للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء
(العربي الجواد، وهل سلم من سعاية وانتقاد)
ذكرنا في الجزء الماضي خبر تعرج صديقنا محمد باشا عبد الوهاب شيخ
دارين (وأشهر تجار اللؤلؤ في خليج العجم) على السويس في طريقه إلى الحج
وكيف بسط يديه بالنوال، حتى صار كل من لقف خبره يذكر كرم أمراء العرب
الأولين، وعطايا الخلفاء والسلاطين، ونقول الآن: إنه بعد أن وزع الصدقات
على الفقراء، وأهدى الهدايا للأغنياء، وبعد أن بذل المساعدة للمدارس الإسلامية
والقبطية والأجنبية، وبعد أن أخذ على نفقته نحو مائة وعشرين حاجًّا من الفقراء،
وبعد أن ظهر امتعاضه لأن سائر قاصدي الحج رجعوا خائبين لأن سفينة (البحيرة)
لم تسَعْهم وأوصى من كان قائمًا بشئونه (وهو السيد النسيب مصطفى هاشم) وكان
الباشا في السويس بصفة ضيف ونزيل في هذا البيت الكريم) بأن يجمع من بقي
من الفقراء، وهم يعدون بالمئين، ويرسلهم على نفقته في أول وابور يحمل حجاجًا
من السويس، وبعد أن جاء في بعض الجرائد أن السيد المذكور وَفَّى بما عُهِدَ إليه؛
فاستأجر سفينة مخصوصة من بواخر شركة ليمتد (بواخر البوسطة الخديوية)
فحمل عليها الحجاج الباقين، بعد هذا بعضه أو كله كافأ بعض الناس في مصر هذا
المحسن الجواد، بالسعاية والانتقاد.
بَيْنَا كُنَّا نسمع بعض الوجهاء في السويس يقول: إنه لم يبق بيت في هذه
المدينة لم يصبه نوال هذا الأمير العربي؛ إذا ببعضهم يقول: إن أكثر هذه العطايا
في غير موضعها، ولو كان بنى بهذه الأموال جامعًا - مثلاً - لكان أفضل وأبقى
لذكره! ! فأجابه كاتب هذه السطور: إن الكرم على قسمين: كرم العقل، وكرم
النفس. فالأول: يجري فيه الحساب والتقدير واختيار الطريق الذي يوصل إلى
نباهة الذكر أو زيادة النفع، وهذا الكرم يكون في الغالب مكتسبًا بالتربية والتعليم،
وأما الثاني: فهو سَجيَّة في النفس يكون لصاحبها أريحيّة وهزة تبعثه على البذل متى
وجد له طريقًا ما، ولا يأتي فيها الحساب والتقدير، ولا توخي نباهة الذكر ولا حسن
المصير، وكرم صاحبنا من هذا النوع، ومنه كرم سائر الأجواد المعروفين كحاتم
الطائي وكعب بن مامة ومَعْن بن زائدة.
ثم رأينا جريدة مصباح الشرق تسأل سؤال قضاة التحقيق عن تاريخه، ونسبه،
وحدود بلاده، وعدد رعيته، ومقادير العطايا التي جاد بها، وعن الحجاج الذين
حملهم، هل دفع عنهم التأمين الذي فرضته الحكومة على الحجاج المصريين وعن
منابع ثروته، واستنتجت من ذلك تَوْهين خبر الجرائد! ونحن نجيب بأن رواة
الجرائد، كتبوا إليها ما رَأَوْه بأعينهم وسمعوه بآذانهم، فلم يكن لهم حاجة في
تصديق الخبر بإمساك هذا الرجل عن عمل البر وإشغاله بإملاء تاريخه وتاريخ
بلاده عليهم؛ لأنه يوجد في مصر جريدة ساء ظنها بالناس حتى إنها تكتفي في مقام
الذم بأضعف الشبهات، وتكتفي في مقام المدح بالمشاهدة حتى يؤيدها جميع ما
يخطر بالبال من النظريات.
قلنا: إن الرجل أمير أي أنه أمير في نفسه وقومه، لا أنه سلطان ذو مملكة
ورعية، وقلنا: إنه شيخ دارين أي أنه رئيس تلك الجهة، وإن شئت قلت إنه
أميرها؛ ولكن العرب هناك يفضلون كلمة (شيخ) على كلمة (أمير) فيقولون
شيخ الكويت وشيخ البحرين، وأما دارين فهي ميناء نَجْد على خليج العجم من زمن
الجاهلية وفيها قال الشاعر العربي ما يُعْرف في شواهد كتب النحو وهو:
يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويرجعن من (دارين) بُجْرَ الحقائب
وقد كانت عفت فأحيا معالمها محمد عبد الوهاب هذا، وأما ينبوع ثروته
التي استكثرها صاحب المصباح فهو تجارة اللؤلؤ وقد جاء فيها ما نصه:
(وإليك بيان كمية اللؤلؤ الذي صيد في هذا العام: جهزت سواحل الخليج
٤٢٠ سفينة فيها ٧٥٦٠ غائصًا فاصطادوا ما قيمته ٨٤٠.٠٠٠ روبية (الروبية
فرنك واحد و ٦٨ سانتيما) فاشترى هذا الصيد كله تاجر واحد من جزيرة داريان
(الصواب من دارين) وجهز من البحرين سبعمائة سفينة، فيها اثنا عشر ألف رجل
فعادوا بما قيمته ٢٠٠.٠٠٠ روبية، هذا ما كان من المَغَائص المشهورة، وأما ما
أخرج في غيرها من المَغائص فلم تزل قيمته مجهولة) اهـ.
ونحن قد علمنا من صاحبنا أنه يجهز السفن، وأنه يعطي الغوّاصين الدراهم
في أثناء السنة، ويحاسبهم عليها عند إخراج اللؤلؤ، فتفنيد مصباح الشرق قول
بعض الجرائد إنه جهز ثلاث مئة حاجّ بقوله: إن ذلك يقتضي أن يكون قد دفع
عنهم تأمينًا للحكومة قدره خمسة عشر ألف جنيه على الأقل، وقوله عنه إذا كان
(قد بذل من خزائنه مثل هذه القدر العظيم من المال الذي يكاد يكون أَبْلَغَ ثروة تُدخر
بين ساكني نجد وتهامة من أول الزمن إلى هذا العهد فهو بلا شك حاتم هذا الزمان
وقارون هذه الأيام) ! !
كلاهما غير سديد، وقد ذهل صاحب المصباح عند كتابة الكلمة الأولى عن
كون التأمين الذي تطلبه الحكومة المصرية عن كل حاج في هذا العام هو خاص
بالمصريين الذين لا يباح لهم السفر إلى الحج بعد سفر المحمل، وقد سافر هذا
الأمير بفقراء الحجاج بعد سفر المحمل بأيام، هذا وجه خطأ عبارته الأولى، وأما
استكبار ثروة الرجل، وقوله فيها، فقد عُلِمَ أيضًا أنه في غير محله، ونؤكد له
القول بأن ثروته أكبر مما استكبره على أهل نجد وتهامة من أول الزمن إلى هذا
العهد.
وبقي أن نشير إلى معنى كلمة (السعاية) التي أشرنا في العنوان إلى أن هذا
المحسن لم يسلم من إساءة أهلها. وذلك أننا علمنا أن عقارب بعض السعاة المحَّالين
الذين يُسمَّوْن هنا (جواسيس الآستانة) قد دبت إلى مرجعها، ودبرت حيلة لإيذاء
هذا الرجل المحسن في بيت الله وحرمه الآمن بواسطة من هم أهل لذلك في الآستانة
وكادوا له كيدًا، فنسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ} (يوسف: ٦٤) .
***
(إصلاح لبنان)
ذكرنا في الجزء الماضي نبذة عن اللائحة التي قدمت إلى متصرف جبل لبنان
على أنها من جماعة المهاجرين اللبنانيين، وعلم من تلك النبذة أن الغرض منها
إثبات أن سبب تأخر لبنان وانحطاطه هو التعصب الديني في طوائفه، أو (الاستقلال
الطائفي) الذي ينافي الاستقلال الوطني الذي تعمر به البلاد، وبقي علينا أن نشير
إلى رأي اللائحة في ملاشاة الاستقلال الطائفي الذي هو شرط الاستقلال الوطني
المطلوب.
بدأ كاتب اللائحة رأيه بتخطئة القانون اللبناني في جعل وظائف الحكومة
مقسمة بحسب المذاهب الدينية وقال: إن هذا يزيد التعصب ثم أتبعها بنبذة افتتحها
بكلمة واشنطون محرر أميركا في أول خطاب أرسله إلى الندوة بعد استقلال
الولايات المتحدة وهي (يجب أن نُوَحّد مبدأ الشعب الأميركي المستقبل بالمدرسة)
ثم قال بعد تمهيد:
(يجب أن نجعل الشعب لبنانيًّا ولا سبيل لنا إلى هذه الأمنية إلا بإعداد رجال
المستقبل، فكيف نعدهم؟ بالمدرسة جعل واشنطون العظيم الشعب الأميركي بمبدأ
واحد، وبالمدرسة جعله هكذا عظيمًا، وبالمدرسة الحرة جعله هكذا حرًّا) .
بالمدرسة يقول بسمرك: إنه استطاع أن يتغلب على فرنسا، بالمدرسة
استطاعت اليابان أن تخرج من الظلمة الأسيوية الحالكة المدلهمة، إن الأفكار
القديمة لا تجد لها مانعًا دون عقول الصغار إلا المدرسة، فبالمدرسة فقط يستطيع
الشعب اللبناني أن يصير وطنيًّا، وأن يَتَّحِد على مصلحته الطبيعية.
(مولاي قد قال الشارع الفرنسي في نظام التعليم الإلزامي: من حق الحكومة
حامية المنافع العمومية أن تحتاط بكل وسيلة لئلا يكون في الشعب أفراد يجهلون
حقوقهم وواجباتهم؛ فلتكن المدرسة من حق الحكومة التي ترأسونها ومن واجباتها
أيضًا.
(إن المدرسة التي نرجو أن تكون حاجزًا بين صغارنا وأفكارنا القديمة
ليست المدرسة الفرنسية، ولا الإنكليزية، ولا الأميركية، ولا الألمانية، ولا
الإيطالية، لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا أوربيين وأميركيين في لبنان،
وليست المدرسة الجزويتية؛ لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا متواكلين ضعفاء
خبثاء، ولا المدرسة الطائفية لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا موارنة ودروزا
وأرثوذكسا وملكيين ومتأوِّلة وإسلامًا -، ولا المدرسة الدينية لأننا لا نريد أن
يكون صغارنا مثلنا لاهوتيين يتجادلون على ما لا يعلمون. إن هذه المدارس
موفورة لنا وحالتنا الاجتماعية لا تزداد إلا فسادًا وتقهقرا.
فالمدرسة التي نرجو أن تكون لنا بابا إلى الحياة الجديدة هي المدرسة الوطنية
الحرة، هي المدرسة التي تتولاها حكومة منفصلة عن الكنيسة كالحكومة اللبنانية)
اهـ، باختصار قليل، ثم بَيَّن طريق إيجاد المدارس الحرة، والنفقة عليها، وبحث
عن عيوب الحكومة، وبَيَّن سبيل الإصلاح.
ونحن نقول: إن هذه هي (الوطنية الحقة) لا التي يَلْغَط بها بعض أحداث
المصريين في مصر، بغير فَهْم ولا شعور؛ ولذلك كان هذا اللَّغَط منه سخرية عند
جميع الطوائف في مصر. وإننا نعترف بصحة رأي اللائحة، ونجزم بأن بلادًا
فيها للكنيسة سلطان على الحكومة والأمة لا يمكن أن تنجح، ولا أن يتفق أهلها
على ترقيتها.
ولْيعلمْ رصيفنا الفاضل صاحب جريدة المناظر؛ أن ما قاله في المقالة التي رد
فيها على مقالة السيد البكري (المستقبل للإسلام) من أن في مصر فريقين أحدهما
يدعو إلى الوحدة الوطنية، والآخر يدعو للوحدة الإسلامية، وأن قوة الأول حملت
السيد البكري على الانتصار للثاني، كل ذلك غير واقع، وإنما الوطنية التي نَرُدُّها
ونسفّه دائمًا أحلام أَحْدَاثِها؛ هي وطنية خاطئة كاذبة اتُّخِذَت في وقت ما وسيلة
للحطام، وبقي الكلام فيها أحيانًا بناموس الاستمرار، وصاحب هذه الوطنية يمقت
طائفة من سكان بلاده الذين هم أَعْرَف منه بالوطنية، ويمقت مَنْ هاجروا إلى هذه
البلاد واتخذوها وطنًا وصارت سعادتهم بسعادتها، ومصلحتهم بمصلحتها، وإن
كانت لغته لغتهم، وحكومته حكومتهم، ودولته دولتهم، بل وإن كان دينه دينهم،
فهل تستطيع أيها الوطني الصادق أن تجيز لنا هذه الوطنية الكاذبة؟
***
(ملجأ الأيتام واللُّقطاء)
يسرنا أن جمعية المكارم في الإسكندرية قد شرعت في عمل نافع عظيم وهو
إنشاء ملجأ للأيتام وللقطاء، وهم الآن يسعون في جَمْعِ المال بطريقة الاكتتاب
المألوفة، وقد افتتح التبرع سمو الأمير بمئة جنيه، ثم إن صاحبة الدولة والدة سموه
تبرعت بخمسين جنيهًا، وتبرع كثيرون من الأغنياء والوجهاء بما دون ذلك.
ولا شك أن سير الاكتتاب بهذا البطء والشحّ لا يبشر بنجاح يذكر، وكأني
بكثير من الأغنياء لا يجودون بما يليق بثروتهم من السَّعَة احتجاجًا بأن الأدب
يقضي بأن لا يدفع أحد مثل ما دفع الأمير؛ فمن كان أقل بذلاً كان أكثر أدبًا مع
سموه وما هذه إلا حجة البخلاء، فلو صح أن الأدب في التقصير عما بذل الأمير
لكانت زيادة الأدب على حسب نسبة النقص والتقصير؛ فمن دفع قرشًا كان أكمل
أدبًا ممن يدفع جنيهًا! !
الأمير يقصد بما يعطيه إظهار رضاه عن المشروع، فلنا أن نقول: إن من كان
أكثر عطاءً كان أقرب إلى ما يرضيه، وأكمل فضلاً وأدبًا في نظره، على أن
الواجب في هذه المقام طلب مرضاة الله تعالى، وملاحظة المنفعة لعيال الله تعالى،
ولكن البخيل ينتحل لنفسه أضعف الأعذار في الإمساك والشحّ؛ فمن كان جازمًا بأن
من الأدب مع الأمير أن لا يبلغ مَبْلَغه في البذل، فليكتف من الأدب بنقص جنيه
واحد عنه، ولو أن كل غني في مصر يشعر بالحاجة إلى هذا العمل يلاحظ هذا ولا
يبعد في النسبة؛ لنجح العمل والله الموفق.