للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: اليزيدي


ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام
المُعَنْوَن بحياة محمد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
مقدمة وتمهيد:
حياة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اشترك في درسها الكُتاب والفلاسفة
والمؤرخون ورواة الأخبار منذ ما ينيف على العشرة قرون، وإن منهم إلا من بخسه
حقه، وقصر عن وصف نقطة من بحر مزاياه، ومع هذا فلا لوم عليهم ولا عتاب
مهما تفاوتت مداركهم، واختلفت أساليبهم، وتباينت مذاهبهم ومللهم؛ لأنه عظيم بل
أعظم من أظلته السماء، ولا ترتقبوا مني دليلاً على ما أدعي فإني أقصر باعًا ممن
تقدمني لهذا الباب، والقصور لا يمنع من ابتلي به عن إدراك النقص فيما يرى أو
يسمع، فها أنت ذا تأخذ على ممثل التصنعَ في القول أو تعيب عليه الخفةَ في
الحركات؛ ولكنك لا تستطيع أن تأتي بأحسن من صنعه، وهذا مثل واضح ضربته
حتى تعلم أنه ليس من شروط المنتقد أن يكون أعلم ممن تصدي لانتقاده أو - على
الأقل - في درجته، فإذا فهمته حق فهمه علمت أنني لا أدعي تفوقًا أو علمًا؛ وإنما
ألاحظ أن خزائن الكتب العربية خالية من تأليف يحتوي على درس دقيق لحياة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كل ما كتب إلى الآن في هذا الموضوع إلا
بمثابة مواد يجب على طائفة من العلماء أن يحللوها، ثم يرتبوها ويبوبوها بعد أن
يضيفوا إليها ما غفل عنه المتقدمون، وعند ذلك يضعون بين يدي الخاص والعام
أحسن تعريف بذلك النبي العظيم الذي لم يأت التاريخ بمثله.
فهو الرسول الوحيد الذي استطاع أن يأتي أمته في ظرف عشرين سنة بخير
دنياها وسعادة أخراها: شرَّع لها العبادات - سنَّ لها قوانين الزواج والطلاق
والإرث - شرح لها طرق الكسب والمعاش - أشرع لها منهج المعاملات - علمها
سياسة البلاد - قرر لها أنواع الأحكام - بيَّن لها آداب الأكل واللبس والزيارة -
زرع في قلوب أهلها الرأفة والشفقة - وحَّد صفوفهم - حرَّم عليهم ما فيه مضرتهم،
على حين كان مشتغلاً بحاجات بيته الطاهر، ناشرًا لدعوته الصادقة محاربًا
للمشركين الذين كانوا يكيدون له الكيد ليل نهار.
أرجو أن يسمع علماء المسلمين ندائي على خمول مصدره، فيصنفوا لنا كتابًا
تستنير به بصائر الجاهلين، وترتاح إليه قلوب الحائرين، ويزيد المهتدين إيمانًا
مع إيمانهم.
بمثل هذا الكتاب ينقطع سيل الحملة التي أرسلتها الكنيسة على الملة الإسلامية
بأن قلدت الجيوش من الدجالين أمضى ما لديها من الأسلحة وأوعزت إليهم أن ينالوا
من الديانة الإسلامية ما استطاعوا حتى تبطئ في السير أو ترجع القهقرى.
أنا مستيقن وأنتم معي - معشر المسلمين - بأنهم لن يصيبوا منها شيئًا؛ لأن
الله يأبى إلا أن يُظهرها على الدين كله بالرغم من المعاند والملبس، ومع هذا يجب
علينا - وخصوصًا العلماء منا - أن نعارض خطة الكنيسة في هذا الصدد، وأن لا
نغفل عن جماعة المفسدين المضلين الذين يريدون أن يزعزعوا بسطاء العقول
والجهلة ويزيغوهم عن معتقداتهم ثم يقودوهم إلى النصرانية.
فالتدارك التدارك قبل أن يتسرب الخراب إلى الطائفة المحمدية؛ لأن
خصومنا لا يذرون طريقًا مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها، ولا تركن إلى ما
يدَّعونه من اللادينية والتسامح والإخلاص للعلم وغير ذلك من زخرف القول وخادع
الألفاظ، فما فرَّط في دينهم اليوم إلا المسلمون، وما جاوز حدود التسامح إلا هم،
فلو أنهم أقاموا شعائره واتبعوا أوامره لما تجاسر أحد أن ينسب إليه الجمود، بل أن
يطعن فيه وفي صاحبه عليه الصلاة والسلام، فيدَّعى أن القرآن المرسوم في
المصاحف غير القرآن المنزَّل من السماء، وأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم
كان يأخذ عن اليهود والنصارى.
نعم ذلك ما جاء في كتاب ظهر منذ عام باللغة الإفرنسية بعنوان (حياة محمد)
صلى الله عليه وسلم، وقد سبقني إلى انتقاده صديقي أحمد بلافريج حيث نشر
عنه في العدد ١٤٦ من مجلة الفتح الغراء كلمة لاحظ فيها على المؤلف - مسيو
درمنغام (Dermcnghem. E. M) خطأين عظيمين، ثم بيَّن كلاًّ منهما
وناقش مرتكبهما الحساب، وبذلك أدى واجبه نحو الأمة الإسلامية فجزاه ربنا خيرًا.
وأنا أريد أن أقتفي أثره وأعرض على قراء المنار الكرام ما بدا لي من
الملاحظات عند تلاوة (حياة محمد) صلى الله عليه وسلم.
اقتنيت هذا المؤلَّف وأملي أن أجد فيه ما لم أقف عليه في غيره من الكتب لما
عُرف به أدباء الغرب اليوم من البحث والتنقيب، فلم يخب ظني إذ عثرت فيه
حقيقةً على آراء هي - في نظر المؤلف - أنفس من أن تسكن بطون كتبنا القديمة،
وقد أشرت إلى البعض منها آنفًا، وبقي علي أن أنقل إلى القارئ كلام المسيو
درمانغام فيها، ثم أعلق عليه ما خطر لي من الأفكار عند تلاوته، وسأقتصر في
انتقادي على نقطتين بارزتين في الكتاب، ولو أردت أن أُبيِّن كل ما احتوى عليه
من الزلات كبائرها وصغائرها لما اكتفيت بضعف صحائفه وليس ذلك من المتيسر
لي.
قال في صفحة ١٣٥ عند كلامه على كتاب الله العزيز (القرآن أقرب إلى
المسيحية من السنة على ما هو عليه الآن، وأما إذا اعتبرنا كيفية تدوينه فيمكننا أن
نتساءل هل كان أصله (كذا) يزيد شبهًا بها من الفرقان الموجود الآن؟ وعلى كل
حال فالحديث هو الذي حفر هوة بين الديانتين) .
ثم خط على صفحة ٢٧٦ ما معناه (غير صعب على عقولنا وهي أشد معرفة
بأفعال الله من معاصري النبي (عليه السلام) ومن علماء المسلمين [١] أن نؤمن
بوجود فرق بين كلام الله القديم وبين الفرقان المحفوظ في الصدور المرسوم على
الأوراق، وقد يظهر ذلك الفرق بعد الدرس والتفكير وربما برز عند مجرد النظر) .
ثم كتب على صفحة ٢٨٣ (لم يدون القرآن إلا بعد نزوله بمدة، وقد ضعفت
عندئذ ذاكرة القوم وكثر بينهم الخلاف فيه، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله
عليه وسلم بسبعين سنة) .
وقال في الصفحة التي بعدها (بأية وسيلة يمكننا أن نتوصل إلى معرفة
الشروح والتأويلات التي أدرجت في القرآن وما هي نسبتها منه؟ ترى هل هو
مجرد عن الحديث النبوي؟)
تلك آراء المسيو درمانغام في القرآن الكريم، وإلى هذا الحد وصل سوء ظنه
بالصحابة الأجلاء الذين يأبى حتى البليد أن يتهمهم بتحريف أو تزوير في كتاب
الله [٢] لِما عُرفوا به من الإخلاص لهذا الدين الحنيف والاعتصام بحبله والاعتناء
بقانونه ودستوره الذي هو القرآن العزيز، لا شك أنه لا ينكر هذا كما أنه لا ينازع في
قوة الحافظة عند العرب لرواية أخبارهم وأشعارهم مع الغريب من ألفاظها والمعقَّد من
معانيها، فكيف وما ذكرتَ يجوِّز في حقهم نسيان آيات من كتاب نزل عليهم من عند
الله واستولى على حواسهم بفصاحته وسلاسة معانيه وعذوبة ألفاظه وصدق روايته؟
وكيف ننسب إليهم زيادة أو نقصًا فيه، وهم يعلمون أن من بدَّل منه حرفًا يصلى
سعيرًا؟ عار على المفكر أن يرميهم بشيء من ذلك لمجرد شكوك ساورت عقله أو
شبه ضعيفة تراءت لخياله.
على أنهم كانوا رضي الله عنهم يكتبون القرآن عند نزوله، إما من تلقاء
أنفسهم وإما بأمر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وقد جمعه كثير منهم إلا
أن ثلاثة مصاحف هي التي اختصت وقتئذ بالثقة، منها: مصحف سيدنا زيد بن
ثابت، وقد كان عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته ووافق
عليه، وزيد هذا هو الذي كُلِّف من لدن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيام
خلافته بكتب المصحف، وبقي ذلك المصحف عند أبي بكر حتى مات رحمه الله،
ثم انتقل إلى عمر رضي الله عنه حتى توفي، فبقي عند ابنته أم المؤمنين حفصة
إلى أن طلبه منها سيدنا عثمان رضي الله عنه، ثم أمر زمرة من الصحابة الأعلام
أن يأخذوا منه عدة نسخ ليفرقها في أنحاء المملكة.
وكل ذلك مبسوط في محله؛ وإنما أوردته لأبين للمسيو درمانغام أن القرآن
جُمع أول مرة بعد ممات النبي عليه السلام بنحو سنتين، وثانيًا بعده بما دون
العشرين، وأما حديث السبعين عامًا فلم يقله إلا هو، وله أن يراجع التاريخ
الإسلامي ليتأكد لديه صحة ما ذكرت، وعليه أن يدرس حياة سادتنا أبي بكر وعمر
وعثمان رضوان الله عليهم ليعلم أنه يستحيل في حقهم أي تحريف أو تبديل في
القرآن، أليس عمر هو الذي كاد يقضي على أعرابي سمعه يتلو آيات بقراءة
مخالفة لما أخذه هو عن رسول الله؟ بلى هو ذاك الفاروق الذي لو روى لنا القرآن
وحده لما ارتبنا في صحته؛ لأننا لا ننقاد لسلطان الخيال وندع نور الحق جانبًا،
ولأننا لا نعقل وجود (فرق بين كلام الله القديم وبين القرآن المحفوظ في الصدور) .
ولكنا نعلم أن في نفس المسيو درمانغام حاجات يحول دون الوصول إليها
القرآن، وقد حسب أنه ينال مقصوده بالتكلم في الذكر الحكيم والطعن في خاتم
المرسلين، وما غايته إلا تقريب الديانة الإسلامية من الملة المسيحية حتى يسهل
على أصحاب الأولى أن يمروا إلى الثانية؛ لأنه من المخلصين لها (دينًا أو سياسة)
فكأنه يقول: الإسلام فرع من النصرانية، وقد كان القرآن (الأصلي) أقرب
إليها من الفرقان الموجود الآن، وإنما بعد عنها بتحريف من الصحابة والفقهاء،
فالأوفق والأنسب الرجوع إلى الأصل [٣] .
وهذه مكيدة من سياسة الكنيسة اليوم في التبشير فقد أمرت خدامها أن لا
يصادموا المسلم بادئ بدء بدعوته إلى النصرانية، بل أن يقوضوا دعائم الإسلام
واحدة فواحدة، ويشككوا بسطاء العقول من أهله في معتقداتهم حتى إذا ما بقوا
حيارى ومرت بهم قافلة أخرى من المبشرين ساقتهم معها إلى الصليب.
غير أن المسلمين لا ينخدعون لها ولا يخالجهم ريب في القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤١-٤٢) لأنهم يتلون ويسمعون {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) فيقولون: صدق الله العظيم.
ولو أقامت الكنيسة الإنجيل كما أُنزل من عند الله لكُنا وأهلها أمة واحدة؛
ولكن رجالها بدَّلوا فيه وغيَّروا [٤] ثم أبوا أن يرضوا عن سيدنا محمد صلى الله
عليه وسلم حتى يتَّبع ملتهم، فنهانا الله تعالى أن نؤمن لهم.
وأما مسيو درمانغام فنظره أن مسألة الصلب وحدها هي التي أبعدت الإسلام
عن النصرانية، وهو لا يستعبد أن تكون تلك المسألة من المحرفات في الكتاب قال
في صحيفة) ١٣٠ (١٣٠) .
(إذا اعتبرنا أن القرآن لم يُجمع إلا في عهد عثمان والحجاج (كذا) ...
وأن الألفاظ لم تكن مشكولة بنقط أو حركات بحيث كان في الإمكان النطق بها
بكيفيات مختلفات يبقى لنا أن نتساءل فيما إذا كانت هذه الآية {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ....} (النساء: ١٥٧) تكفي لأن تكون سدًّا مانعًا بين ديانتين متحدتين
في كل ما سوى هذه المسألة، زد على ذلك أن تلك الآية تناقض ما جاء في سورة
آل عمران {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ....} (آل عمران:
٥٥) وفي سورة المائدة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة:
١١٧) وفي سورة مريم {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ....} (مريم:
٣٣) اهـ.
نحن لا نرى تناقصًا بين آيات (الوفاة) وبين آية نفي (الصلب) وقد قال
بعض المفسرين: إن الله توفى المسيح قبل أن يرفعه، وهو تأويل معقول المعنى؛
لأن سيدنا عيسى عليه السلام كان لابد له من الموت؛ لأنه إنسان يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق ويتعب كسائر الناس، والموت لا يقتضي أن يكون بسبب
الصلب أو القتل، بل المتبادر من التوفي أنه عليه السلام مات حتف أنفه بدون فعل
أحد، وذلك لا ينافي الرفع، ألم تر أن الله يقول: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: ٥٥) فلم العناد إذًا، وقد ذُكر في القرآن أن اليهود قتلوا أنبياءهم
كيحيى وزكريا؟ ثم هب أننا عمدنا إلى آية الصلب فغيرناها حسب رغبتك،
أفتظن أن ديانتينا تصيران متشابهيتن؟ كلا إننا نقول (الله أحد) وقومك يقولون:
الله ثالث ثلاثة، ونحن نقول: إن عيسى المسيح عبد الله ورسوله وهم يقولون (إن
الله هو المسيح عيسى بن مريم) وقد قال الله تعالى لرسوله محمد خاتم النبيين
{قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤) فأينك وما أحدثته - في زعمك - آية الصلب من التباين؟
وأينك وتآخي الديانتين والمسلمون لا يزالون يتلون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا
اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (المائدة: ٥١) .
أتكون كل هاته الآي وما في معناها مما ذكره مزيدة في القرآن بقصد إبعاده
عن المسيحية؟ أم تريد أن تحذف كل ما في هذا المعنى من القرآن لنندمج في
النصارى؟ ذلك ما لسنا بفاعليه وإن بدل الهلال غير الهلال؛ لأن الخلاف بيننا في
أس الاعتقاد أعني (التوحيد) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: ١١٨-١١٩) .
اللهم اجعلنا من المخلصين في الإيمان بك والاتباع لرسولك إلى الأبد.
والآن سأرجع بك أيها القارئ إلى الصحيفة ١١٧ من كتاب المسيو درمانغام،
حيث يستخدم قوة خياله وسوء نيته في الحط من قدر صاحب الشريعة عليه السلام.
قال هنالك (والذي لا ريب فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تأثر بديانة
المسيح، بل إن الرهبان والنصارى المقيمين بمكة وبعض المفكرين من العرب
كزيد بن ثابت هم الذين الذين زرعوا فيه العاطفة الدينية قبل عهد الرسالة) [٥] .
هذا مما لا يشك فيه كاتب (حياة محمد) ولكن ما أدلته وحججه؟ أَنَزَل عليه
الوحي بذلك؟ أم تسار مع النبي صلى الله عليه وسلم بطريق استحضار الأرواح؟
ذلك ما أهمل ذكره، وكل ما برهن به على ما ادعى هو زعمه وجود بعض
النصارى بمكة وضواحيها! مع أنه لا يجهل أن الإنجيل كان في ذلك العهد محفوظًا
عند رجال الكنيسة بحيث كان يستحيل أن تجد من بين مطلق المسيحيين من يروي
شيئًا من تعاليمه، وإليك كلامه عن ذلك في الصحيفة ٦٣ (٦٣) : (كان محمد
صلى الله عليه وسلم يميل إلى ديانة المسيح غير أنه كان لا يعرف عنا إلا شيئًا نذرًا،
وما كان يمكنه أن يأخذ عن النصارى المقيمين بمكة؛ لأنهم جهلاء لا يتفقون على
رواية) .
الله أكبر، الآن حصحص الحق وظهر تناقض المؤلف وخباله! فمن جهة
يزعم أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام كان يأخذ عن النصارى الذين كانوا بمكة،
ومن جهة كان يثبت أنه ما كان يمكنه الأخذ عنهم لأنهم يجهلون تعاليم المسيح ولا
يتفقون على شيء منها، اللهم إن عقولنا تعجز عن الجمع بين هذين المعنيين، بيد
أنها تعلم أن جل النصارى اليوم لا يعرفون من الإنجيل شيئًا مع تعدد طرق النشر
وأساليبه، فما بالك في عهد لم تكن فيه مطبعة ولا جريدة؟ ... وعليه فعمَّن أخذ
صلى الله عليه وسلم التفاصيل عن أخبار الأمم السالفة، ندع الجواب للمسيو
درمانغام، وربما يجيبنا بأنه كان عليه السلام يتلقى ذلك من طريق الوحي حيث
إنه لا ينكر تلك المعجزة، وإن حاول غير مرة في كلامه عنها أن يظهر لنا نبينا في
صورة (درويش هندي) أو (فقير صوفي) في لجة الارتباك، قال في صحيفة
٦٢ (٦٢) ما معناه (انقطع محمد - عليه السلام - عن الناس وحببت إليه الخلوة،
وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقيين، فكأنه كان بتأمله وبطول تفكيره في
خلوته يستجمع قواه العقلية وينمي حاسة الاختراع فيه؛ وبذلك لا يصيبه تعب ولا
ملل من بعد... وبعبارة كان محمد صلى الله عليه وسلم مقر أزمة وكان يفزع إلى
الجبال ليحلها) .
مفهوم هذا الكلام أنه عليه السلام كان يعتزل الناس ليخترع لهم دينًا جديدًا وإلا
فما معنى؟ قوله (وكل هذا لا يخلو من فائدة عند الشرقين..) نعم نحن لا ننكر أنه
كان قبيل إبان الوحي يتردد إلى غار حراء ولكن عسير علينا - والله - أن ندرك ما
كان يدور في خلده آنئذ وإن كنا من الشرقيين الذين ينسب إليهم واسع الخيال، فإن
استطاع المسيو درمانغام أن يأتينا بحجة على ما يقول فإنا مستعدون لقبولها بل
ولقبول ما جاء في الصحيفة (٦٦) من كتابه وإليك ترجمته:
(علم محمد صلى الله عليه وسلم من طريق نصارى سورية ومكة أن هناك
دينًا سماويًّا، وأن الله كان يبعث بأوامره لبعض الأمم ليلقنهم الحقيقة، وذلك
بواسطة رجال يصطفيهم ليرشدوا الناس ويردوهم إلى الجادة كلما حادوا عنها، كما
علم أن ذلك الدين كان واحدًا؛ وإنما الناس يحرفونه في مدة الفترة، وطالما تمنى
أن يقيض الله للأمة العربية من يرشدها لأنها كانت تائهة في فيافي الضلال) .
فعاطفة مثل هاته غير مستحيلة في حق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام مع
ما عُرف عنه من مكارم الأخلاق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) كما أننا
لا نشك أن الدين الذي أتى به كل الرسل واحد في أصوله الاعتقادية، وهي توحيد
الله والوحي والبعث والجزاء وأصوله العملية وهي الفضائل والأعمال الصالحة،
وإنما يختلفون في الفروع والشرائع العملية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: ٤٨) وقد أمرنا بأن نؤمن بهم، وأن لا نفرق بين أحد منهم، فما جاء به
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو عين ما أنزل على كل من سادتنا نوح
وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم أجمعين في أصوله، إلا أن
قومهم من بعدهم حرَّفوه حسب أهوائهم وأغراضهم وإلا لاتبع اليهود والنصارى
سيدنا محمدًا عليه السلام ( {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: ١٥٧)
وأما دعواه أن النبي عليه السلام علم ذلك من طريق نصارى سورية فهي من
الغرابة بمكان، بل مثال متناه في الجسارة على البهتان.
وبعد هذا كله إذا فرضنا أنه عليه السلام أخذ ذلك عنهم، فمن أين يا ترى
تلقى ما يحويه الفرقان من الحكم والأحكام والآداب؟ إذا كان من طريق الوحي
وهو الحق واعترف به المسيو درمانغام، فإذًا ما وجه الحاجة إلى النصارى أو
غيرهم؟ أليس الذي علَّمه ما ذكر بقادر على أن يقص عليه أخبار الأمم الماضية؟
بلى! وهو العليم القدير.
فكفوا معشر المسيحيين عن غلوكم وتحاملكم وحوِّلوا جهودكم شطر الهمج من
الوثنيين، وأما المسلمون فهم لا يرضون بدينهم بديلاً لما يجدون فيه من خير
الدارين، ولقد كانوا أرقى الأمم وأعزها وأكرمها وأشدها بأسًا يوم كانوا متمسكين به،
ولديهم من المجلدات القناطير المقنطرة شهادة على ذلك، وهذه الآثار لا تزال
قائمة ناطقة في كل بلد فتحوها؛ ولكنهم اشتغلوا بعد ذلك بالسفاسف وتمسكوا
بالقشور من أمر دينهم فحقت عليهم كلمة العذاب، ولئن لم يستدركوا ما فاتهم بأن
يعلِّموا أولادهم تعليمًا دينيًّا عربيًّا؛ فإنهم لا يلبثون أن يصبحوا مذبذبين بين الإسلام
والنصرانية والإلحاد، لا إلى هذا ولا إلى تلك ولا إلى الآخر، والوقت حرج لا
يدع مجالاً للتردد، فإما علينا وإما لنا.
... ... ... ... ... ... ... الرباط (المغرب الأقصى)
... ... ... ... ... ... ... ... ... اليزيدي
في (٨) جمادى الأولى عام (١٣٤٨) ، (١٢) أكتوبر (١٩٢٩)
(المنار)
إذا كان درمانغام هذا يؤمن بالله تعالى ويعقل أفعاله وحكمه أحسن
مما كان يعقلها الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كما ادعى - فليخبرنا
بالبرهان الذي قام عنده على نبوة موسى وسائر أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعته
وآخرهم المسيح عليهم السلام، وعلى أنها وحي من الله دون نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم وشريعته، مع أن القرآن أعلى من التوارة وغيرها من كتبهم في العلوم
الإلهية والتشريع الأدبي والمدني، وإخباره بالغيب أصح من إخبارهم رواية وأصرح
منها وأثبت، وقد كان أميًّا نشأ بين أميين من حيث نشأ موسى في بيت ملك كان
أرقى ما في الأرض علمًا وتشريعًا، فإن كان يعقل هذا ويتكلم عن اعتقاد ورغبة في
الجمع بين الديانتين فعليه أن يدعو النصارى إلى الإسلام مصلح النصرانية،
وخاتمة الأديان الإلهية.