نشرت مجلة الشرق والغرب التي أنشأها دعاة النصرانية (المبشرون) لبثّ دعوتهم بمصر مقالة تحت هذا العنوان قالت: إن ما أوردته فيها هو نتيجة ما وصلت إليه مباحث العلماء الذين بنوا أقوالهم على ما اتصل بهم من أشتات الروايات ذات الطرق العديدة القديمة (فأخذوها وطبقوها على اعتبارات جغرافية وجيولوجية- قالت- ولعل أشهر علماء الإفرنج الذين عالجوا هذا الموضوع البحاثة (قيطاني) - أو كاتياني كما يعربه آخرون- الإيطالي الذي اشتهر بتصنيفاته العديدة عن العرب والإسلام من وجهة تاريخية اقتصادية، وقد بنينا هذه العجالة على ما جاء في مؤلف من أحدث مؤلفاته) . ونقول نحن: إن هذا المؤرخ الإيطالي قد اشتهر عند الترك وبعض العرب بتشويهه لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أشرف سير البشر؛ لأن الاتحاديين ترجموا ما كتبه فيها بالتركية كما بينا ذلك في منار هذه السنة (ص ١٦٣ ج ٣) ولكن مباحث هذا المؤرخ المدقق في تاريخنا مما لا نستغني عنه ونود لو تترجم كلها، ونحن ننقل عن هذه المجلة ما اقتبسته عنه من المباحث المهتمة بحالة جزيرة العرب الجيولوجية وطبيعتها الجغرافية، ومهاجرة أهلها منها إلى حيث أقاموا بناء الحضارة القديمة، وهذه عبارة المجلة بنصها لم نصحح منها إلا عبارات قليلة. لقد أثبتت المباحث الحديثة أن الإنسان وجد على الأرض قبل المسيح بألوف من السنين، وأن بلاد العرب كانت مأهولة كأقدم بلاد العالم، فكيف كانت حالة العرب في ذلك العهد الخالي يا ترى؟ لا ريب في أنها كانت تختلف كل الاختلاف عما هي عليه الآن. والمعروف عنها الآن- ومنذ عدة مئات من السنين أيضًا- أنها برِّية قاحلة ذات أرض جرداء خالية من الماء [١] على أنها في الأعصر الجيولوجية كانت على خلاف ذلك. فقد مر على قارتي آسيا وأوروبا زمن كان فيه قسماهما الشماليان أشد بردًا مما هما عليه الآن. وكان الفرق بين الصيف والشتاء أشد وضوحًا مما هو الآن. فكان الهواء في الصيف أكثر امتصاصًا للرطوبة فيزداد به هطل الثلوج في الشمال وهطل الأمطار في الجنوب. وبناء عليه كانت أجزاء عديدة من آسيا وإفريقيا بقاعًا مخصبة جدًّا وهي الآن قفار جرداء، وما الأودية الكاشفة سوى بحار كانت تتدفق فيها الأنهار. ومن تلك البلاد بلاد العرب، فقد كانت سلسلة الجبال التي في غربها تتقي رياح السَّموم وتجري منها أنهر على هضاب أواسط بلاد العرب وتصب في خليج العجم. ومن تلك الأنهار نهر الدواسير الذي كان يجري في وادي الدواسير، وكان منبعه في الهضاب المكية. وكذلك نهر الرماح الذي كان يصب مع نهر الدواسير في خليج العجم. ولا يخفى أن للحالة الجوية تأثيرًا عظيمًا في السكنى، وهذا يبين لك لماذا كانت بلاد العرب مهد الشعوب السامية. وخلاصة ذلك أنه في تلك الأزمنة الطيبة كانت البلاد غاصّة بالسكان بخلاف حالتها الآن. ثم بدأت الأحوال الجوية في نصف الكرة الأرضية الشمالية تتغير بالتدريج فقل امتصاص الهواء للرطوبة وقل هطل الأمطار. وأصبحت البلاد التي بين أوربا والمنطقة الحارة تشعر بذلك التغيير العظيم. وبتمادي الزمن بدأ شمالي إفريقيا وبلاد العرب يجف، فصارت الملاين التي تسكن بلاد العرب تشعر بعدم ملاءمة البلاد لسكناها. ولا حاجة إلى القول بأن الرحيل عن بلاد العرب استغرق ألوفًا من السنين وكان تدريجيًّا، وبهذه الطريقة يمكن تعليل توالي هجرة الشعوب السامية. ولم تكن كلها غزوات أي هجرات ناشئة عن اعتبارات حربية بل كان معظمها ناشئًا عن اعتبارات سلمية بحتة كهجرة الإيرلنديين اليوم إلى أمريكا، وكانت آخر تلك الهجرات أعظمها شأنًا وقد حدثت عند ظهور الإسلام يوم فتحت أبواب بلاد العرب وأخذ سيل المهاجرة يتدفق منها شرقًا وشمالاً وغربًا. وكان لتلك الحركة غايتان تتفقان مع طبيعة البلاد الجغرافية؛ إذ لا يخفى أن شبه جزيرة العرب مقسومة إلى قسمين: (١) البلاد العربية الغربية (وهي اليمن والحجاز) ومنفذها سورية إلى الشمال الغربي ومصر والحبشة على سواحل البحر. (٢) الوسط الشرقي ومنفذه الطبيعي العراق وما بين النهرين. أما القسم الجنوبي من بلاد العرب (أي حضرموت) فقائم بنفسه. فسيل المهاجرة من بلاد العرب كان يتدفق إذًا شمالاً إلى فلسطين وسوريا أو غربًا إلى مصر والحبشة. أو شمالاً شرقيًّا إلى العراق ووادي دجلة والفرات. وقد وقعت أول هذه المهاجرات عند أول فجر التاريخ. ثم تبعتها المهاجرات الأخرى في الأزمنة التاريخية المعروفة. (١) المهاجرة الأولى- قبيل فجر هذا التاريخ قام بهذه المهاجرة شعوب سامية نزحوا إلى العراق ومعهم شعوب سومريون فتألفت منهم الأمة البابلية، ويعتقد العلامة (قيطاني- أو- كاتياني) أن المصريين القدماء الذين دخلوا وادي النيل عن طريق البحر الأحمر واستعمروا أولاً مصر العليا كانوا ساميين، وقد هاجروا في نفس الزمن الذي هاجر فيه مواطنوهم إلى العراق. ومما يؤيد هذا الرأي أن في اللغة المصرية القديمة آثار سامية عديدة منها الكاف ضمير المخاطب المفرد المضاف إليه [٢] . (٢) أما المهاجرة الثانية فقد وقعت في أول عهد التاريخ المعروف أي بين ستة آلاف و٢٥٠٠ قبل المسيح، وكان اتجاه سيل هذه المهاجرة أيضًا إلى شمال العراق وجنوبه ويتضمن حروب سرجون الملك السامي الشهير. (٣) وأما المهاجرة الثالثة فقد وقعت من سنة ٢٥٠٠ إلى سنة ١٥٠٠ قبل المسيح وفي أثنائها نزح الآشوريون الساميون من بلاد العرب وأسسوا مملكة أشور وعاصمتها نينوى على أعالي دجلة، وفي ذلك الزمن عينه نزح الرعاة (الهكسوس) من غربي البلاد العربية إلى مصر وغزا الفينيقيون غربي سوريا واجتاح الكنعانيون فلسطين. (٤) هجرة الآراميين: بعد سنة ١٥٠٠ قبل المسيح وانتشر الأراميون في وادي الفرات وسوريا فأصبحت لغاتهم لغة التجارة؛ إذ كان بيدهم طريق التجارة المار بحلب ومن الشعوب السامية التي لم تنزح من بلاد العرب القبائل الصائبية والحميرية والعرب الذين كانوا يتكلمون العربية الحديثة. وكانت هذه اللغة قد نشأت بتمادي الزمن نشوءًا بطيئًا جدًّا. أما سبب عدم هجرة هذه الشعوب فهو لأن غربي بلاد العرب كان أكثر خصبًا من شرقيها، وقد كان طريقًا للتجارة بين الهند والبحر المتوسط يمر باليمن والحجاز وينتهي إلى غزة وهذا يأتي بنا إلى: (٥) ظهور الإسلام. وليس هذا أول مرة ظهرت فيها القبائل المتكلمة باللغة العربية لتستوطن البلاد المجاورة فإن بعضها سبق فاستوطن غسان والحيرة والعراق ومهَّد الطريق للعرب الذين كانوا في أيام محمد -صلى الله عليه وسلم- فعودوها المهاجرة والاستيطان، وكانت بلاد العرب قد ضاقت مرة أخرى بأهلها الساميين الذين اشتهروا بالقوة والبأس والذكاء وكثرة النمو. ومما يدل على ضيق الوسائل الاقتصادية في تلك البلاد بأهلها فقرهم المدقع وعوزهم وعادة وأد البنات عندهم. أما قواهم المتزايدة فكانوا ينفقونها في محاربة بعضهم بعضًا وفي شن الغارات والغزوات إلى أن بدت طلائع تلك النهضة الدينية فجمعت بين القبائل المتخاصمة وجعلتهم يوحدون قواهم ويوجهونها إلى الخارج. وهكذا فتحت أبواب العربية وخرج العرب ليغزوا البلدان في سبيل الله وسبيل الجامعة العربية. وقد كان بين أولئك العرب رجال ذوو صفات ومآرب مختلفة، فمنهم الشديد القوي كعمر، والقائد المحنك كخالد، ومنهم المجازف، ومنهم المسوق إلى الحرب بطمع الأسلاب [٣] . على أن عامل الدين هو الذي فتح لهم السبيل ومهده ومنحهم قوة ولكن كان للعوامل الاقتصادية التي أشرنا إليها والتي كانت تؤثر في بلاد العرب منذ أقدم الأزمنة شأن يذكر وكان الجانب الأكبر من جيش محمد -صلى الله عليه وسلم- رجالاً قد دانوا حديثًا بالإسلام فكانوا يقبلون عليه أو يرتدون عنه بسرعة عظيمة؛ لأن معرفتهم كانت ناقصة، ولا شك أن أمثال أولئك ما كانوا ليتمسكوا بعروة الإسلام لولا ما رأوه من الانتصارات التي يؤتاها جيش المسلمين، ولولا انقلابهم من ضيق العيش إلى سعته [٤] . وكان في جيش الميدان الغربي مئات من المكيين الذين أيدوا الأمويين فيما بعد ولا يزال المسلمون يقولون حتى اليوم: إنهم لم يكونوا على شيء من الإسلام وأمثال أولئك كانوا يعتبرون أنفسهم في بيئة هي عربية أكثر منها إسلامية. أما حروب الإسلام التي أفضت إلى مزج العرب بأهالي البلاد التي افتتحوها من بخارى شرقًا إلى أسبانيا غربًا فقد كانت عبارة عن مهاجرة هي آخر المهاجرات السامية من شبه الجزيرة بلاد العرب ولم تحدث مهاجرة بعد ذلك أو بمقدار صغير جدًّا لا نزال نشاهد آثاره حتى اليوم وهو ناتج عن نفس الأسباب التي أفضت إلى المهاجرات السابقة أي إمحال بلاد العرب. أما النتيجة فهي ظهور القوة الكامنة في الأمة العربية ظهورًا بيِّنًا واتخاذها مجرى جديدًا وبيئة مثمرة. وقد ذكر الأستاذ هركرونجه أن عرب حضرموت الذين هم أفقر سكان تلك البلاد فكوا القيود التي كانت تربطهم ببلادهم وهاجروا إلى الهند وجزائر الهند الشرقية حيث أظهروا همة عالية ونشاطًا غريبًا. فقد أصبحوا خبيرين بأمور التجارة مع أنهم كانوا يجهلونها في موطنهم الأصلي ولا تزال الأعمال والأشغال تنتقل إلى قبضة يدهم حتى لقد أصبح بعضهم من كبار الأغنياء , ولا ينحصر تفوقهم في الأعمال والمتاجر فقط بل في الأمور العقلية أيضًا. وهذه صورة مصغرة للعرب الذين نزلوا بسوريا وبلاد فارس في المائة الأولى للهجرة. وهي تنطبق على حالة العرب عمومًا منذ ألوف من السنين حتى اليوم، وقد أظهر دولة شريف مكة بنهضته الأخيرة أن العرب لا يزالون يأبون الضيم ويعشقون الحرية والاستقلال، وهم يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الدفاع عن كيانهم. ترى هل نحن على وشك أن نرى من جانب بلاد العرب مباغتات جديدة مدهشة كما رأى العالم منذ مئات من السنين؟