٣٠ - الاشتراع الإسلامي والخلافة نريد بالاشتراع ما يعبر عنه عندنا بالاستنباط والاجتهاد، وفي عرف هذا العصر بالتشريع، وهو وضع الأحكام التي تحتاج إليها الحكومة؛ لإقامة العدل بين الناس وحفظ الأمن والنظام وصيانة البلاد ومصالح الأمة وسد ذرائع الفساد فيها. وهذه الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس الدينية والمدنية كما قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور) أي وغيره من المفاسد والمصالح والمضار والمنافع. فالأحكام تختلف وإن كان الغرض منها واحدًا وهو ما ذكرنا آنفًا من إقامة العدل إلخ. لا يقوم أمر حكومة مدنية بدون اشتراع، ولا ترتقي أمة في معارج العمران بدون حكومة يكفل نظامها اشتراع عادل يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها الماضي، ويسلك لها السبل والفجاج للعمران الراقي، ولا يصلح لأمة من الأمم شرع أمة أخرى مخالفة لها في مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، إلا إذا أرادت أمة أن تندغم في أمة أخرى وتتحد بها فتكونا أمة واحدة كما اتحدت شعوب كثيرة بالإسلام فكانت أمة واحدة ذات شريعة واحدة، وأما الشعوب التي تقتبس شرائع شعوب أخرى بغير تصرف ولا اجتهاد فيها تحوله به إلى ما يلائم عقائدها وآدابها ومصالحها التي كان الشعب بها شعبًا مستقلاًّ بنفسه - فإنها لا تلبث أن تزداد فسادًا واضطرابًا، ويضعف فيها التماسك والاستقلال الشعبي فيكون مانعًا من الاستقلال السياسي وما يتبعه. فشرع الأمة عنوان مجدها وشرفها وروح حياتها ونمائها، وأعجب ما مُنِيَ به بعض الشعوب الإسلامية أن ترك شريعة له ذات أصل ثابت في الحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة واستبدل بها قوانين شعوب أخرى هي دونها فأصبحوا ولا إمام لهم في حياتهم الاشتراعية من أنفسهم بل هم يقتدون فيها بأفراد من الأعاجم يقلدونهم بما خسروا به أهم مقومات أمتهم وأعظم مظهر من مظاهر شرفهم، وهو الاشتراع. لا تتسع هذه الخلاصة التي نكتبها في هذا البحث لبيان أنواع الحكومات الغابرة والحاضرة وشأنها في الاشتراع ومكان المسلمين فيه، وإنما نقول: إن صحفنا العربية تصرِّح في هذا العهد آنًا بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون هذا وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمَدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محددة - ومن السنة والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا- وأن الإجماع والاجتهاد على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابها باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية. وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية، واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين - التركية والمصرية - إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا. ذلك ظن الذين يجهلون أصول الشريعة الإسلامية وأساس الاشتراع فيها الذين لا يفرقون بين الإصلاح الفقهي والاصطلاح المصري في التشريع فيعمي عليهم الحقيقةَ اختلافُ الاصطلاح: ذلك بأن اسم الدين والشرع قد يستعملان استعمال المترادف وإن كان بينهما عموم وخصوص، فإنهم كثيرًا ما يخصون الشرع بالأحكام القضائية أو العملية دون أصول العقائد والحِكَم والآداب التي هي قواعد الدين المتعلقة بصلاح المعاش والمعاد، ولذلك جعلوا الفقه قسمين: عبادات ومعاملات، والفقهاء يفرقون فيها بين الديانة والقضاء. يقولون: يجوز هذا قضاء لا ديانة. وتسمى الأحكام العملية دينًا باعتبار أنها يُدَان بها الله تعالى فتتبعُ إذعانًا لأمره ونهيه. وبهذا الاعتبار تطلق كلمة (الشارع) على الله تعالى، وأطلقت على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مبلغ الشرع ومبينه، ومن العلماء من قال: إن الله تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أنه مبلغ ومبين لما نزل عليه من الوحي وأن الوحي أعم من القرآن. والتحقيق أن هذا كله خاص بأمر الدين وهو ما شرع ليتقرب به إلى الله تعالى من العبادات، وترك الفواحش والمنكرات ومراعاة الحق والعدل في المعاملات تزكية للنفس وإعدادًا لها لحياة الآخرة. ومنها ما في المعاملات من معنى الدين كاحترام أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم والنصح لهم وترك الإثم والبغي والعدوان والغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل. وأما ما عدا ذلك من نظام الإدارة والقضاء والسياسة والجباية وتدبير الحرب مما لا دخل للتعبد والزلفى إلى الله في فروعه إلا بعد حسن النية فيه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمنه مشترعًا فيه باجتهاده مأمورًا من الله بمشاورة الأمة فيه، ولا سيما أولي الأمر من أفرادها الذين هم محل ثقتها في مصالحها العامة وممثلو إرادتها من العلماء والزعماء والقواد، وهو كذلك مُفَوِّض مَن بعدَه إلى هؤلاء أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الوحدة مَن يختارونه إمامًا لهم وخليفة له. والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) الآية، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: ٨٣) ومن السنة ما صح عنه من أن أمته لا تجتمع على ضلالة، وما كان يجعله صلى الله عليه وسلم موضع الشورى من أمور الحرب وغيرها من المصالح الدنيوية - وما أذن فيه من الاجتهاد والرأي عند فقد النص من الكتاب وعدم السنة المتبعة، والحديث فيه مشهور- ومن آثار الخلفاء الراشدين المهديين ما كانوا يستشيرون فيه أهل العلم والرأي من أمور الإدارة والقضاء والحرب أيضًا وما وضعوه من الدواوين والخراج وغير ذلك مما لم يرد به نص في الكتاب والسنة - ومن أصول الفقه حجية إجماع الأمة، واجتهاد الأئمة- فكل هذا مما يسمى في عرف علم الحقوق والقانون تشريعًا - وهو ميدان المجتهدين الواسع، وجرى عليه العمل في خير القرون. فثبت بهذا أن للإسلام اشتراعًا مأذونًا به من الله تعالى وأنه مُفَوَّض إلى الأمة يقره أهل العلم والرأي والزعامة فيها بالشورى بينهم. وأن السلطة في الحقيقة للأمة فإذا أمكن استفتاؤها في أمر وأجمعت عليه فلا مندوحة عنه. وليس للخليفة- دع مَن دونه مِن الحكام- أن ينقض إجماعها ولا أن يخالفه، ولا أن يخالف نوابها وممثليها من أهل الحل والعقد أيضًا. واتفاق هؤلاء إذا كانوا محصورين يسمى إجماعًا عند علماء الأصول بشرط أن يكونوا من أهل العلم الاجتهادي. وأما إذا اختلفوا فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الأصليين الأساسيين وهما الكتاب والسنة والعمل بما يؤيده الدليل منهما أو من أحدهما؛ لقوله تعالى بعد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) أي أحسن عاقبة ومآلاً مما عداه، ومنه العمل برأي الأكثر في تشريع قوانين أوروبا ومقلديها، فشرعنا مخالف لها في هذه المسألة. ومن وجوه كونه خيرًا من غيره وأحسن عاقبة أن النزاع بين الأمة يزول بتحكيم الكتاب والسنة فيه، وتطيب نفوس جميع نواب الأمة بما ظهر رجحانه بالدليل، ولا يبقى للأضغان والنزاع مجال بينهم، وقد تقدم إثبات سلطة الأمة وتمثيل أهل الحل والعقد في هذا وذاك، فيراجع فيه تفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) في الجزء الخامس من تفسير المنار. الاشتراع - أو التشريع أو الاستنباط - ضرورة من ضروريات الاجتماع البشري، ومن قواعد الشرع الإسلامي أن الضرورة لها أحكام، منها: أنها تبيح ما حرَّمَه الله تعالى بإذنه في قوله بعد بيان محرمات الطعام: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: ١١٩) ومنها: نفي الحرج والعسر من الدين، وانتفاؤهما من قسم المعاملات أولى من انتفائهما من قسم العبادات التي يعقل أن يكون فيها ضرب من المشقة لتربية النفس وتزكيتها؛ إذ لا تكمل تربية بدون احتمال مشقة وجهد. ويسهل هذا الاحتمال نية القربة وابتغاء المثوبة فيه، وليس في المعاملات شيء من معنى التدين إلا ما ذكرنا آنفًا، والغرض منه حفظ الأنفس والأموال والأعراض أن يُعْتَدَى عليها بغير حق، فمن لم يردعه عن ذلك خوف عقوبة الحكام في الدنيا يردعه خوف عذاب الله في الآخرة إن كان مؤمنًا به وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. فتبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل كثيرة، منها قواعد الضروريات ونفي ومنع الضرر والضرار، فلو لم ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا التي لا نص عليها في كتاب الله، ولم تمض فيها سنة من رسوله [١]- لو لم يرد هذا كله وما في معناه لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا العصر بالتشريع. ووراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام وخير القرون وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا؛ لتلازمهما. الخلافة مناط الوحدة ومصدر الاشتراع وسلك النظام وكفالة تنفيذ الأحكام، وأركانها أهل الحق والعقد رجال الشورى، ورئيسهم الإمام الأعظم، ويشترط فيهم كلهم أن يكونوا أهلاً للاشتراع، المُعَبَّر عنه في أصولنا بالاجتهاد والاستنباط، وقد كان أول فساد طرأ على نظام الخلافة وصدع في أركانها جعلها وراثية في أهل الغلب والعصبية، وأول تقصير رُزِئَ به المسلمون عدم وضع نظام ينضبط به قيامها بما يجب من أمر الأمة، على القواعد التي هدى إليها الكتاب والسنة، وأول خلل نشأ عن هذا وذاك تفلُّت الخلفاء من سيطرة أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة واعتمادهم على أهل عصبية القوة، التي كان من أهم إصلاح الإسلام لأمور البشر إزالتها، فصار صلاح الأمة وفسادها تابعًا بذلك لصلاح الخليفة وأعوانه أهل عصبيته، لا لممثلي الأمة ومحل ثقتها من أهل العلم والرأي فيها، والغيرة والحدب عليها. ثم ترتب على ذلك شعور الخلفاء بالاستغناء عن العلم أو عدم شعورهم بالحاجة إليه وترك التمتع باللذات اشتغالاً به لتحصيل رتبة الاجتهاد به، ورأوا أنه يمكنهم الاستعانة بالعلماء الذين يتقلدون مناصب الوزارة والقضاء والإفتاء وغيرها من الأعمال التي يحتاج فيها إلى استنباط الأحكام- فتركوا العلم ثم جهلوا قيمة العلماء فصاروا يقلدون الجاهلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من يفتي بعدم اشتراط العلم الاستقلالي (الاجتهاد) في إمام المسلمين ولا في القاضي لإمكان استعانتهما بالمفتي الذي لا يكون إلا مجتهدًا، ثم عم الجهل فصاروا يستفتون الجاهلين (أي غير المجتهدين) أمثالهم، ثم أذاع هؤلاء الجاهلون الذين احتكروا مناصب الدولة وأموالها أن الاجتهاد قد أقفل بابه وتعذر تحصيله، وأوجبوا على أنفسهم وعلى الأمة تقليد أفراد معينين من العلماء والانتساب إليهم، ثم صاروا يقلدون كل من ينتمي إليهم مع الإجماع على امتناع تقليد المقلد- فضاع علم الأحكام، وفقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، واختل نظام الأمة وانحل أمرها وتضعضع ملكها، وقع كل ذلك بترك أصول الإسلام وفروعه والجاهلون يحسبون أنه وقع باتباع تعاليمه! ! قال القاضي أبو علي محسن التنوخي [٢] في كتابه (جامع التواريخ) حدثني أبو الحسين ابن عباس قال: كان أول ما انحل من سياسة الملك فيما شاهدنا من أيام بني العباس: القضاء. فإن ابن الفرات (الوزير المشهور) وضع منه وأدخل فيه قومًا بالزمانات [٣] لا علم لهم ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت تتضع ويتقلدها كل من ليس لها بأهل حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاث مائة إلى أن تقلد وزارةَ المتقي أبو العباس الأصفهاني الكاتب، وكان في غاية سقوط المروءة والرقاعة (إلى أن قال) وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ صيورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء، وكان أول ما وضع ابن الفرات من القضاء تقليده إياه أبا أمية الأخوص الفلاني البصري. وذُكر أنه إنما قلَّده لموعدة وعدها إياه؛ إذ أوى إليه واختفى عنده في أيام محنته. وأقول: إن ابن الفرات كان من أقدر الوزراء وأعلمهم بشئون الملك والسياسة، وكان حسن السيرة وإنما جرَّأه على مثل هذا جهل الخليفة وانصرافه إلى اللهو واللعب ثم التلذذ بالإسراف في اللذات، فإنه ولي وله ثلاث عشرة سنة. قال الحافظ الذهبي: اختل أمر النظام كثيرًا في أيام المقتدر بصغره. يعني أن الخلل قد طرأ قبله من أيام المتوكل بن المعتصم إذ كان قد اشتد عيث الترك الذين استكثر منهم المعتصم وجعلهم عُدَّة الخلافة وسياجها فكانوا هم الذين دكوا بنيانها وهدموا أركانها، والعلة الأولى لهذا كله بدعة ولاية العهد التي استدلوا عليها باستخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، فجعلتها القوة حقًّا لكل خليفة وإن كان متغلبًا لا يعد من أئمة الحق، ولم يراع ما راعاه أبو بكر من استشارة أهل الحل والعقد. وقد بيَّنا بطلان هذا في المسألة التاسعة من هذا البحث. فعُلم بهذا القول الوجيز أن التساهل في بعض شروط الخلافة التي عليها مدارها - وهي العلم الاستقلالي والعدالة والشورى في نصب الإمام وفي تصرفه - قد كان معلولاً للتغلب وعلة لفقد الاشتراع - الاستنباط - الذي لا يقوم أمر الدولة ولا يَطَّرِد ارتقاؤها ولا حفظها بدونه. فكان هذا علة لضعف الدولة، وكان ضعف الدولة علة لضعف الأمة، إذ صارت تابعة للدولة لا متبوعة، وكان فساد أمرهما معًا علة لتغيرات كثيرة في الأحوال الاجتماعية وشئون المعيشة تقتضي أحكامًا شرعية أخرى غير التي كان الأمر عليها قبلها، أو تعود الإمامة الحق إلى أصلها. ونحمد الله أن ظهر لأركان الدولة التركية التي تنحل منصب الخلافة أن الدولة العثمانية كانت فاسدة وأنها لم تكن بعد دعوى الخلافة خيرًا من قبلها، بل لم تلبث أن دَبَّ إليها الخلل والضعف بالتدريج في كل أمور الدين والدنيا حتى صار كثير من نابتتنا المتفرنجين يصرحون بأن الإسلام هو الذي جنى عليها وأن حكم الخلافة هو الفاسد الذي لا يمكن صلاح حالها معه، فتسنى لنا أن نبين لها وللعالم الإسلامي الذي كان أكثره مفتونًا بها أنها لم تكن قائمة على أصول الشريعة في الخلافة، وأن نبين حقيقة الخلافة وشكل الحكومة الإسلامية الحق وخطأ جمهور أعضاء المجلس الوطني الكبير في رأيهم وعملهم فيها، ونثبت بالدلائل أن أصول الحكومة الإسلامية أرقى من أصول سائر حكومات الأمم، بجمعهما بين دفع المفاسد وحفظ المصالح المادية، وبين الحق والعدل والفضائل التي يتهذب بها البشر وتكمل الإنسانية، وأن ندعو هذه الأمة التركية الإسلامية إلى إقامة حكومة الإسلام كما أمر الله ورسوله وخلفاؤه الراشدون خير أمة أخرجت للناس ولو كره المتفرنجون {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: ٤٢) . * * * ٣١- ما بين الاشتراع وحال الأمة من تباين وتوافق وضع الإسلام قواعد عامة لأنواع المعاملات الدنيوية راعى فيها هداية الدين وتقييد حكومته بالتزام الفضائل واجتناب الرذائل، فلم يجعل ما فوض إلى أولي الأمر من الاستنباط - الاشتراع - مطلقًا من كل قيد لئلا يجنوا على آداب الأمة خطأ في الاجتهاد، أو اتباعاً للهوى إذا غلب عليهم الفساد، فحرم الربا الذي كان فاشيًا في الجاهلية؛ لما فيه من القسوة والبخل والطمع الذي يحمل على استغلال ضرورة المحتاج، كما حرم الغش والخيانة، وجعل الأمة متكافلة بما أوجب من النفقة على القريب والزكاة لإزالة ضرورة الفقير والمسكين، ولغير ذلك من المصالح العامة، وجعل لكل امرأة كافلاً يقوم بأمرها من زوج أو قريب؛ وإلا فالإمام الأعظم أو نائبه؛ لئلا تضطر إلى ما يشق عليها القيام به من الكسب مع قيامها بوظائفها الخاصة بها من الحمل والوضع والرضاعة وتربية الأطفال - فيكون اضطرارها إلى الحياة الاستقلالية سببًا لقلة النسل ولغير ذلك من المفاسد. وقد كان من تأثير ضعف الدين في الشعوب الإسلامية وحكوماتها أن ترك كل منهما مراعاة ما يجب عليه من تلك القواعد والتزام أحكامها، فترتب على ذلك احتياج كل منهما إلى ارتكاب بعض المحظورات كالربا إما اضطرارًا وإما اختيارًا ترجح فيه المصلحة على المفسدة رجحانًا ظاهرًا. هذا الاحتياج الذي يدفع صاحبه إلى ارتكاب المحرم إذا لم يجد له مخرجًا لا يعرض في الإقراض كما يعرض في الاقتراض، فكان من أثره أن المسلمين لم يجدوا من يقرضهم إلا من غيرهم، إما من أهل ذمتهم وإما من الأجانب عنهم، كالمعاهدين الذين يكونون في بعض الأحيان حربيين، وهذه مفسدة أخرى، هي ذهاب ثروة المسلمين إلى غيرهم، وناهيك بذهابها إلى أعدائهم، وحاجتهم إليهم في أهم مصالحهم. ثم إن توسع الفقهاء في مسائل الربا وإدخالهم فيها ما لم يكن معروفاً في عصر الوحي- وتضييق أكثرهم في أحكام العقود المالية- واستحداث الأمم التي يتعاملون معها لأنواع كثيرة من العقود والمعاملات- وترقي العلوم الاقتصادية والأعمال المالية إلى درجة قضت بتفوق متبعي قواعدها ونظمها على غيرهم في الثروة والقوة والسيادة- كل أولئك كان دافعًا في صدور المسلمين ورافعًا لغيرهم عليهم حتى في ديارهم، بل هو أظهر العلل لسلب جُلّ ملكهم منهم، والسيطرة عليهم فيما بقي لهم شيء من السيادة فيه، ولاعتقاد أكثر الذين يعرفون أحوال هذه الأمة العزيزة في علومها وأعمالها ويجهلون أصول الإسلام- أن الإسلام نفسه علة ضعف المسلمين بما في شرعه من الجمود على أحكام عتيقة مالية واجتماعية توجب فقر ملتزميها، وكل ما يجره الفقر في الأمم من الذل والضعف وفقد الملك. بدأت بضرب المسألة المالية مثلاً لِما طرأ على كثير من البلاد الإسلامية من تأثير ترك العمل بأحكام الشريعة الغراء، إذ كان المال قوام حياة الأمم والدول في كل زمان، وصار له من الشأن في هذا الزمان ما لم يكن له من قبل ولا سيما عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت فيه الأمة قليلة الحاجات، وغير مرتبطة في حياتها بمعاملات الأمم الأخرى، ولكن عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم قد أنزل في ذلك العصر قوله: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: ٥) فأرشدنا به إلى مكانة المال من حياة الأمم ونظام أمرها وكونها لا تقوم إلا به، وحثنا على المحافظة عليه، وعدم تمكين السفهاء من التصرف فيما هو ملك لهم منه، كما أمرنا في آيات أخرى بالاقتصاد ونهانا عن الإسراف والتبذير، وذمه كما ذم القمار غول الثروة بما أفاد تحريمها وتحريم القمار بأنواعه في الدين؛ فهل يمكن أن يقال: إن مقتضى شرع هذا الدين أن يكون أهله فقراء؟ وأن يكون ما به قيام معاشهم وعزة أمتهم ودولتهم في أيدي الطامعين فيهم من الأمم الأخرى؟ وإذا كان هذا مخالفًا لهدي هذا الدين فما بال المشتغلين بعلم الشرع فيه أجهل أهل بلادهم بالفنون المالية، وبما يرتبط بها من الأمور السياسية، ولا يجعلون هذه الفنون عما يتدارسونه في مدارسهم الدينية؟ ! السبب لهذا أنه ليس لهم حكومة إسلامية تطلبه منهم لتكون أحكامها وميزانيتها موافقة لحكم الشرع. وأضرب لهم مثلاً آخر: ميل بعض المسلمين في مصر والترك إلى التعاليم الاشتراكية بل قيامهم بتأليف الأحزاب لها والدعوة إليها، وسواء كان ذلك افتتانًا بتقليد الفرنجة أو شعورًا بما يشعر به الاشتراكيون في أوروبا من تأثير أثرة أرباب الأموال على العمال وغيرهم من أهل الإملاق- فلو كانت الشريعة الإسلامية نافذة الأحكام، والهداية التي يتبعها الخواص والعوام، لما شعر بالحاجة إلى التعاليم الاشتراكية أحد من أهلها، بل لرأى الاشتراكيون من الأمم الأخرى أنه يجب حل المسألة الاجتماعية بها، ولكان ذلك سببًا لاهتداء كثير منهم إلى الإسلام ودعوتهم إليه. وما لي لا أذكر من المثل في هذا المقام دعوة كثير من النساء والرجال في مثل هذه البلاد إلى تربية المرأة تربية استقلالية تساوي بها الرجل في كل شيء حتى لا يكون قَيِّمًا عليها في شيء. سبق الإسلام جميع الملل إلى المساواة بين الرجال والنساء في الشئون الزوجية إلا هذه الدرجة، بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: ٢٢٨) وهي الرياسة التي بيَّنَها في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: ٣٤) فجعل سببها تفضيلهم عليهن بالقوة على الكسب والحماية والدفاع، وما فرض لهن عليهم من المهر والنفقة. أفرأيت لو أن أفراد المسلمين وحكامهم أقاموا هذه الشريعة، فساوى الرجال النساء بأنفسهم في كل شيء ما عدا رياسة المنزل وكذا الرياسة العامة كالإمامة العظمى وإمامة الصلاة، وكرَّمَوهن كما أوصاهن الرسول صلى الله عليه وسلم - أكانت النساء تشعر بالحاجة إلى إعداد أنفسهن للكسب وغيره من أعمال الرجال الشاقة؟ أم يفضلن أن يعشن في هناء وراحة يتمتعن من كسب الرجال في ظل كفايتهم، وكفالة الشريعة التي تنفذها حكومتهم بما لا يتمتع به الرجال أنفسهم؟ فإن المرأة تأكل من كسب الرجل ما يأكل وهي المدبرة لأمر مأكله، ولكنها تفضله بما تلبس من الحلل وما تتزين به من الحلي، فإن كان ثم غبن فالرجل هو المغبون. وجملة القول في هذا المقال: أن ترك العمل والحكم بالشريعة في بعض المسائل يُفْضِي إلى ترك بعضًا آخر منها أو يفضي إلى جعله متعذرًا؛ إذ يصير مفسدة بعد أن كان في الأصل عين المصلحة، ثم يؤثر ذلك في أفكار الأمة وأخلاقها وعاداتها، حتى تنقلب بتغيير عظيم في مقوماتها ومشخصاتها. فالشر والخير والباطل والحق كل منهما يقوي جنسه ويؤيده، وقد فقدت الأمة الإسلامية ما يصونها من ذلك التدهور والهويّ، وينصب لها معارج الرقي، ويستنبط لها من الأحكام في كل زمن ما يليق بحالها، مبنيًّا على قواعد الشريعة الهادية لهم إلى كمالها. ذلك بأن الاستنباط (الاشتراع) الذي أُذن به لأولي الأمر من المسلمين قد فُقِدَ بفَقْدِ جماعتهم وزوال الإمامة الحق المنفذة لاستنباطهم، كما علم ذلك من المسائل ٣ و٤ و٥ و١٧ من هذا البحث، ومن بقي يشتغل بعلم الأحكام الشرعية الإسلامية فقصارى أمر جمهورهم مدارسة الكتب التي أُلفت للأزمنة الماضية التي كانت دار الإسلام فيها ذات استقلال ومنعة وبيت مال غني كافٍ لكفالة المعوزين والغارمين وغير ذلك من النفقات الشرعية - فهؤلاء لا يستطيعون أن يفتوا بما يخرج عن قواعد مصنفي تلك الكتب لتلك الأزمنة ولحكوماتها، التي كانت تلتزم العمل بها، بل قرروا فيما وضعوه من الشروط للإفتاء أن يلتزموا فروع كتب معينة لا يتعدونها؛ لأن تعديها ضرب من الاجتهاد ولو في المذهب، وقد قرروا منعه كالاجتهاد المطلق. ومنتهى ما يُرْجَى من توسعتهم على الحكومة التي تريد العمل بأحكام الشريعة أن يستخرجوا لها بعض الفروع الموافقة للمصلحة العامة في هذا الزمان من كتب المذاهب المعتمدة. فإن الذين حرموا عليهم الاجتهاد والاستنباط من أصول الشريعة والاقتباس من مصباحها مباشرة قد أوجبوا عليهم تقليد مذاهب معينة كما قال صاحب جوهرة التوحيد: * فواجب تقليد حبر منهم * يعني الأئمة المشهورين في الفقه. فاعتمدوا هذا التحريم والتحليل ممن ليس بأهله. وإنما أباحوا تقليد غير الأربعة من المجتهدين للعالِم بذلك في خاصة نفسه، دون الإفتاء به لغيره، كما قال بعضهم. وجائز تقليد غير الأربعة ... في غير إفتاء وفي هذا سعة مثال هذه التوسعة في أصول المعاملات أن القاعدة عند أكثر الفقهاء المشهورين أن الأصل في العقود البطلان، فلا يصح منها إلا ما دل الشرع على صحته، وذهب آخرون إلى أن الأصل فيها الصحة إلا ما دل الكتاب أو السنة على بطلانه؛ لقوله تعالى في أول سورة المائدة وهي آخر ما نزل من السور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: ١) والعقود ما يتعاقد الناس عليه، فهذا المذهب أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً، بما فيه من التوسعة على الناس وهو الذي رجََّحه المحققون من الحنابلة. ألم تر أنه لما شاءت الحكومتان العثمانية والمصرية أن تخرجا من مذهب الحنفية في بعض أحكام النكاح والطلاق وفسخ النكاح في بعض الأحوال وتأخذا فيها بما تقرر في المذاهب الأخرى - لَبَّاهُمَا شيوخ الفقه ووضعوا لهما قوانين في هذه الأبواب مقتبسًا بعضها من المذاهب الثلاثة الأخرى؟ ولعلهما لو شاءتا الأخذ في بعض الأحكام بأقوال غير علماء المذاهب الأربعة من الصحابة والتابعين وأئمة العترة لما أبوا مُوَاتَاتهما، فإن الجمود على مذهب معين لم يكن إلا تحقيقًا لرغبة الأمراء والسلاطين، والاسترزاق من الأوقاف التي زمامها بأيديهم، فالذنب فيه مشترك بينهم وبين الفقهاء الذين رأوا فيه منفعة لهم. وأما الذي لا يجرؤ عليه هؤلاء المتفقهة فهو الاستنباط من الكتاب والسنة وقواعدهما العامة، ككون الضروريات تبيح المحظورات، وكون ما حرم لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة. وإن نص أئمتهم على هذه القواعد؛ لأن هذا عندهم من الاجتهاد الممنوع. والحق أن العلم الاستقلالي (الاجتهاد) لم ينقطع ولن ينقطع من هذه الأمة المحمدية، وإلا لبطلت حجة الله على الخلق بفقد حملتها والدعاة إليها والذابين عنها؛ ولِما صح من خبر المعصوم من عدم اجتماعها على ضلالة، ومن أنه لا يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، ولكن هؤلاء العلماء المستقلين كانوا ينتسبون في كل عصر من أعصار غلبة الجهل إلى المذاهب التي نشأوا عليها قبل الاجتهاد لسببين: (أحدهما) أنهم لم يكونوا يجدون رزقًا يتمكنون به من الانقطاع للعلم إلا من الأوقاف المحبوسة على المشتغلين بهذه المذاهب فيضطرون إلى تدريس كتبها والتصنيف فيها؛ ليحل لهم الأكل مما وقف على أهلها. (وثانيهما) أن الملوك والحكام وأعوانهم من المقلدين كانوا وما زالوا حربًا للعلم الاجتهادي الذي يفتضحون به، ويظهر جهلهم وضلالهم بظهوره، فإذا وجدت حكومة إسلامية جريئة كالحكومة التركية الحاضرة تحيي العلم الاجتهادي - فإنها تجد منذ الآن سدادًا من عوز لما تحتاج إليه من الأحكام وللتعليم في المدرسة الاجتهادية التي اقترحنا إنشاءها في المسألة (رقم ٢٦) على أن مقلدة المذاهب لا تكاد تطلب الحكومة منهم شيئًا إلا وتجد فيهم من يفتيها ولو بالتأويل والخروج عن صحيح المذهب. إذًا لا يمكن خروج الأمة الإسلامية من جحر الضب الذي دخلت فيه إلا باجتهاد ووجود المجتهدين وما يلزمه من وجود الإجماع الأصولي الذي هو إحدى الحجج عند الجمهور، وإن شئت قلت هو ركن الاشتراع الركين الذي لا يمكن أن ترتقي أمة ولا ينتظم أمر حكومة بدونه كما قلنا في صدر هذه المسألة، بل وجود الإمامة الحق يتوقف على هذا الاجتهاد كما علم مما تقدم. وأن اجتماع المجتهدين في هذا العصر ممهد السبيل موطأ الأكناف لإمكان العلم بهم ودعوتهم إلى الاجتماع في مكان واحد أو عرض المسائل عليهم أينما وجدوا، وهذا لم يكن ممكنًا في عصر أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومَن بعدهم ولذلك قال بعض المحققين: إن العلم بالإجماع - إن وُجد - غير ممكن. * * * ٣٢- تأثير الإمامة في إصلاح العالم الإسلامي العالم الإسلامي في غمة من أمر دينه وأحكام شريعته، تتنازعه أهواء حكامه المختلفي الأديان والمآرب، وآراء علمائه ومرشديه المختلفي المذاهب والمشارب، ومساورة أعدائه في دينه ودنياه، وليس له مصدر هداية عامة متفق عليه فيرجع إليه فيما عمي عليه، وكلما ظهر فيه مُصْلِح هَبَّ أهل الأهواء المفسدون يصدون عنه، ويطعنون في دينه وعلمه، ولا علاج لهذه المفاسد والضلالات إلا إحياء منصب الإمامة، وإقامة الإمام الحق المستجمع للشروط الشرعية، الذي يقوم مع أهل الحل والعقد بأعباء الخلافة النبوية، فإنه هو الذي يذعن كل مسلم لوجوب طاعته فيما يصدر عنه من أمور الإصلاح العامة بقدر الاستطاعة، ويرجح إرشاده على إرشاد غيره في الأمور الخاصة؛ إذ يكون أجدر ببيانها بالحجة الواضحة، فإذا لم تكن الإمامة كذلك كان حكم الشرع فيها أنها سلطة تَغَلُّب، ولا تجب طاعة المتغلب شرعًا ولو فيما وافق الشرع إلا على مَن هو متغلب عليهم، فقد كان السلطان عبد الحميد يدعي الخلافة؛ ولما لم يكن مستجمعًا لشروطها ولا قائمًا بواجباتها لم يكن مسلمو الأفغان واليمن ونجد والمغرب الأقصى يؤمنون بصحة خلافته، ولا يعتقدون وجوب طاعته، فيجعلوا حكوماتهم تابعة لدولته. بل لم يكن أهل مصر الذين كانوا تحت سيادته السياسية معترفين بخلافته يقبلون أن يكون له عليهم أمر ولا نهي، وإنما كان اعترافهم أمرًا صوريًّا معنويًّا، يتوكأون عليه في مقاومة السيطرة البريطانية عليهم، كما هو شأنهم وشأن أمثالهم في الاعتراف بالخلافة الاسمية الحديثة في الآستانة على ما بيَّنَّاه في موضعه من هذا البحث، وهذه الخلافة الحديثة لا تبلغ درجة التغلب فإن الذين ابتدعوها لم يجعلوها ذات أمر ولا نهي في حكومتهم. وأما إذا نُفِّذَ ما اقترحناه وبينا طريقه من إقامة الإمامة الحق، ولو في بقعة صغيرة من الأرض، فإن جميع العالم الإسلامي يذعن لها إذعانًا نفسيًّا منشؤه العقيدة الدينية، ولا تجد حكومة من الحكومات الإسلامية مجالاً للطعن فيها، ولا يكون لأحد من المصطنَعين للأجانب سبيل لإنكارها، وحينئذ يسعى كل شعب إسلامي للاعتصام بها، فالشعب الذي لا يستطيع أن يتبع حكومة الإمام الحق لقهر دولة قوية له يجتهد ويتحرى أن يتبع جماعة المسلمين وإمامهم كما أمره الله ورسوله فيما لا سيطرة لحكومته عليه فيه من نظام التربية الدينية والتعليم الإسلامي والأحكام الشخصية، بل قد تضطر كل حكومة مسيطرة على شعب إسلامي أو تستميله بقدر ما ترى فيه من الوحدة والرأي العالم بموادة خليفة نبيه والسماح له بأن يتلقى الإرشاد الديني من قِبله كما هو شأن الكاثوليك مع البابا. ولعل هذا بعض ما يقصد إليه الترك من إيجاد خليفة روحاني كالبابا والبطاركة عند النصارى، ولكن المسألة دينية شرعية يجب فيها الاتباع، ولا يمكن أن تنجح بالمواضعة والابتداع، وإن كان يود ذلك الكثيرون ممن يقدمون السياسة على الدين، وقد جهل هذا بعض الذين أظهروا استحسان عمل الترك، وتجاهله بعض آخر أو غفل عنه، وظن كل منهم أن هذا كافٍ في حصول ما يرغبون فيه من نكاية أعداء الإسلام وغيظهم، وشد أزر الشعب التركي ومؤازرته عليهم، وذلك ظن الجاهلين بشئون العالم وسياسة الدول ودرجة اختبارها، كما نبينه في المسألة التالية. لعلنا من أدرى الناس بما يترتب على إقامة الإمامة الحق من الإصلاح في العالم الإسلامي بما لنا من الاختبار، وكثرة ما يرد علينا من الرسائل والمسائل من الأقطار، ومن أحدثها سؤال ورد من قطر إسلامي عن أقل ما يكون به الإنسان الجاهل الأعجمي مسلمًا؛ لأن أهله أجهل وأضل من مسلمي (بنكوك - سيام) الذي وصف لنا سوء حالهم من سألنا عن صحة إسلامهم ونشرناه في المنار من قبل. وقد بقي عند كل منهما بقية ممن يدعي العلم يحفظون من مذهب الإمام الشافعي (رضي الله عنه) أحكامًا اجتهادية يُحتِّمون على الناس العمل بها في صلاة الجمعة وغيرها فأدى ذلك إلى ترك صلاة الجمعة فترك صلاة الجماعة من بعضهم، بل إلى ترك الصلاة ممن يعسر عليهم حفظ الفاتحة وتجويدها بإخراج الحروف من مخارجها وتشديد المشدد منها ولا سيما الياء في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) فإن تخفيف المشدَّد فيها مبطل للصلاة عند الشافعية. ومن أحدثها سؤال بعض أهل العلم في جاوه عن حكم ما جروا عليه بأمر حكامهم المسلمين من إلزام كل من يتزوج بأن يطلق المرأة التي يعقد عليها عقب العقد طلاقًا معلقًا على التقصير في النفقة عليها أو ضربها أو على الغيبة عنها وتركها بغير نفقة بالصفة التي يرى القارئ بيانها في باب الفتوى من المنار. إن كثيرًا من أهل العلم الساعين لإصلاح حال المسلمين في الأقطار المختلفة يعملون بما ننشر في المنار من الحقائق الدينية بالأدلة التفصيلية، ويسألنا بعضهم عما يعرض عليه مما لم ير حكمه فيه، ويجد هؤلاء وأمثالهم معارضين في بعض البلاد من مقلدة بعض المذاهب لما يخالف مذهبهم، ولكنهم لا يعنون بنشر مذاهبهم وحمل الناس عليها، بل يتركونهم فوضى في أمر دينهم لا يبالون بتركهم للفرائض ولا باقترافهم لكبائر المعاصي، وإنما يهتمون بمعارضة بعض المسائل التي تخالف مذهبهم كصلاة الجمعة بما دون أربعين رجلاً حرًّا بالغًا مقيمًا في داخل سور البلد لا يظعن عنها، وإن أدت هذه المعارضة إلى ترك الجمعة ألبتة، فإذا صار للمسلمين إمام وجماعة من أهل العلم الاجتهادي والعدالة يستمد منهما دعاة الإصلاح العلم والإرشاد، فإنه لا يلبث أن يعم ذلك مسلمي جميع البلاد. وقد سبق لنا أن اقترحنا في المجلد الأول من المنار ضروبًا من الإصلاح على مقام الخلافة الإسلامية الرسمي - وإن كانت خلافة تغلب - لأن بلادنا كانت خاضعة لحكمه، ونود أن يقوم بالحق بقدر طاقته، فكان جزاؤنا على مثل هذا الاقتراح منع المنار أن يدخل البلاد العثمانية، وإيذاء أهلنا وأصدقائنا في الديار السورية. ولا غرو فذلك الخليفة نفسه كان جاهلاً بأصول الدين وفروعه وبما يصلح به حال المسلمين ويفسد، وأعوانه جهلاء وأصحاب أهواء، فهم لا يبلغونه أمثال تلك الاقتراحات، وإذا ذكروها له شوهوها، وجعلوا حقها باطلاً، وصلاحها فسادًا، وهو يصدقهم، ولا يطمئن لخبر غيرهم، وفاقد الشيء لا يعطيه. وجملة القول أن الجهل الغالب على أكثر المسلمين والتعصب المذهبي المفرِّق للكلمة بين المتعلمين للدين منهم - لا يمكن تلافي ضررهما في زمن قصير إلا بإقامة خلافة النبوة على وجهها الذي لا يسهل على أحد أن يماري فيه مراءً ظاهرًا، ويكفي أن يعتقد صحتها السواد الأعظم من المسلمين لموافقتها لمذاهبهم وهم المنتمون إلى مذاهب أهل السنة، والزيدية من الشيعة، والإباضية من بقايا الخوارج، وهؤلاء إذا كانوا لا يشترطون في الإمام ما يشترطه أهل السنة والزيدية من النسب فهم لا يشترطون عدمه، وما لنا لا نتحرى فيه المذهب الذي يستلزم غيره كاستلزام مذهب الزيدية لمذهب السنة والخوارج استلزام الأخص للأعم والمقيد للمطلق؟ إن هذا لهو القول الحق الذي تقوم به المصلحة الإسلامية العامة وما عداه مما يقبله أتباع كل ناعق بباعث السياسة الحاضرة فهو غثاء، وسيذهب جفاء، ومنه يُعلم أن ما قررته حكومة أنقرة باطل في نفسه، ولا يفيد العالم الإسلامي أقل فائدة، بل قد كان سببًا منذ الآن لشقاق في الشعب التركي الذي يرجح جمهوره الهداية الإسلامية على نظريات القوانين والتقاليد الإفرنجية، فإن في مجلس الجمعية الوطنية حزبًا كبيرًا يرى أن المصلحة تقضي بوضع الخليفة في الموضع الذي وضعته فيه الشريعة بأن يكون هو رئيس الحكومة والمنفذ للأحكام. نعم إن حزب الغازي مصطفى كمال باشا المُصِرُّ على رفض كل سلطة شخصية في الحكومة التركية العليا سواء كانت باسم الخلافة أو غيرها - هو صاحب القلب في المجلس الحاضر، ولكن سبب ذلك تأثير هذا الرجل وحزبه من قواد الجيش في الأنفس مما لهم من المنة في إنقاذ الدولة من الخطر - لا أن هذا هو رأي الأمة التركية، ولو استُفتيت الأمة استفتاء حرًّا لخالفت هذا الحزب في هذه المسألة. هذا هو الحق. وسيعلم العالم الإسلامي أننا قد قمنا بهذا البيان بما أمرنا الله تعالى به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، بالنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فيرجع إلى رأينا من يخالفه اليوم كما رجعوا إلى رأينا في السلطان عبد الحميد ثم في جمعية الاتحاد والترقي، والعاقبة للمتقين. ((يتبع بمقال تالٍ))