للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد القادر المغربي


مناظرة عالمين في مجلس المأمون [*]
إذا أردنا من القرآن كلام الله: كان قديمًا، لأنه يكون إذ ذاك عبارة عن صفة
من صفاته تعالى، وهي قديمة، وإن أريد بالقرآن ماعدا الصفة القديمة من صوت
مسموع أو مصحف مصنوع: كان حادثًا.
هذه المسألة على بساطتها ووضوحها كان لها في تاريخ الإسلام الديني أسوأ
الأثر، وآل الأمر فيها إلى أن يسجن مثل الإمام أحمد بن حنبل، ويقيد ويعذب،
وكان سواد الأمة ومعظم علمائها من الفريق القائل بأن القرآن قديم.
أما الفريق القائل بالحدوث، ويسمّى (المعتزلة) فاتفق له من بعض خلفاء
بني العباس من يأخذ بقوله، ويحمل الناس عليه، ومن ثَمَّة كانت صولته أشد،
وعامل جبروته أنفذ، وكان من هؤلاء الخلفاء الذين أيدوا القول بالحدوث المأمون
بن الرشيد، فكان هذا الخليفة على ما فيه من علم صحيح وعقل رجيح، يشدد على
الناس وينكل بهم إنْ قالوا بما يخالف رأيه، فكان الناس لعهده يستترون في بيوتهم،
وينقطعون عن شهود الجمعة والجماعة، ويتسللون من بلد إلى بلاد خشية الفتنة
والإرهاق، وقد مُنِعَ الفقهاء والمحدثون من القعود للناس في المسجد الجامع الواقع
في الجانب الشرقي من الرصافة، وفي غيره من المواضع، إلا بِشْرًا المِرِّيسِيّ
ومحمد بن الجهم ومن رأى رأيهما من علماء المعتزلة القائلين بحدوث القرآن، وكل
من أظهر مخالفتهم قيد إليهم، وعرض قوله عليهم، فإن أصر قتل سرًّا أو جهرًا ,
أو نفي من الأرض، وكان كثيرون من العلماء يوافقونهم في الظاهر خوفًا على
أنفسهم، وفي الباطن يَبرَأون إلى الله مما أعلنوه.
شاع أمر هذه المحنة في بغداد، وجعل أهل الأمصار الإسلامية يتداولون
خبرها ويتعوذون بالله من شرها: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني - الذي نلخص
هذه المقالة من رسالة له ألفها فيما حدث له -: اتصل بي وأنا بمكة ما ابتلي به الناس
في بغداد، وكيف استطال عليهم بِشْر المِرِّيسِيّ ولَبَّسَ على أمير المؤمنين وعامة
أوليائه، فأطال همي هذا الخبر، وأطار نومي، فخرجت من بلدي متوجهًا إلى ربي
وأسأله سلامتي حتى قدمت بغداد، فشاهدت من غلظ الأمر وامتداده أضعاف ما كان
يصل إِلَيَّ.
ثم إن عبد العزيز جعل بعد وصوله إلى بغداد يبتهل إلى الله أن يسدده، ويثبت
عزيمته، ويرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى قهر تلك الفئة الجائرة، وكف عاديتها،
فبدا له أن يخفي أمره عن الناس جميعًا خشيةَ أن يقتل قبل أن يسمع كلامه، ثم
ارْتَأَى أخيرًا أن يقف بعد صلاة الجمعة في جامع الرصافة ويرفع صوته بمخالفة
أهل البدعة وتسفيه آرائهم وطلب محاجّتهم، فإن إشهاره نفسه على هذه الصورة
يحول دون اغتياله قبل مناظرته، واستماع قوله، ولم يكد ينتهي الإمام من صلاة
الجمعة في ذلك الجامع حتى سمع الناس من الصف الأول حيال القِبْلَة والمنبر،
صوت رجل مكّيّ الزّيّ واقف على قدميه ينادي بأعلى صوته ابنه الصغير الذي
أقامه قبالته عند الأسطوانة الأخرى:
الأب: ما تقول في القرآن يا بني؟
الابن: كلام الله منزل غير مخلوق يا أبتي.
فارتاع الناس لهذه المحاورة وهربوا على وجوههم خارجين من المسجد،
وأسرعت الشرطة فاحتملوا عبد العزيز وابنه إلى رئيسهم (رئيس البوليس إذ ذاك
عمرو بن مسعدة) وكان جاء لِيُصَلِّيَ الجمعة في جامع الرصافة.
الرئيس: أمجنون أنت؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس: موسوس؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس: معتوه؟
عبد العزيز: لا , والحمد لله، وإني لَصحيحُ العقلِ , جيّدُ الفهْمِ , ثابتُ المعرفةِ.
الرئيس: فمظلوم أنت؟
عبد العزيز: لا.
الرئيس لأصحابه: مروا بهما سحبًا إلى منزلي.
فاحتملهما الشرطة، وجعلوا يعدون بهما سحبًا شديدًا، وأيديهما في أيديهم يمنة
ويسرة، حتى صاروا بهما إلى منزل الرئيس على هذه الحالة الغليظة، فأُدْخِلا عليه
وهو جالس في صحن داره على كرسي من حديد وشواره عليه [١] .
الرئيس: مِن أين أنت؟
عبد العزيز: من أهل مكة.
الرئيس: ما حملك على ما صنعت بنفسك؟
عبد العزيز: طلبت القربة إلى الله ورجاء الزلفى لديه.
الرئيس: هلاّ فعلْتَ ذلك سِرًّا مِن غير نداءٍ ولا إظهارِ المخالفة لأمير
المؤمنين! ! ولكن أردت الشهرة والرياء والسؤدد لتأخذ أموال الناس.
عبد العزيز: ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين، والمناظرة بين يديه لا
غير ذلك.
الرئيس: أوَتفعلُ ذلك؟
عبد العزيز: نعم، ولذلك قصدت، وبلغت بنفسي ما ترى، وتغريري بنفسي
وسلوكي البراري أنا وولدي رجاءَ تأدية حقِّ الله فيما استودعني من العلم والفهم في
كتابه، وما أخذه عليّ وعلى العلماء من البيان [٢] .
الرئيس: إن كنت إنما جعلت هذا سببًا لغيره من المطالب إذا وصلت إلى أمير
المؤمنين فقد حل دمك.
عبد العزيز: إن تكلمت في شيء غير هذا، وجعلت هذا ذريعة إليه، فدمي
حلال.
فوثب الرئيس , وقال لأعوانه أخرجوه بين يدي، فأخرجوني أنا وابني بين
يديه، وهو راكب على فرسه، وجعلوا يعدون بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيديهم،
حتى وصلنا إلى دار الخلافة الشرقي من بغداد. فدخل الرئيس على المأمون،
وبقيت أنا وابني في الدهليز واقفين على أرجلنا، فأطال ثم خرج إلى حجرة له وأمر
بي:
الرئيس: أخبرت أمير المؤمنين بخبرك، وما فعلت، وما سألته من الجمع
بينك وبين مخالفيك للمناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاءه وأعلى أمره بإجابتك
إلى ما سألت، وأمر بجمع المناظرين على هذه المقالة إلى مجلسه - أعلاه الله - في
يوم الإثنين الأدنى، ويحضر هو بنفسه معهم ليناظروا بين يديه، ويكون هو الحكم
بينكم.
عبد العزيز: أطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين، وأيد دولته.
الرئيس: أعطنا كفيلاً بنفسك حتى تحضر معهم يوم الإثنين، وليس بنا حاجة
إلى حبسك.
عبد العزيز - أدام الله عزك، أنا رجل غريب، ولست أعرف في هذا البلد
أحدًا، ولا يعرفني من أهلها أحد، فمن أين لي من يكفل بي، خاصّة مع إظهاري
مقالتي، لو كان الخلق يعرفونني حق معرفتي، لتبرأوا مني وهربوا من قربي
وأنكروني.
الرئيس: نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم، وتنصرف
فتصلح من شأنك، وتتفكر في أمرك، فلعلك ترجع عن غَيّك، وتتوب من فعلك،
فيصفح أمير المؤمنين عنك.
عبد العزيز: ذلك إليك أعزك الله، فافعل ما رأيت. ولما جاءت غداة يوم
الإثنين، حمل عبد العزيز مكرمًا إلى دار الخلافة، وأدخل إلى حجرة رئيس
الشرطة، فسأله هذا عما إذا كان لم يزل مقيمًا على رأيه، ثم نصحه وحذره وخامة
عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فيما إذا ظهر عليه مناظروه، وإنه ليس حينئذ إلا السيف،
وإنه إنْ ندم ورجع عن مقالته سأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وضمن له جائزة
وقضاء ما له من حاجة، فأجابه عبد العزيز بأنه ما خرج من بلده إلا رجاء إقامة
الحق.
الرئيس وقد وقف على رجليه: قد حرصت على خلاصك جهدي، وأنت
حريص على سفك دمك جهدك.
عبد العزيز: معونة الله أعظم وألطف من أن ينساني، وعدل أمير المؤمنين
أوسع من أن يضيق عليّ.
وكان قد صدر الأمر إلى بني هاشم أن يركبوا، وإلى القضاة والفقهاء
الموافقين لهم على مذهبهم وسائر المتكلمين والمناظرين أن يحضروا، والقواد
والأولياء [٣] ، فركب القوم بالسلاح لإحداث الهيبة في نفس عبد العزيز وسائر الناس
الذين يوشك أن يفسدهم، قال عبد العزيز ثم أذن لي، فلم أزل أنقل من دهليز إلى
دهليز حتى صرت إلى الحاجب صاحب الستر الذي على باب الصحن [٤] .
الحاجب: إن كنت تحتاج إلى تجديد الوضوء؟
عبد العزيز: ما لي إلى ذلك حاجة.
الحاجب: اركع ركعتين.
(عبد العزيز ركع أربع ركعات ودعا الله) .
الحاجب: استَخِر الله وقم فادخل.
فأزاح الستر وأخذ الرجال (التشريفاتية) بيدي وعضدي وجعل أقوام أيديهم
في ظهري وعلى رقبتي وطفقوا يعدون بي. ونظرني المأمون وأنا أسمع صوتًا:
(خلوا عنه) , وكثر الضجيج من الحجاب والقواد بمثل ذلك، فخلوا عني، وقد كاد
يتغير عقلي من شدة الجزع، وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح، وهو
ملء الصحن، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا
دخلتها.
قال عبد العزيز: فلما أوصلني الحُجّاب إلى باب الديوان، وقفت فسمعت
المأمون يقول: أدخلوه قرّبوه، فلما دخلت من باب الديوان، وقعت عيني عليه،
وقبل ذلك لم أنتبه إليه لما كان على باب الديوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام
عليك , يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته، ثم قال: ادْنُ مِنّي، فدنوت منه، ثم جعل يقول: ادن مني، فدنوت منه،
ثم جعل يقول: ادنُ وأدنو، ويكرر ذلك وأنا أدنو خطوةً خطوةً، حتى صرت إلى
الموضع الذي يجلس فيه المتناظرون ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما
انتهيت إلى الموضع قال لي المأمون: اجلس , فجلست.
وسمعت رجلاً من جلسائه يقول - وقد دخلت الديوان -: يا أمير المؤمنين ,
يكفيك من كلام هذا قُبْح وجهه، فوالله ما رأيت خلقًا لله أقبح وجهًا منه، فسمعت
قوله هذا وفهمته، وما رأيت شخصه، على ما كنت فيه من الجزع والرعدة.
قال عبد العزيز: وتبين لأمير المؤمنين ما أنا فيه من الجزع، وما قد نزل بي
مِن الخوف، فجعل ينظرني وأنا أرتعد خوفًا وأنتفض، وأحَبّ أن يؤنسني، ويسكن
روعتي، فطفق يكثر كلام جلسائه، ويكلم عمرو بن مسعدة (رئيس الشرطة) ,
ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج إليها، يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر
إلى الإيوان ويدير نظره فيه، فوقعت عيناه على موضع من نقش الجص قد انتفخ.
فقال: يا عمرو , ما ترى هذا النقش في الجص قد انتفخ وسيقع، فبادر في قلعه
وعمله. فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
ثم أقبل المأمون على عبد العزيز يسائله:
المأمون: ما الاسم؟
عبد العزيز: عبد العزيز.
المأمون: ابن مَن؟
عبد العزيز: ابن يحيى بن مسلم.
المأمون: ابْنُ مَن؟ (يسأله عن جَدِّه)
عبد العزيز: ابن ميمون الكنانيّ.
المأمون: أوَأنت من كنانة؟
عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين.
ثم سكت المأمون هنيهة لا يتكلم.
المأمون: مِن أين الرجل؟
عبد العزيز: مِن الحجاز.
المأمون: ومِن أيّ الحجاز؟
عبد العزيز: مِن مكة.
المأمون: ومَن تعرف مِن أهل مكة؟
عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، قلَّ من بها من أهلها إلا وأنا أعرفه. إلا
رجلاً ضوى (لجأ) إليها أو من جاور بها، فإني لا أعرفه.
المأمون: أتعرف فلانًا وفلانًا (وجعل يعدد جماعة من بني هاشم) .
عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين أعرفهم.
المأمون: وأولادهم وأنسابهم (وذكر شيئًا من ذلك) .
عبد العزيز: نعم (وأجابه عما سأل) .
قال عبد العزيز: وإنما يريد أمير المؤمنين إيناسي، وبسطي للكلام، وتسكين
روعتي وجزعي، فذهب عني ما كنت فيه، وما لحقني من الجزع، وجاءت المعونة
من الله عز وجل، فقوي بها ظهري واشتدّ قلبي، واجتمع فهمي، ثم أقبل المأمون
عليّ , وقال: يا عبد العزيز , إنه قد اتصل بي ما كان منك، وقيامك في المسجد
الجامع، وقولك: إن القرآن كلام الله إلخ , بحضرة الخلق وعلى رءوس الخلائق،
وما كان من مسألتك بذلك من الجمع بينك وبين مخالفيك على القول لتناظرهم في
مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعت المخالفين لك لتناظرهم بين يدي،
وأكون أنا الحاكم بينكم، فإن تتبين الحجة لك عليهم والحق معك اتبعناك، وإن تكن
الحجة لهم عليك والحق معهم عاقبناك، وإن استقلت أقلناك.
ثم أقبل على بشر المِرِّيسِيّ , وقال: يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره
وأنصفه، فوثب بشر من موضعه كالأسد يثب إلى الفريسة فرحًا، فانحط علَيّ
فوضع ركبتيه وفخذه الأيسر على فخذي الأيمن فكاد أن يحطمه، وغمز علَيّ بقوته
كلها، فقلت: مهلاً، فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي، وإنما أمرك
بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون , وقال: تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى
باعده مني.
ثم أقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز , ناظره على ما تريد، واحتج
عليه، ويحتج عليك، وتسأله ويسألك، وتناصفا في كلامكما، وتحفَّظا ألفاظكما،
فإني مستمع عليكما، فنحفظ ألفاظكما. فقلت: السمع والطاعة لأمير المؤمنين،
ولكن عبد العزيز لم يرد أن يشرع في مناظرة خصمه ما لم ينتقم من ذلك البغيض
الذي عابه لأمير المؤمنين بقبح وجهه، وتشويه خلقه، وملخص ما قال في هذا
الصدد: إن يوسف صلوات الله عليه الذي هو أحسن البشر وجهًا، كان حسنه وبالاً
عليه فظُلِم وسُجِن رجاء تغير حلية وجهه وأن يذهب السجن بحُسْنه ولما وقف الملك
على سَعَة علمه، وحسن عبارته في تعبير الرؤيا، صيره على خزائن الأرض،
واعتزل الأمور وصار كأنه مِن تحتِ يدِه، وليست هذه المنزلة إلا بعلمه وكلامه، لا
بجماله وحسن وجهه، وقال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ولم
يقل: إني حسن جميل، فوالله ما أبالي يا أمير المؤمنين لو كان وجهي أقبح مما هو
معي، فقد أعطاني الله، وله الحمد، مِن فهم كتابه، والعلم بتنزيله. فقال المأمون:
وأي شيء أردت بهذا القول؟ وما الذي دعاك إليه؟ فقلت: إني سمعت بعض من
هنا يقول يا أمير المؤمنين: (يكفيك من كلام هذا قبح وجهه) فأي عيب يلحقني
في صنعة ربي عز وجل؟ فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، فقلت: يا أمير
المؤمنين: قد رأيتك تنظر هذا النقش في الحائط، وتنكر انتفاخ الجص، وسمعت
عمرًا (رئيس الشرطة) يعيب الصانع، ولا يعيب الجص، فقال المأمون: العيب
لا على الشيء المصنوع، إنما العيب على صانعه. فقلت: صدقت يا أمير
المؤمنين , وقلت الحق. فهذا (يعني جليس السوء) يعيب ربي لم خلقني قبيحًا.
فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهر ذلك عليه، ثم قال: يا عبد العزيز، ناظر صاحبك
فقد طال المجلس بغير مناظرة. ثم أخذا في المناظرة. ولا يمكن أن نتقصى مسائل
المناظرة أو نلخصها لما أن المقام لا يحتمل ذلك، وإنما نشير إلى بعض ما كان
يجري بين المتناظرين مما فيه دلالة على أخلاق العلماء إذ ذاك، وعلى كرم أخلاق
المأمون. من ذلك أن بشرًا سأل عبد العزيز سؤالاً، وكلفه جوابه، ووافقه المأمون
قائلاً: هذا يلزمك يا عبد العزيز. فعند ذلك جعل ابن الجهم وغيره من شيعة بشر
يضجون ويقولون: ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق الباطل، إن
الباطل كان زهوقًا، وطمعوا في قتل عبد العزيز، وجثا بِشْر على ركبتيه، وجعل
يقول: أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن , وأمسك عبد العزيز فلم يتكلم،
فقال له المأمون: ما لك لا تتكلم يا عبد العزيز؟ فقال: سألني بشر وهو المناظر
لي، فضجيج هؤلاء إيش هو؟ وأنا لم أنقطع، ولم أعجز عن الجواب، ولست أتكلم
ما لم يسكتوا. فصاح المأمون لمحمد بن الجهم وغيره: أمسكوا، فأمسكوا، وأقبل
علي , وقال: تكلّمْ يا عبد العزيز واحتجَّ لنفسك. فتكلم وأخذا في المناظرة.
قال عبد العزيز: وجعل بشر يصيح ويقول: لو تركته يا أمير المؤمنين يتكلم
لجاء بألف شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين قد ذهبتَ بالحجج , ورضي بشر
وأصحابه بالضجيج والترويج بالباطل، وقطع المجلس، وطلب الخلاص، ولا
خلاص من الله حتى يظهر دينه ويقع الباطل بالحق فيزهقه، فصاح المأمون ببشر:
أقبل على صاحبك ودع هذا الضجيج، وكان المأمون قد قعد منا مقعد الحاكم من
الخصوم.
قال عبد العزيز: وكثر تبسم المأمون من قولي، حتى غطى بيده على فيه،
وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير.
ومما استدل به بشر على مذهبه قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام:
١٠٢) ، والقرآن شيء من تلك الأشياء المخلوقة.
فأجاب عبد العزيز بما خلاصته: قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل
عمران: ٢٨) , فلله نفس، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} (آل عمران:
١٨٥) , فنقول: يا بشر إن نفس الله داخلة في هذه النفوس؟ فصاح المأمون
بأعلى صوته، وكان جهوري الصوت، معاذ الله معاذ الله.
هذا مثال مما كان يجري بين المتناظرين في حضرة المأمون، ولم يزل عبد
العزيز يدحض حجج خَصْمه ويكسر أقواله بالكتاب والسنة والقياس حتى قال المأمون
له: أحسنت يا عبد العزيز , ثم أمر بعشرة آلاف درهم , فحملت بين يديه وانصرف
من مجلسه على أحسن حال وأجملها.
قال عبد العزيز: فسُرّ المسلمون جميعًا بما وهبه الله لهم من إظهار الحق وقمع
الباطل , وانكشف عن قلوبهم ما كان اكتنفها من الغم والحزن , وجعل الناس يجيئون
إليّ أفواجًا، حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفًا على نفسي وعليهم من مكروه
يلحقنا، فقالوا: لا بُدَّ أنْ تملي علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فهبت ذلك وتخوفت
سوء عاقبته، فلما ألحّوا علَيّ، قلت: أنا أذكر لكم بعض ما جرى مما لا يجوز علَيّ
فيه شيء ولا حجر في ذكره، فرضوا، فأمليت عليهم أوراقًا مختصرة لأقطعهم بها
عن نفسي، وعن ملازمة بابي.