد رضا فقد أمده الله بالتوفيق في التحقيق، فلا يزال يبحث في المسألة الفقهية أو التاريخية، أو رواية الحديث أو القصة الإسرائيلية، حتى يستخلص الخلاصة الوافية، ويؤيدها بالحُجَج الواقية، فجزاه الله أحسن الجزاء، فما كل من ألف أجاد، ولا كل من قال وفَّى بالمراد، فلا يدع في القول مجالاً يطلب المزيد، لا يرحم مبتدعًا ولا زنديقًا، فهو يصب عليهما سوط غضبه، وعلى المخرفين من المسلمين، إنه لهم عدو مبين، ومن المتفرنجين الضالين منتقم مهين، يصول بسيف الحق والحق أبلج، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكم له من صولة في ميدان حرب البدع، والحق أن الأمم الإسلامية قد تفرقت شِيَعًا، وذاق بعضها بأس بعض، ولقد أذاقها الله سوء ما جهلت، وجرعها غصص ما كسبت، ولكن من عادة الله تعالى أن يجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق سعة {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} (البقرة: ٧٤) وبعد موت الأرض حياتها. وفي الكتاب الكريم: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الحديد: ١٦-١٧) . ولقد جعل الله أيامنا هذه عصر انتقال، وتبدل في الأحوال، فليبدلن الله أحوال المسلمين من ذلة الجهالة إلى عز المعرفة، ومن شقاء الخمول إلى سعادة العمل، ومن حاملي لوائهم صاحب تفسير المنار الذي أذاع في المشرقين ذم الخرافات، ونبذ البدع والضلالات، بقلمه السيال وهماته المتواليات، على قوم مثلهم كمثل كفار مكة إذ قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: ٣٥) فهو قائد صفوف الجيوش المعدة لمحاربتهم في بلاد الشرق، ولقد اصطفاه المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده لهذه المنقبة الشريفة، إذ وجده ابن بجدتها، وأخا محذرتها، وها أنا ذا أضرب للقارئ مثلاً لما في الكتاب. ذلك أنه في تفسير آية {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: ١٥٧) ذكر فصلا في بيان بشارات التوراة والإنجيل وغيرهما، فهذا الفصل ذكر فيه البشارات التي وردت في الكتابين، وأوضح الكلام على لفظ (الفارقليط) وأنها لم تدل ولم تنطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم. فلم يدع شاردة ولا واردة من هذه المباحث في هذا المقام إلا أوردها مع حسن العبارات والتلخيص والإيجاز بحيث: يقرب الأقصى بلفظ موجز ... ويبسط البذل بوعد منجز ويحق الحق ويبطل الباطل، ويذكر السير التاريخية المناسبة لها، مثل ما جاء في صفحة (٢٨٠) من أن متنس المسيحي الذي ادعى النبوة في القرن الثاني سنة ١٧٧ تقريبًا من الميلاد قد كان رجلاً نقيًّا مرتاضًا شديد الارتياض وكان في آسيا الصغرى مستندًا في تلك الدعوة إلى كلمة (الفارقليط) التي وردت عن المسيح عليه السلام ونقل عن صاحب (لب التواريخ) ما نصه: إن اليهود والمسيحيين من المعاصرين لمحمد كانوا منتظرين مجيء نبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم؛ لأنه ادعى أنه هو ذاك المنتظر انتهى ملخص كلامه، هذا ما جاء في صفحة (٢٨٠) من الجزء التاسع المذكور. ثم أورد حكاية النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر فهذان الملكان النصرانيان أقرا بأن كتابهما ناطق بانتظار نبي، ومثلهما الجارود بن العلاء، وهو من علماء النصارى فقد أسلم وأسلم قومه معه بناء على بشارة عيسى عليه السلام. وبالجملة فهذا المقام مع تلخيصه وحسنه استغرق من الكتاب نحو (٧٠) صفحة فليشكر الأستاذ أخونا الشيخ محمد رشيد رضا على حسن صنعه وتحقيقه ومحافظته على السنة والشريعة. إنما مثل تفسير القرآن والعلماء المخلصين في الإسلام كمثل آلة موسيقية لها فروع مختلفات، صادحات بأنغام شجيات، فعلى مقدار كثرتها وتناسبها وتقاربها وتعاشقها يزداد حسنها ويظهر جمالها، يعظم الانتفاع بها وتأثيرها في السامعين، ألا فليكن هذا دأبكم يا علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. يفسر العلامة الرازي ويفسر الأستاذ البيضاوي والعلامة الزمخشري ويفسر الشيخ محمد رشيد رضا، وآخرون يؤلفون في الفقه وحده، وغيرهم في علوم أخرى، ألا فليعلم المسلمون أن لكل موقف مزية، وأن الأمم كلما كانت أكثر جهالة كانت أكثر تباعدًا، وأشد تباغضًا، ومن جهل شيئًا عاداه. ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا فللقرآن مزايا لا يبرزها إلا اختلاف المباحث وتباين المناهج في البحث والتنقيب. إن المسلمين لم يكونوا في أزمان أحوج إلى التفنن في العلوم منهم اليوم فليقرءوا كل علم، وليدرسوا كل فن، وليحيوا ما أماتته يد الإهمال، وليكن العلماء منهم أصفى قلوبًا، وأقرب زلفى، وأعظم ودًّا، فإن العامة على آثارهم يهرعون والله يتولى الصالحين. ... ... ... ... ... ... ... ... طنطاوي جوهري