للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


اقتراح القيصر
اهتز العالم للمنشور الذي أبلغه قيصر روسيا بلسان ناظر خارجيته لعامة دول
أوروبا يقترح فيه عقد مؤتمر للبحث في وضع حد للاستعدادات الحربية التي أثقلت
كواهل الدول، واستنزفت ثروة الأمم واستأصلت منها الخيرات والبركات والقوى
المادية والأدبية، وما صرح به المنشور أن آلات الهلاك والدمار الحديثة التي أنفقت
عليها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ربما تمسي بعد قليل من الزمن ألقاء [١]
لا ينتفع بها بمخترعات جديدة يبطل فعلها، وذلك مما يجتاح الثروة، والخطر الناجم
عنه يجعل السلم المسلح وقرًا ينوء بالأمم، فإذا طال الأمد، فلا بد أن يفضي إلى
الويل الذي ترغب الدول في مجانبته، ويروع العقل البشري توقعه.
الاقتراح لا خلاف في شرفه، ولم تذكره جريدة في أوروبا إلا وأثنت على
مقترحه، وإنما وقع الخلاف والنزاع في أمور:
(١) هل اقترحه القيصر حبًّا بالسلام عن سلامة نية وإخلاص طوية، أم
هناك أغراض سياسية.
(٢) هل استشار أحدًا من الدول فأجازه عليه أم افتحره افتحارًا.
(٣) هل الاقتراح في هذا الوقت ابتسار وإرغال، أم جاء في إبانه وأوانه،
وصادف محله وأهله.
(٤) أي الدول يوافق مصلحتها وأي الدول يخالفها.
(٥) هل تجيب جميع الدول أو العظام منها الدعوة وينفذ الاقتراح.
(الامر الأول) : قال بعض السياسيين: إن القيصر قد جعل الاقتراح تمويهًا
على مقاصده السياسية، والغرض منه كيد إنكلترا ليتم مقاصده في الصين ومأربه في
حدود الهند من غير أن يتهم بشيء يوجب حذر إنكلترا وزيادة قوتها في تلك الأصقاع،
وإذ تم أمر المؤتمر فهو واثق بأن الرأي العام يوافقه ضد إنكلترا في التحكيم
فيقضي لباناته براحة وسلام، ولم أر من ذكر مأربه في الشرق الأدنى ومعاكسته
للدولة العلية التي رآها ناشطة في هذه الأيام لزيادة قواتها البرية والبحرية، وحاول
صدها عن ذلك بطلب الغرامة الحربية فلم يفلح، وإذا كان الرأي العام يوافقه ضد
إنكلترا فهو يوافقه ضد الدولة العلية بالأولى.
ومن الناس من يقول: إن القيصر مخلص في اقتراحه، لا يقصد نكرًا ولا
يحاول مكرًا؛ لأنه متشبع في حب السلم الحقيقي الذي يمكنه من ممالكه الواسعة
وإسعادها، حقق الله ذلك بمنه وكرمه.
(الأمر الثاني) : الجرائد والسياسة تضرب من أجله في أودية الخرص
والتخمين، ويرجح الكثيرون أنه استشار إمبراطور ألمانيا، وزعم البعض أنه ربما
كان استشار حليفته فرنسا، لكن لهجة الجرائد الفرنسوية وتبرمها من الاقتراح
يقضي بخلاف هذا، والأرجح أنه افتحره افتحارًا، ويقال: إن الإمبراطور غليوم
كان عازمًا على هذا الاقتراح في أثر زيارته للقدس الشريف فسبقه إليه قيصر.
(الأمر الثالث) : من الناس من يقول فيه بالابتسار [٢] وأن هذه الأمنية التي
يتمناها كل العقلاء يحتاج في تحققها إلى قرن كامل على الأقل، ولذلك قد أوجب
الاقتراح غرابة ودهشة.
(الأمر الرابع) : مما لم يقع فيه اختلاف أن هذا الاقتراح يوافق مصلحة كل
من أوستريا وإيطاليا؛ لأنهما مثقلتان بالنفقات الحربية، مستغرقتان بالديون التي لا
يجدان لها وفاء مع هذه الاستعدادت الحربية، ويوافق مصالح جميع الدول الضعيفة
أيضًا، اللهم إذا كانت في مأمن على بلادها ومنافعها، ولم يكن للمؤتمر حق بأن
يهب ما يشاء من غير معارضة ولا منازعة، فإن أعطى المؤتمر هذا الحق فيكون
معنى الاقتراح: اتفاق الأقوياء على ابتلاع الضعفاء وهضمهم بدون تعب ولا نصب،
والاتفاق عزيز، والاقتراح على هذا سلمي في مظهره، حربي في حقيقته،
ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، اللهم أجر اللهم سلم سلم.
(الأمر الخامس) : أوستريا وإيطاليا قد أجابتا الدعوة وسلمتا تسليمًا،
وألمانيا تظهر بألسنة جرائدها الابتهاج، وكذلك إنكلترا، إلا أن هذه تقول: إن
الوضع من قوة السلاح ينبغي أن لا يتناول البحرية، يعني أنه يجب على الدول كلها
أن تضع من أسلحتها إلا بريطانيا العظمى، فيجب أن تزيد قواها، وتستأثر بمنافع
العالم وحدها، ومتى جاء وقت العمل يلغى هذا القول ويبطل الأمل، ولا ريب أن
ثناء الجرائد الإنكليزية على القيصر وإظهارهم الابتهاج بالاقتراح وفوائده، كل ذلك
من المصانعة والدهاء المعهود من سياسة الإنكليز، ونقل عن جريدة إقدام وغيرها
من الجرائد التركية مثل ذلك، وكيف لا يكون ما تظهره جرائد البريطانيين
والعثمانيين مصانعة وأهم فوائد الاقتراح عند المقترح: إيقاف الأولى، وتلقف منافع
الثانية على ما يرى البصراء، وأقل ما يقال: إن ذلك يحذر منه ويحتاط لأجله.
وأما الجرائد الفرنساوية فقد ملأت الأرض صراخًا وعويلاً، فلا يرون في الآذان
منعكسًا عن صفحاتها إلا: ألزاس لورين! ألزاس لورين!
جاء في بعض الجرائد أن إنكلترا هي العقبة الكؤود في سبيل إنفاذ الاقتراح،
ولا شك أن فرنسا هي العقبة العنود. أليس من العجب أن يتوقع العالم مقاومة أعظم
ثمرات المدنية والمعارف من أعظم الدول مدنية ومعارف؟ ! بلى وهذا العجب
يضاهي العجب من طلب وضع السلاح وتحديد قواعد السلم من ملك أقوى دولة
حربية، وصاحب حكومة استبدادية.
إن أمام هذا الاقتراح عقبة كبرى تتبعها عقبات عظيمة، وهي الاتفاق على
قانون التحكيم ومكان المحكمة التي تفصل المنازعات. وإذا تيسر حل المشكلات
الحاضرة كالإلزاس واللورين ومصر وكريد، فما وراءها من المستقبل أيسر حلاًّ،
وقد رأينا من عجز الدول العظام في صغرى هذه المشكلات - وهي مشكلة كريد - ما
دلنا على أنهم عن غيرها أعجز، وإن إلى ربك المنتهى وهو على كل شيء قدير.