للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه ِ [[*]
(س٥) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية:
حضرة مولانا الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل السيد محمد رشيد رضا
الأكرم، السلام عليكم ورحمة الله، مولاي، نشرت إحدى الصحف أن طبيبًا
أمريكيًّا اكتشف عائلة مكونة من أب وأبناء له ثلاث بأن كل فرد منهم له قلبان
وأن كل قلب مستقل عن الآخر ويؤدي وظيفته تمام التأدية، ولما كان هذا
معارَضًا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب:
٤) أرجوكم إجلاء الحقيقة مع إظهار معنى الآية الشريفة وبيان وجه مخالفة
الآية والعقل معًا لذلك إن كان ثمت مخالفة أو موافقة، هل الآية قاصرة على
الرجل أو تشمل المرأة التي هي فرعه، وهل يؤخذ من الآية أم الخارج، أملي
التكرم بالجواب خدمة للعلم والدين لا زلتم للفضل أهلاً.
... ... ... ... ... ... ... من المخلص محمد \ سليمان
... ... ... ... ... ... ... ... بجريدة الأهالي

وقد أرسل السائل الفاضل ما نشرته في ذلك جريدة الأهالي في عدد ٦٨٩
وهذا نصه:
المعروف للآن أن القلب يسكن الجانب الأيسر من صدر الإنسان وأن
الذين وجدت لهم قلوب في الجانب الأيمن يمكن أن يعدوا على الأصابع بين
مئات الملايين من بني آدم، ولكن أحد أطباء أمريكا اكتشف أخيرًا أمرًا أغرب
بكثير من وجود القلب في الجانب الأيمن، اكتشف أربعة أشخاص من أسرة
واحدة لكل منهم قلبان: قلب في اليمين وقلب في اليسار، وهؤلاء أربعة هم أب
وأبناؤه الثلاثة.
وبعد المشاهدة والامتحان عرف أن كلاًّ من القلبين منفصل عن أخيه تمامًا
ويؤدي وظيفته كما لو كان وحده، رأيه أن الأبناء ورثوا ذلك من أبيهم. اهـ.
(ج٥) يطلق لفظ القلب اسمًا لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى
الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: إن القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه
المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة، كأنه يريد أن هذا هو الأصل، ثم جعله
بعضهم اسمًا لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها
وحجابها قلبًا، ويطلق اسمًا لما في جوف الشيء وداخله كقلب الحبة، واسمًا
لشيء معنوي وهو النفس الإنسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر
وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه
الأفعال في القرآن.
والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء
الحسية، وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات
والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء عدة أسماء منها الروح وهو
من مادة الريح، فإن لفظ الريح، أصله (روح) بكسر الراء فقلبت الواو ياء
لمناسبة الكسرة كواو الميزان، ولذلك تجمع الريح على أروح والميزان على
موازين، والمناسبة بين الروح والريح أن كلاً منهما خلْقٌ خفي قوي، ومنها
النفس وهو من النَّفَس بفتحتين؛ لأن النفس دليل الحياة التي تكون بالنفس،
ومنها القلب واللب؛ لأن لب الشيء وقلبه من المخلوقات الحية هو مستَقَر
حياته ومنشؤها كما يعرف ذلك في الحبوب، وهنالك مناسبة أخرى للقلب هو أن
قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها، وللوجدانات النفسية
والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان، ومهما كانت المناسبة التي
كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة
والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ
الحَنَاجِرَ} (الأحزاب: ١٠) أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من
مكانها، وقال: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: ٤٦) أي نفوس أو
أرواح وليس المراد أن القلب الحسي هو آلة العقل. وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ
* عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: ١٩٣-١٩٤) أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة،
وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل؛ لأن العقل في اللغة ضرب
خاص من ضروب العلم والإدراك لا يقال: إن الوحي نزل عليه، ولكن قد تسمى
النفس العاقلة عقلاً كما تسمى قلبًا، وقد يُعزى إلى القلب ويُسند إليه ما هو من
أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: ٢) وقوله: {ِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: ١٥٦) وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة: ١٥)
وللاشتراك بين القلب المعنوي وهو النفس، والقلب الحسي وهو المضغة التي
ينبعث منها الدم؛ أو لأن الاسم الأول مأخوذ من الثاني، وإن صار
مستقلاًّ بمعناه، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ} (الحج: ٤٦) أما الجوف في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن
قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: ٤) فقد يراد به الصدر، وقد يراد به ما هو أعم منه،
فإن جوف الشيء باطنه كقلبه، فالرأس له جوف وفيه الدماغ، والقلب له جوف
وفيه السويداء، فعُلم مما تقدم أن القلب في هذه الآية هو الروح الإنساني
المدرك.
روى أحمد والترمذي وحسَّنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم،
والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في سبب نزول هذه الآية:
(قام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي فخطر خطرةً، فقال المنافقون
الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم، أي: مع
أصحابه الصادقين) .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش
يسمى ذا القلبين كان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. فأنزل الله فيه ما
تسمعون.
وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو
يعقل أفضل من عقل محمد، وأنه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين، وأن الآية
ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب،
ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال.
ولو فرضنا أن المراد بالآية نفي أن يكون للإنسان قلبان حسيان لكان
الكلام صحيحًا، سواء صحت رواية الجريدة أم لا، ولا تصلح أن تكون هذه
الرواية ناقضة لخبر الآية لا لأن خبر الآية ماضٍ وما اكتشف بعدها لا ينقض
خبرها عما قبله؛ بل لأن بيان أحوال الخلق إنما تبنى على ما مضت به السنة
العامة التي يعبرون عنها بالناموس الطبيعي؛ والشاذ لا حكم له، ولا يعد
مكذبًا لمن يخبر عن السنن الكونية بما هو المعروف.
فإذا قال علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن جسد الإنسان مركب من
رأس ويدين ورجلين مثلاً، وإن لكل يد ورجل خمس أصابع فلا ينقض قولهم
هذا ولادة طفل برأسين أو أكثر من يدين بست أصابع، ونحو ذلك مما يسمونه
فلتات الطبيعة.
وإذا أنت تدبرت السياق الذي وردت فيه الآية وفهمت المراد منها بمعونته
علمت أن مسألة اكتشاف رجل له ولكل من أولاده قلبان لا يدنو من معنى الآية
بوجه ما. ذلك بأن السورة افتتحت بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة
الكافرين والمنافقين واتباع الوحي خاصة، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} (الأحزاب: ٤) فكان المراد منه أن الإنسان لا
يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين، وهما ابتغاء رضوان الله
وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين والإخلاص فيكون في وقت واحد مخلصًا
لله ومخلصًا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر:
لو كان لي قلبان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك معذبا
فهل يتعلق اكتشاف قلبين لحميين لرجل واحد - إذا صح - بشيء من
مراد الشاعر هنا؟ لا، إلا إن كانت إدراكاته ووجداناته النفسية صارت تجمع
بين الضدين في حال وزمن واحد كأن يكون مؤمنًا كافرًا، محبًّا مبغضًا، آمنًا
خائفًا، من غير ترجيح بين هذه الأشياء المتقابلة، وهذا محال.
***
ترتيب آي الرحمن الرحيم
(س٦) من صاحب الإمضاء الرمزي في جبل لبنان:
حضرة الفاضل العلامة السيد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. بعد السلام،
أعرض أنه قد تجاهل بعضهم حكم الله تعالى وآياته المحكمة التي أنزلت على
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي أحرزت بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً} (الإسراء: ٨٨) وأخذ مأخذه من التغيير والتأويل والتحريف والتبديل،
مدعيًا ما لم يدعه أحد قبله في العصور الخالية، وهو أن البسملة التي هي فاتحة
الكتاب، فيها خلل يعثر عليه المنتبهون مثله من ذوي الألباب، وهو أن البلاغة
تقضي بتقديم الرحيم على الرحمن.
فأرجو من سيادتكم وإرشادكم أن تبينوا هذا لمن جهل الحقيقة على
صفحات مناركم المنير، كيلا يتشبث بهذا التشبث من غلب عليه الجهل من
المسلمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ح
(ج٦) إن بعض المتعصبين الكارهين للشيء لا ينظرون إليه إلا نظرة
الكاره الملتمس للمَذَامِّ والمعايب، فإذا وجدوا منفذًا لشبهة يشوهون بها حسنه
عدوها حجة ناهضة، وقد استنبط بعضُهم الاعتراضَ الذي أشار إليه السائل من
قول أكثر المفسرين للبسملة: إن لفظ الرحمن أبلغ وأعظم معنى من لفظ الرحيم؛
لأنه أكثر حروفا، والأصل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى،
وفسروا (الرحمن) بأنه المنعم بجلائل النعم، والرحيم بأنه المنعم بدقائقها،
وأوردوا على هذا أن الترتيب لا يكون على قاعدة الترقي في الكلام بالانتقال
من الأدنى إلى الأعلى، وأجابوا على ذلك بأن الترقي إنما يكون هو الأبلغ إذا
كان اللفظان - كعالم ونحرير - يدل أحدهما على معنى الآخر وزيادة، فإنك إذا
قلت: فلان نحرير عالم كان لفظ عالم، تكرارًا لا فائدة له؛ لأن لفظ نحرير يدل عليه؛
لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص، وذكر الأخص يستلزم الأعم ولا عكس.
وكلمتا (الرحمن الرحيم) ليستا من هذا القبيل؛ لأن (الرحمن) هو المنعم
بجلائل النعم فقط، فبدئ به لأنه الأعظم معنى، والمقام مقام الثناء فيقدم فيه الأبلغ
الأدل على الفضل، ثم جيء بلفظ (الرحيم) كالمتمم للمعنى؛ ولئلا يحجم من
يحتاج إلى النعم الدقيقة عن طلبها من الله تعالى. وهذا توجيه قوي جهله أو
تجاهله المعترض المتعصب فقال ما قال.
على أن هذا التفسير للاسمين الكريمين ليس هو التفسير الذي لا معدل
عنه، فقد اختار الأستاذ الإمام قول بعضهم: إن لفظ (الرحمن) من قبيل
الصفات العارضة كالعطشان والغضبان، ولفظ (الرحيم) من الصفات الثابتة
كالحكيم والعليم، فذكر الوصف الدال على التلبس بالرحمة بالفعل عند عروض
الحاجة إليها بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى الذي لا يطرأ عليه تغيير، ثم
ذكر الوصف الدال على الثبات والدوام ليفهم العربي من أسلوب كلامه أنه
سبحانه وتعالى متصف بالرحمة بالفعل عند حاجة العباد إليها، وأنها مع ذلك
صفة ثابتة له في الأزل والأبد بصرف النظر عن تعلقها بالعباد، وهو وجه ظاهر.
وهنالك وجه آخر في حسن الترتيب وبلاغته، وهو أن (الرحمن) هو
الوصف الذي عُدَّ من قبيل اسم العَلَم واسم الذات؛ ولذلك قال تعالى {قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: ١١٠) وأما
الرحيم فهو الوصف الذي يراد منه معنى الوصفية، ولذلك تعلقت بها الباء في
قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: ٢٩) وهذا الوجه ظاهر أيضًا لا
شبهة تجرئ المتعصب على الاعتراض عليه بل هو الأظهر، فهو إذا لم
يجهله يتجاهله تعصبًا {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور:
٤٠) .