للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السيد عبد الحميد الزهراوي

كان الشهيد السعيد نابغة من نوابغ السوريين، لا يكاد يلزّ به في مجموعة
مزاياه قرين، ما عرفت بلاده كنهه، ولا قدَّرته قدره على أنها لم تقصر في تعظيمه
وتكريمه، وفي الاحتفال له والحفاوة به أيام سفره وأيام قدومه، إذ عرف الجمهور
منه في أواخر سِنِي حياته كما كان يعرف الآحاد.
إنه أحد أشراف البلاد المنصرفين لخدمة الأمة بكفاءة، واستعداد من معرفة
المصلحة وفصاحة اللسان، والحجة وجرأة الجنان، وما كان لعقل الجمهور أن يدرك
كُنه المزايا والفضائل التي بها كان الزهراوي في حقيقة جوهره من الحكماء
الربانيين، والفلاسفة الاجتماعيين؛ وإن قضت عليه الأيام بالانتظام في سلك
السياسيين، تلك الفضائل التي عرفها له كل من عرفه من العقلاء المنصفين؛ وهي
استقلال الرأي وصدق القول وقوة الإرادة والإخلاص في العمل وإيثار الحق على
الهوى، وتوجيه الهمم والهمة إلى المصالح العامة، وترجيحها عند التعارض على
المنافع الخاصة، بل لم نعلم عنه أنه اشتغل في طور من أطوار حياته لمنافعه
الخاصة، وإنما نعلم عنه أنه بدأ حياته العملية منذ بلوغ الرشد بإنشاء (جريدة
المنير) السرية التي كان يطبعها في حمص بمطبعة الجلاتين، ويوزعها في البلاد
السورية سرًّا لخدمة جمعية الاتحاد والترقي الأولى والسعي معها لإنقاذ الدولة من
الإدارة الحميدية المستبدة، فتعلق بالسياسة من ذلك الحين، وظل مشتغلاً بها طول
حياته.
كان بيننا وبين هذا الصديق العزيز تشابه في النشأة والتربية، ومشاكلة في
الاستعداد والغريزة، وتقارب الفكر والرأي، تعارفنا به بالمكاتبة قبل اللقاء ثم كان
بعد اللقاء كالمحبة والوِداد، ولم يزدد بالمُعاشرة إلا ثباتًا ورسوخًا، كان كل منا ميالاً
إلى الاشتغال بالصلاح الديني والاجتماعي، وعلاقة ذلك بالسياسة لا تخفى، ولكن
تيسر لكل منا من أمر الاشتغال بالسياسة أو الإصلاح ما لم يتيسر للآخر، إذ كانت
هجرتنا إلى مصر وهجرته إلى الأستانة.
وفي سنة ١٣١٥ التي أنشأنا فيها المنار كان محررًا في إدارة جريدة
(معلومات) العربية في الأستانة؛ وكان ما يكتبه فيها موافقا لمشرب المنار، ووقع
بيننا ما يشبه المناقشة في المسائل الإصلاحية (راجع ص ٩٥٠ من الطبعة الثانية
لمجلد المنار الأول) ثم نفته أفكاره من الأستانة إلى وطنه، وفي سنة ١٣١٩ كتب،
وهو في دمشق الشام تحت المراقبة السياسية رسائله الاصلاحيه الثلاث (الفقه
والتصوف) التي نشرنا أولها في المجلد الرابع من المنار، ثم قرظنا فيه المجموع
لما طبع على حدته في مصر، وقد كانت هذه الرسائل أشد مما كنا نكتبه في
موضوعها نقدا على سعة الحرية هنا، وشدة الضغط هنالك، فهاجت عليه حَمَلة
العمائم في دمشق، وأشد ما أنكروا عليه فيها القول بالاجتهاد وبطلان التقليد،
فهيجوا عليه الحكومة فاعتقلته في الشام، ثم أُرسل إلى الأستانة.
ولم يكن سبب ذلك التشديد عليه، والإغضاء عمن اتهموا بالقول بالاجتهاد
وإبطال التقليد معه غيرة من الحكومة على الفقهاء والصوفية أن يوجَّه إليهما انتقاد،
ولا مجرد الإرضاء لمصبية الحشوية الجامدين في الشام، وإنما سببه الباطن أنه
كان نشر في المقطم مقالة في الخلافة بإمضاء (ع. ز) وهو إمضاؤه الرمزي لكل
ما كان ينشره بمصر، وقد وُجِدَتْ تلك المقالة معه عند القبض عليه، وحاول
تمزيقها. وقد أشار الأستاذ الإمام إلى هذه الواقعة في فصل (الإسلام اليوم) من
كتاب (الإسلام والنصرانية) وإننا نذكر عبارته هنا لما فيها من تأييد هذا الصديق
الشهيد وهي:
ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية، كتب مقالاً في
الاجتهاد والتقليد، وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافه، ومقالاً بيَّن فيه
رأيه في مذهب الصوفية، وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام، بل قد يكون مما
رُزِئَ به، أو ما يقرب من هذا، وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما
طبع مقاله في مصر تحت اسمه، هاج عليه حَمَلة العمائم وسَكَنة الأثواب والعباعب
وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين ثم رفع أمره إلى الوالي،
فقبض عليه، فألقاه في السجن، فرفع شكواه إلى عاصمة الملك، وسأل السلطان أن
يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلق عليه بين يدي عادل لا يجور،
ومهيمن على الحق لا يحيف إلى آخر ما يقال في الشكوى، فأجيب طلبه لكن لم
ينفعه ذلك كله، فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه، ولم يُعف عنه إلا بعد شهر،
مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع أصول الدين، ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل
والشارب) اهـ. أرسل الرجل إلى الأستانة، فاعتقلته السلطة الحميدية هناك أشهرًا،
بعد جعله تحت مراقبة الجواسيس زمنًا، ثم أرسل إلى بلده (حمص) ليكون مقيمًا
فيها تحت المراقبة لا يبرحها (ويسمى مثله في عرف الدولة الرسمي (مأمور إقامة)
فبقي فيها إلى أن فر إلى مصر سنة ١٣٢٤ وبقي فيها يشتغل بالتحرير في
(المؤيد) ثم في الجريدة إلى أن أُعلن الدستور سنة ١٣٢٧ فعاد إلى سورية
فانتخب مبعوثا عن لواء حماه وكان من أمره في المجلس وبعده ما كان.
لو كان الزهراوي من طلاب المنافع الشخصية لأمكنه أن ينال منها في عهد
عبد الحميد ما نال من كانوا دونه من أرباب الأفكار، وحملة الأقلام الذين استمالهم
السلطان عبد الحميد وأعوانه وغمروهم بالأموال والرتب وأوسمة الشرف، ولم يكن
جهاده القانوني للاستبداد الذي انقلبت إليه جمعية الاتحاد والترقي بعد الدستور
بأضعف من جهاده للاستبداد الحميدي مع الجمعية في إبان صلاحها، ومع غير
الجمعية أيضا نصرها في الأيام الأولى من عهد الدستور كما نصرها قبله، وجاهدها
بعد أن صار أمر الدولة كله في يدها.
ولو كان من طلاب المنافع الشخصية لنال بمسايرة الجمعية منها ما كان يعلم
أنه لا ينال بمعارضتها، وما كنت أرى - وأنا في الآستانة - أحدًا من المعارضين
للجمعية يرى قوتها فوق ما كانت عليه إلا الزهراوي، كان من أشدهم معارضة
لحزب الجمعية في المجلس، وفي جريدة الحضارة التي أسسها في الأستانة، على
كونه من أشدهم اقتناعًا بقوة الخصم وبُعدًا عن الغرور بما كان يروى عن ضعفه،
فجمله القول فيه: أنه بدأ حياته بخدمة الأمة والدولة، وثبت على ذلك طول
حياته، وأن جل عمله كان مع جمعية الاتحاد والترقي؛ فهو بعد تلك المعارضة في
زمن المبعوثية، اعتقد أن الدولة صارت بعد الجمعية؛ وأنه لا يوجد في الأمة
حزب يُرجى أن ينتزعها منها، فلم يَبق من طريق لخدمة الدولة والأمة إلا طريقها،
وهذا الاعتقاد هو الذي حمله على قبول منصب الأعيان أخيرًا، كما سنبينه
بالبرهان، وكان جزاؤه من الجمعية التي أفنى حياته في خدمتها أن قتلته شر قتلة،
وأبقت جثته مصلوبة في الشام ١٢ ساعة ليعلم كل عربي يراها، أو يسمع خبرها
كيف تكون عاقبة العربي العالم المفكر والخطيب المؤثر والكاتب المحرر عند هؤلاء
القوم، الذين جعلوا من أصول سياستهم محو العربية من سورية والعراق، وحتم
البداوة على عرب الجزيرة وإيقاع الشقاق الدائم بينهم إلى أن يبيد بعضهم بعضًا؟
كان قبول السيد الزهراوي لمنصب الأعيان من الحكومة الاتحادية مثيرًا
لاستياء جمهور طلاب الإصلاح ومحبي الإصلاح للأمة العربية العثمانية وسببًا
لسوء الظن فيه، وكثر القول بأنه تحول عن سيرته التي كان عليها طول عمره،
فآثر منفعته الشخصية على مصلحة أمته العربية، فتحول ذلك الجمهور الذي كان
ينوه به ويصفق له إلى الخوض فيه، ولو كان عقل الجمهور يدرك كثيرًا تلك
الفضائل التي وصفناه بها بحق، لما صدق أن مثله يتحول بعد سن الخمسين من
عمره إلى ضد ما ثبت عليه من أول نشأته، وما الذنب على العامة في ذلك، وإنما
الذنب ذنب خواص الأذكياء والمتعلمين الذين سارعوا إلى الخوص فيه فتبعتهم
العامة، وكان يجب عليهم التروي والتثبت في أمر هذا الحدث الجديد.
ألهذا العامل المستقل عذر فيه واجتهاد أم لا؟ ثم التثبت والتروي في الطعن
بمثل هذا الرجل منهم، إن ثبت لهم أنه مجرم سياسي متعمد، لا مجتهد مصيب أو
مخطئ، فإن أول نتائج الطعن في مثله- وقل أن يوجد مثله في طهارة سيرته
الشخصية والسياسية- هي زوال ثقة الأمة من زعمائها بقياس أنزه الصادقين على
أخس المنافقين، وما أولئك الطاعنون إلا حاسد يذم من الزهراوي ما يتمنى مثله
لنفسه، أو نفعي ساء ظنه لسوء نيته وفعله، أو غيور شديد العصبية، قليل الروية،
يبادر إلى إرضاء حميته، ولا يحسب حسابًا لعاقبة قوله وعمله.
لم يكن الزهراوي من أهل الأهواء، الذين يجعلون مصلحة الأمة والدولة تبعًا
للأغراض، وعرضة للعواطف والأحقاد، بل كان يحب العمل المبني على القواعد
المعقولة والرغائب المأمولة، فلما رأى أن الاتحاديين يحاولون إصابة أغراضهم
الضارة بالأمة العربية وبوحدة عناصر الدولة، بقوة مجلس المبعوثين، أحب أن
يحاربهم بسلاحهم، فكان من المؤسسين للحزب المعتدل ثم لحزب الحرية والائتلاف
الذي تكون من هذا الحزب الذي أكثر أفراده من العرب، ومن حزب الأهالي الذي
أكثر أفراده من الترك، وكان الزهراوي وكيل الرئيس في هذا الحزب، وقد ظفر
هذا الحزب بالاتحاديين، فجذب إليه الجم الغفير من مفكريهم وضباطهم، ثم أسقط
وزارتهم، واستبدل بها وزارة مختار باشا التي لم تكن هي ولا وزارة كامل باشا
التي جاءت بعدها ائتلافية ولا اتحادية، وإنما كانتا على كراهتهما لسيرة الاتحاديين
غير معتصمتين بعروة الائتلافيين، ولا موافقتين لهم في كل شيء، ولذلك سهل
على الاتحاديين إسقاط وزارة كامل باشا، وقد أخطأ الائتلافيون بعدم جعل الوزارة
من حزبهم.
وقعت حرب البلقان في أيام وزارة مختار باشا، فانكسرت الدولة فيها، وألفت
وزارة كامل باشا لتتدارك أمر الدولة بالصلح، وفي أثناء ذلك جاء الزهراوي مصر
قاصدًا الذهاب إلى الأستانة لقرب موعد فتح مجلس المبعوثين وقد أقنعناه بأن لا
يتعجل السفر، لما يُخشى من وقوع الفتن بالأستانة، وقد وقع ما كنا نتوقعه بهجوم
الاتحاديين على الباب العالي، وقتلهم ناظر الحربية فيه وإسقاطهم وزارة كامل باشا،
والقبض على أزِمَّة الحكومة، ولكن صاحبنا كان يصر على السفر، يظن ظنًا كاد
أو كان يسميه يقينًا بأن الاتحاديين لا يثبتون أسبوعًا حتى تسقطهم الأمة، وتستبدل
بهم غيرهم فأقنعناه بأن يصبر حتى تصدق الأيام ظنه أو تكذبه، وما اقتنع منا إلا
بإدلال الصداقة، على أنه كان يرجع عن رأيه إلى رأي صديقه، هذا كما نص على
ذلك في كتابه الآتي وإنما صرحت بهذا؛ لأنه من مقدمات الحجة التي أذكرها بعد
نشر ذلك الكتاب.
وفي أثناء حرب البلقان تأسس حزب اللامركزية بمصر، ولم يدخل هو في
الحزب؛ لأنه لم يكن ينوي الإقامة بمصر، وإنما رشحه الحزب لرياسة المؤتمر
العربي، لمكانته العلمية والاجتماعية، وموافقته للحزب في مقاصده الإصلاحية،
فانتخب رئيسًا في باريس، وعقد معه الاتحاديون ذلك الاتفاق المشهور.
كان في مدة إقامته في باريس أيام المؤتمر، وبعدها يكاتب حزب اللامركزية
ويعمل برأيه، ولم يسافر إلى الأستانة إلا بعد إذنه، فقد استشار الحزب فخيره بين
مصر والأستانة، وكان هو يرجح الثانية، والحزب يرجح الأولى، وكان يكتب من
الأستانة إلى رئيس الحزب كل ما يدور هناك في مسألة إعطاء العرب حقوقهم من
الإصلاح والوظائف، ويكتب إلى صديقه (كاتب هذا) مثل ذلك، وما وراء ذلك
مما كان يكتمه عن البعض، أو عن كل أحد، كما يعلم من كتابه المطول الآتي.
كان من فضائل الزهراوي الشخصية التي تُعد عيوبًا في السياسيين أنه لحُسن
نيته وصفاء سريرته، يبالغ في حسن الظن بكل أحد يُظهر له إرادة الخير والحق،
فلما قال الاتحاديون: إنهم يعترفون بما كان من خطئهم في تنفير العرب منهم، وفي
محاولتهم تتريك جميع العناصر العثمانية، وأنهم يرغبون في إصلاح ما أفسدوا في
ذلك؛ لتوقف تجديد قوة الدولة عليه- صدقهم في ذلك؛ لأنه معقول عنده، وعد
توجيههم منصب الأعيان إليه على ما كان من شدة معارضته لهم برهانًا على صدقهم،
وصار يرى أنه ينبغي لطلاب الإصلاح المخلصين أن يمدوا أيديهم إليهم،
ويساعدوهم على الإصلاح وأنهم إذا أحجموا حل محلهم المنافقون وطلاب المنافع،
وكان متفقًا مع صاحبه عبد الكريم الخليل على ذهاب المنار ورفيق بك العظم إلى
الأستانة لهذا الغرض.
أما أنا فكان يغلب على ظني أن جعله من الأعيان أحبولة يريدون بها اصطياد
المخلصين من طلاب الإصلاح في خارج المملكة؛ ليفتكوا بهم بعد جلبهم إليهم جملة
واحدة، وإن وجوده وحده هنالك واقٍ له، وفيه فوائد منها أنه تجربة للاتحاديين،
وحجة عليهم.
قبل منصب الأعيان بتلك النية الصالحة من غير مشاورة للحزب، ولا لأحد
من أصدقائه، وإنما أخبرنا بما كان ونيته فيه، فلُمْناه على تعجله، ولكن الحزب
أجاز عمله، واتفق الرأي على أن يمضي في هذه التجربة، وأن لا ينضم إليه أحد
من المقيمين خارج المملكة، وكان أول ما كتبه إلي في ذلك قوله من كتاب مؤرخ
في ٦ صفر سنة ١٣٢٢ (٦ يناير سنة ١٩١٤) ما نصه:
(أخوكم عُيِّن - بعون الله وعنايته - عضوًا لمجلس الأعيان فبشروني بأنكم
راضون عن قبولي بها، والله يشهد إنني إنما قبلت؛ لإتمام العمل، وتعلمون قلة
الرجال عندنا يا أخي، يعترض بعض المعجلين، فالأمر في هذا متروك لحكمتكم
وهمتكم. بل أرى أن تقديم شكر للصدارة يكون مؤيدًا لإتمام العمل، ومَنَّ الله
سبحانه التوفيق) .
وقد كتب إلى الحزب بنحو هذا، فأجيب طلبه؛ لأن غرض الحزب الإصلاح لا
المشاغبة ولا عداوة الدولة، ولكن لم يكن يحسن الظن بالاتحاديين أحد، وقد دار
بيننا وبين هذا الصديق في هذه المسألة، وما يتعلق بها مكاتبات ومعاتبات لم تخل
من عدة مغاضبات، وإنني أنشر الآن منها كتابًا مطولاً، كتبه في ١٦ صفر سنة
١٣٣٢ وكتب في أعلاه (مكتوم كله عن كل أحد) وهذا نصه بعد العنوان:
***
كتاب سري من السيد الزهراوي
سيدي الأخ الرشيد الولي الحميم الحميد:
تحية من الله ومن أخيك، ولا برحت المكرمات تحييك، لقد عظم شوقي أيها
الأخ، ومضت الأيام، وأنا أمني النفس بقرب التلاقي، ومازلت راجيًا ذلك.
يظهر يا عزيزي أن عتبك على تأخري هنا عظيم، عرفت هذا من كتابك إلى
الأخ الأستاذ.. . ويظهر أن قطعك الكتاب عني عمد، استنبطت هذا من طول مدة
القطع، وقد حملت هذا على كثرة عملك التي أعرفها، ثم تذكرت ما أعهد من وفرة
نشاطك - والحمد لله -، وأن كثرة عملك من تلك الوفرة من النشاط لا تقف في
سبيل ما تعزم عليه، فاستنتجت من هذا القياس- سامحني الله على رأي ابن حزم -
أنك تعمدت عدم العزم في الكتابة أو عزمت على عدم الكتابة.
وقد ظهرت هنا شائعة أن اللامركزيين في مصر مشمئزون من بقائي هنا،
وأنهم قطعوا علاقتهم بي ومكاتبتهم لي، أنا لم أصدق هذه الشائعة، وإنما خشيت أن
يكون بعض العجولين هناك يصرح ثمة مثل هذه التصريحات وكدت أخشى أن
يكون.. . مثلاً قد شاهد شيئًا من تأففكم لتأخري فبنى على مشاهدته كلامًا كتبه إلى
بعض معارفه هنا، فشطّر ههنا وخمّس.
هذه كلها ظنون، وأستغفر الله - تعالى - منها، وأرجوكم مسامحتي عليها،
ومن الشرح يظهر لكم سر تقديمها بين يدي هذه التفاصيل المهمة التي جاء أوانها:
كنت قد فصلت لكم؛ إذ جئت باريس كيف وجدت أمر مؤسسي فكرة المؤتمر
فوضى؟ وكيف تعبنا في ستر الأمر وإيجاد المؤتمر مرونقًا - وبتوفيق من الله
تعالى - فوق المأمول؟ وبعد انقضاء المؤتمر تفرق الجمع الذي لفق تلفيقًا، ثم بعد
قليل نفد صبر البيروتيين فذهبوا إلى بلادهم عن طريق إستنبول، وبقيت - يا
عزيزي - وحدي أمثل الفكرة، وبقي خليل زينية وأيوب ثابت وهما لم يرشفا من
مشرب الجامعة العربية ولا قطرة واحدة، حتى ولا من الجامعة السورية، وإنما
همهما بيروت وحدها لا شريك لها، ولكن لأنهما متعلمان سايراني وسايرتهما،
وتوادينا جيدًا حتى سفري، ولم يكن مثل هذا التواد، ولا رُبعه بينهما وبين رفقتهم
البيروتيين المسلمين.
لو عجلت تلك الأيام، ورجعت على الفور إلى مصر لبقيت المسألة مقطوعة
بَتْراء، إذًا يكثر استهزاء الأفراد والجماعات والأقوام بأشخاصنا وبجماعتنا وقومنا،
لكن الله - سبحانه - سلم من هذا، وأقدرني على الصبر هناك ممثلاً للفكرة مدة
خمسة أشهر- وما هي بالقليلة ولا الكثيرة - ونِعمت المدة كانت، وقفت فيها على
كثير، وعظم فيها اختباري لأوروبا، وما أحوجنا إلى مثل هذا الاختبار، جئت بعد
ذلك إلى إستنبول؛ لأرى ما جدَّ فيها لأن المعرفة بالقديم لا تغني، والمعرفة عن بُعد
كثير من مآخذها غير صحيح، وما أضر العلم المبني على مأخذ غير صحيح.
بعد وصولي بقليل عرفت كثيرًا من الأحوال الحاضرة هنا، وبعد مدة أخرى
عرفت أكثر، وكدت أظنني اكتفيت، وأحطت كل الإحاطة، ولكن الآن تبين لي أنه
لولا الصبر والتأني اللذان مكنني الفاطر - سبحانه - منهما لرجعت بمعرفة غير
كافية؛ ولذلك أصبحت لا أجسر أن أقول: تمت إحاطتي وإنما أقول: أصبحت
يجوز لي أن أفصل، وأشرح بشيء من الطمأنينة، وإن تأخير هذا التفصيل
والشرح كان أنفع، وجاء اليوم في وقته.
الشرح ههنا يتعلق بثلاثة مواضيع (أو موضوعات) :
(١) أوربا والعثمانية.
(٢) الاتحاديون وغيرهم.
(٣) رجال الإصلاح الحقيقي وأبناء العرب هنا، وفي الجهات الأخرى.
وإني أبدأ لكم بالأول لقِصر البحث فيه، وأشفع بالثاني، وأخرت الثالث لطوله
وطوَّلته لتوقف التفاهم وكثير من أعمالنا على الإحاطة بهذه الحقائق المشروحة فيه.
(أوربا والعثمانية) لقد كشفت أوروبا آخر ستار من ستر السياسة في
المسألة العثمانية، وقررت التداخل في سائر شئونها، وإنما لا يزالون مختلفين
بعض الاختلاف في كيفية هذا التداخل وكميته وصورة توزيعه فيما بينهم، وليس
في أوروبا اليوم موضوع مقدم على هذا الموضوع، ولا يمضي ثلاثة أشهر حتى
تتمخض الليالي، فتلد ذلك الشكل الجديد الذي يتفقون عليه، والذي أظنه أن الدولة
ستبقى بعد ذلك، وتعيش أحسن مما كانت عائشةً؛ لأن بعض التداخل طب، ولست
مغاليًا إذا ذهبت إلى أن الموت أقرب إليها مع عدم التداخل ألبتةَ منه مع شيء من
ذلك، فإنا إذا قلنا بعدم التداخل ألبتة؛ فحينئذ تخلق كل واحدة سببًا لنشوب الحرب
عليها، فتؤخذ بداء السكتة دفعةً واحدةً.
الاتحاديون وغيرهم: الاتحاديون معروفون، فمن غيرهم لا يوجد الآن حزب
سياسي آخر إلا أن يكون خفيًّا، ولم أشم شيئًا من هذا، وحينئذ لا نجد مقابل
الاتحاديين إلا جماعات الأجناس، كجماعات الروم وجماعات الأرمن وجماعات
العرب.
نعرف أن للروم جماعات وللأرمن جماعات، فهل للعرب مثل هذا؟ هلم
ننظر:
أولاً: الروم كلهم جماعة واحدة، يرأسهم البطرك، ولكيلا يستبد ربطوه
بمجلسين روحاني وجسماني، وهكذا الأرمن، أما العرب فليس لهم مثل ذلك.
ثانيًا: الروم والأرمن لهم جمعيات سياسية منظمة مرتبة غنية، وليس للعرب
مثل ذلك، اللهم إلا جماعتنا في مصر وجماعتنا في بيروت؛ إذن غير الاتحاديين
هم الروم والأرمن، وجماعتنا في مصر وجماعتنا في بيروت.
فالاتحاديون هم أولياء الأمر مباشرة، وهم اليوم يتسلحون بعزائم شديدة
ماضية، وناوون نيةً قاطعة أن يجددوا شباب الدولة بقدر ما تسمح الظروف،
ويشتهون أن يخلص إليهم العرب ويساعدهم فضلاؤهم في هذا السبيل، ويعترفون
بخطيئاتهم الماضية، وينوون أن لا يعودوا إلى مثلها بقدر الإمكان أنا مؤمن بنيتهم
وأقوالهم هذه كل الإيمان، لأدلة كثيرة ظهرت لي، ولكنني مرتاب من جهة قابليتهم
لتطبيق العمل على النية، وعلى كل حال أرى أن عدم تركهم وحدهم خير من
تركهم، ويرجى به أن تقوى قابليتهم، فإن شئتم أن تخطئوني بتحسين الظن إلى
هذه الدرجة- كما أشرتم إلى ذلك في كتاب. فإني لا أخطئكم بالتخطئة؛ لأني أُجِلُّ
رأيكم أكثر من رأيي، وإنما أرجو أن يكون في خطئي شيء من البركة، أرجو ذلك
من مصداق قوله سبحانه: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: ١٩) هذا وصف الاتحاديين بما هم عليه اليوم.
أما الروم فقد قلوا في المملكة، وقصاراهم أن يحافظوا على ما بيدهم من
امتيازات البطركية وحق المبعوثية، وسيقل الالتفات إليهم، وأما الأرمن فهم اليوم
آلة بيد روسية وسيتم لهم في المبعوثية حظ قريب مما يأملون، وأما نحن معشرَ
العرب، فإن أخاكم الآن يعتبر ممثل جماعتنا، وقد فصلت ما تم على يدي في
الكتاب الذي أرسلته إلى الأخ الرفيق في البريد الماضي، وههنا سأزيد.
(٣) رجال الإصلاح الحقيقي وأبناء العرب هنا وفي الجهات
الأخرى:
ما أظنكم- أستغفر الله - ما أعتقد أنكم في حاجة إلى بيان أن رجال الإصلاح
الحقيقيين غير كثيرين، وما أعتقد أنكم تعرفون منهم أكثر من ثلاثة أو أربعة،
أعني برجال الإصلاح الحقيقيين، من جمعوا في موضع الإصلاح بين صدق النظر
وصدق العمل، مَن كثرت تجاربهم، ومرنت رويتهم وصحت عزيمتهم، وشهد
ماضيهم، مَن كثر اختلاطهم بمختلف الطبقات، ووقوفهم على متباين النزعات،
وصبرهم على متنوع العقبات، من امتزجت روحهم بحب النظام الذي يحبه الله،
وكره الفساد الذي يكرهه الله، وامتزجت سيرتهم بأخبار مَعَامِع الجهاد الإصلاحي،
من أُشربت أفكارهم فهم معنى الرابطة، وأفئدتهم محبتها وتعشقها.
فنحن لقلة هؤلاء واقعون أمام حاجتين عظيمتين (الحاجة إلى تكثيرهم،
والحاجة إلى اشتغال هؤلاء مع من ليس من جنسهم وطبيعتهم) . ثم نحن مع قلتهم
وصعوبة اشتغالهم مع غيرهم أمام مشكلين عظيمين، الأول السُّبات الذي الأمة فيه،
والثاني الجشع الذي أوروبا فيه.
أترك تفصيل هذا الإجمال لحكمتكم، وحسبُنا هي في كل موضوع، وآخذ
الآن بحكاية حال أبناء العرب هنا، لأنكم علقتم الأمل مرارًا على صنف منهم ههنا.
العرب هنا ثلاثة أصناف: متاجرون ومتعلمون ومأمورون، فالصنف الأول
لا في العير ولا في النفير من جهة السياسة والإصلاح، ثم هو في غاية القلة،
والصنف الثاني أولاد في ناشئة العمر لا يليقون للسياسة ولا تليق لهم، والصنف
الثالث أربعة أقسام: الضباط والمأمورون المنصوبون في بعض الوظائف
والمأمورون المتقاعدون المقيمون هنا والمأمورون المعزولون الذين جاءوا لينصبوا.
فأما الضباط فلا تجربة لهم في هذه المسالك ألبتة والأَوْلى عدم دخولهم فيها،
فإن هذه التجربة القليلة التي سأقصها الآن زهدتني في كل سياسة يشترك فيها
الضباط منا: ذلك أن.. . ناقم اليوم على الحكومة، فيشتهي لأجل هذا زعزعة
الدولة ونسفها نسفًا، وهو لأجل ذلك ناقم على ائتلافنا مع الحكومة ومضاد له؛ لأنه
على زعمه يؤخر حركات العرب، ولا أدري ما هي حركات العرب، وأين تسير
وأين ترسي، وهذا يجتهد أن يجمع حوله بعض أولئك الأولاد وينفرهم منا، ومن
صنيعنا، ولكن لا ينجح بحوله - تعالى -، ومن جهة أخرى هو يحافظ على ظاهر
الصداقة بيننا، وقد أردت اختباره فوجدته يجنح إلى مصالحة أولياء الأمور،
وحينئذ يرضى عن كل شيء، فانظر يا عزيزي إلى الذين يعدون أنفسهم في
مصاف رجالنا.
أما المأمورون المتقاعدون، فمثلهم كمثل العجائز لا يرضيهن شيء ولا
يستطعن عمل شيء، وأما المأمورون المنصوبون فلا هَمَّ لهم إلا حفظ المنصب.
وأما طلاب المأموريات فَجِيَاع مساكين لا يفهمون من الإصلاح إلا المأمورية،
إن جاءت فقد جاء الإصلاح، وإن لم تجئ فقد منع الإصلاح، ومن هذا التفصيل
يظهر لك أن العاصمة في حالتها الحاضرة ليس فيها أبناء عرب تستطيع جماعتنا أن
تعتمد على أحد منهم، أو أن تعمل صلة أو رابطة مع أحد منهم، اللهم إلا أن يكون
(فلان وفلان) وكل ما أخبركم عنه (فلان) فهو سراب بِقِيعة جاءه أخوكم الظمآن
فلم يجده شيئًا. وبعض أولئك الأولاد يحسدون الشاب عبد الكريم، وبعضهم لم
يتمكن من إنالتهم أربًا لأبيهم أو أخيهم أو ابن عمهم مثلاً، فمِن هنا أكثروا عليه من
قيل وقال، وكله هُراء وهواء.
وأما العرب في الجهات الأخرى، فهم أهل سورية وأهل العراق وأهل
الجزيرة الخُلَّص، فالسوريون والعراقيون حَضَر قد ألفوا الذل وتعودوا الاستخذاء
والاستكانة لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا، لا يساعدون ولا ينوون أن يساعدوا،
لا يهبون ولا يَرُوق لهم أن يُوقَظوا. وأما أهل الجزيرة الخُلَّص، فهم الأهل -
وفاهم الله الخير وشد سواعدهم - أولئك يجب وصل الرابطة بهم من غير أن نقطعها
من الحضر على قلة غنائهم. وقد فهمت من كتاب الأخ (فلان) كثيرًا واستنبطت
كثيرًا.
ولو كان في وسع البشر أن تتوزع أرواحهم على أمكنة متعددة لكانت روحي
أوزاعًا على اليمن وعسير والحجاز ونجد وحضرموت، ولكن نظرية الصوفية
في هذا الباب لا يمكن تطبيقها [١] . انظر يا عزيزي، أنا لازم لهناك كما تشير،
ولازم إلى هنا، فإن هنا محل عمل ليس بقليل، فإني أرجو أن يكثر بوجودي هنا
عدد رجالنا الذين يعتمد عليهم، فإن رضيت عن هذا الرأي فعليك عملان مُعَجَّلان
وعمل يمشي مع الزمان، وأنا معك فيه على بعد المقر، فالأول من المُعَجَّلين
تبشيري بتلغراف عن رضائك خاصة وهو الأهم، ورضاء الرفاق عامة وهو مهم،
والثاني منهما حملك الرفاق على تقديم تلغراف للصدارة، يحبذون فيه هذا التعيين
ويجعلونه دليل إقدامهم على تنفيذ الرغائب كلها بعبارة رقيقة تشويقية، أما الثالث،
فهو ما بيننا من أمر إيجاد الرجال الذين يعتمد عليهم وتوزيعهم بقدر ما يساعد
الزمان والمكان لبث الإصلاح العلمي والعملي.
وإن لم ترض عن هذا الرأي فاكتب إليّ مفصلاً ومبينًا كل جهة من جهات
الموضوع، وأنا من عهدت مَنْ يَدَعُ رأيه أخيرًا إلى رأي وليه.. هذه هي
الخلاصة المفصلة، وإليك خلاصة الخلاصة، وهي أن اليأس لا يجوز بحال من
الأحوال، ولكن الأمة في كل أطرافها ليست بحالة يُعتمد عليه في شيء، وأنه مع
هذا لا يجوز إهمالها، وكذا لا يجوز إهمال من بيدهم أمر المملكة وتركهم وحدهم،
وأنه لا بد لنا من رجال ههنا، وأن أكثر ما يتصرف به الرواة من الأخبار غير
صحيح، وإني منتظر أمركم بسرعة، وإن شوقي عظيم.
والسلام على الأخ السيد صالح وجميع المعارف، سلم الله - تعالى - الجميع.
عبد الحميد الزهراوي
(المنار)
من هذا الكتاب وكتب أخرى بمعناه يعلم رأي الرجل الذي يبني عليه اجتهاده
ومنه أنه مؤمن بحسن نية الاتحاديين، وتمنيهم الاتفاق مع العرب، وبهذا كان
يحاول إقناعنا، ولم يكن يخفي هذا على الاتحاديين؛ ولذلك نجزم بأنهم قتلوه، لأنه
من أنجب نجباء العرب لا لذنب آخر {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: ٤) .
وإنما نشرت هذا الكتاب السري من كتبه بنصه، فلم أحذف منه إلا أسماء
الأحياء ليكون حجة على فريقين من الناس- فريق الذين قد يظنون أن الاتحاديين ما
قتلوا مثل هذا السيد الجليل بعد أن رفعوه إلى مقام الأعيان إلا لأنهم عرفوا له ذنبًا
كبيرًا كالخيانة للدولة أو للجمعية المتصرفة في الدولة. وفريق الذين ظنوا أنه خان
قومه العرب بتركه الدفاع عن حقوقهم بمنصب الأعيان الذي رشاه به الاتحاديون،
وإنما يتم ظهور هذه الحجة، ببيان ما كان بيني وبين هذا الصديق الصدّيق من
الصلة والرابطة.
يرى قارئ كتابه أنه قال لي فيه عن نفسه: (وأنا من عهدت من يدع رأيه
أخيرًا إلى رأي وليه، وقد أشرت إلى هذه الكلمة في المقدمة التي قدمتها على هذا
الكتاب، وأقول: إنه يعني بهذا أنني إذا حتمت بعد المناقشة معه في الموضوع
وجوب تركه لمنصب الأعيان، واشتغاله بعمل آخر في غير الأستانة فإنه يقبل ذلك.
وقد كانت طريقتنا فيما يختلف رأينا فيه أن يدلي كل منا بحجته، فمن نهضت
منا حجته قبلها الآخر، فإذا لم ترجح إحدى الحجتين، وكانت المسألة مما يترتب
عليها عمل يرجع هو في العمل إلى رأي أخيه. ويدل على مكانة هذا الأخ عنده
جعله رضاءه عنه في هذا الأمر أهم من رضاء الحزب الذي كان سبب ذلك، وهو
صادق في قوله هذا وقوله ذاك، لا ريب عندي في صدقه، وما قلت هذا في بيان
كلمتيه إلا ليعلم المطلع عليه أن الرجل لو كان يكذب ويخدع لم يكن يكذب علي ولا
يخادعني، ولو كان يفعل ذلك لحاول إرضائي بأنه يعامل الاتحاديين بمثل ما
يعاملوننا به من الخِلابة السياسية ليستفيد منهم في طور ضعفهم وحاجتهم إلى
استرضاء العرب بعض الحقوق، وما كان يكتب إليَّ- وهو معتقد أنني ساخط عليه،
ومتعمد ترك الكتاب إليه- أنه مؤمن بحسن نية الاتحاديين وصدقهم في هذه المرة
ولكنه كتب هذا وهو يعلم أنني أعدّه سذاجة منه وغلوًّا في حسن الظن.
وأزيد على هذا أنني عاتبته على بعض ما جاء في هذا الكتاب وغيره عتابًا
ثقيلاً جاءت فيه كلمة جارحة، فكتب إلي رقعة أوْدعها كتابًا له قال فيها ما نصه:
كلمات بيننا
(في كتابكم الأول كلمة لا أكتم عنكم أنها كسرت قلبي، إذ لو كتبت هذا لكان
خيانة للإخاء النظيف الصافي، ذلك أنكم بنيتم على نظرية إغراقي بحسن الظن
بالقوم أن هواء الأستانة طمس على عقلي وقلبي.
أخوكم يا عزيزي قد عرفتموه بعد أن كان عاش في هذا البلد سنين،
وعرفتموه في الآستانة نفسها، فلولا ذلك لرجعت إلى نفسي؛ لأرى تغلغل أثر
البوسفور فيها.
ولكن كما لم أكتمكم هذه الحقيقة أتحدث أمامكم بما مَنَّ الله - تعالى - به من
حَمْل حدتكم القلمية هذه على ما يشابهها من حدتكم اللسانية التي نأنس بها أنسنا
بِحِلْمِكُمْ الذي هو أغلب وأصدق دلالة على كرم قلبكم. على أنني أؤكد بشرفكم أن
انكسار القلب الذي أشرت إليه كان أنينًا وأعقبه تذكر حقيقتكم العالية. أما تأخير
كتبنا فقد كان عامًّا حتى شمل الوالد، فلا تحملوه على ذلك السبب، ولكن أبى
كرمكم إلا يطيب القلب فأخصكم بشكر على هذا) اهـ.
فمن كان بينهما مثل هذه الحرية في الخطاب والعتاب لا يغش أحدهما الآخر، لو
كان من دأبهما الغش. وأحمد الله - تعالى - أنني لم أُبْتَلَ بهذه الرذيلة،
وإنني أبرئ منها صديقي الشهيد السعيد كما أبرئ نفسي.
هذا وإنني لم أكتف بما دار بيني وبينه - قدس الله روحه - من المكاتبات في
هذه المسألة بل دعوته إلى زيارتنا بمصر فأجاب، وكنت أعقد معه مجلسين
للمناقشة في كل يوم وليلة: مجلسًا قبل النوم ومجلسًا في الصباح. فرأيته بعد ذلك
كله معتقدًا أن الاتحاديين عازمون على إرضاء العرب، وأنه يحب مسايرة العقلاء
منا لهم على ذلك، وأننا ننال بهذا من الحقوق ما لا يُرجى أن نناله بالسعي مع
مجافاتهم.
وقد وافقته على بقائه في منصب الأعيان والاستمرار على هذا السعي؛ لأنه
إما أن ينفع وإما أن لا يضر.
***
المشانق في سورية - شنق الزهراوي
جاء في جريدة الأهرام تحت هذا العنوان ما نصه: تلقت المقدمات التي يوثق
بروايتها أن السيد عبد الحميد الزهراوي حوكم في دمشق أمام المجلس العسكري،
فحكم عليه بالموت شنقًا، فشنق. ولربما خفف من لوعة الأسى عليه، شنق من
تقدموه من عظماء الأمة السورية وأمراء المسلمين على وجه التخصيص كالأمير
عمر الجزائري ابن الأمير عبد القادر وشفيق بك المؤيد من أكبر رجال سورية
ورشدي بك الشمعة من صفوة أعيانها، وشكري بك العسلي، وعبد الوهاب بك
ومحمد المحمصاني، وسليم بك الجزائري وعبد الغني العريسي.. . إلخ.
ولكن الزهراوي كان يمثل طائفة خاصة، وفكرة نابتة وحياة جديدة تتراوح
بين طائفة علماء الدين الإسلامي وغيره من الطوائف الراقية، والبحث في شئون
طائفة الزهراوي في سورية، وبلاد العرب من المباحث الخطيرة الجليلة التي تبين
الصلة بين الماضي والحاضر والقديم والحديث، بل تظهر التدريج الذي كان ينتظر
على يد أولئك الذين أزهقت الحبال أرواحهم، وأودت بعملهم وعلمهم، وأماتت
غرسهم قبل أن ينبت وبما نبت منه قبل أن يزهر ويثمر.
فالمسلمون في سورية تأخروا عن إخوانهم النصارى واليهود والدروز في
طلب العلم؛ لأن القدماء من أكابرهم وأغنيائهم كانوا يعتقدون أن طلب العلم إنما
يراد لطلب الرزق، والوجيه الكبير المتوافر رزقه كان يعد من العار على أبنائه أن
يطلبوا العلم للارتزاق (من شق القصبة) وضاعف في ذلك أن المدارس كلها كانت
نصرانية، إما للأجانب وإما للمسيحيين، الذين تأدبوا بآداب الأوروبيين فحذوا
حذوهم، وساروا في العلم سيرتهم. وقد لقيت هذه الفكرة تشجيعًا من الحكومة، بل
ربما غرست الحكومة نفسها هذه الفكرة في الصدور حتى يظل المسلمون على حالهم
فلا يطلبون إصلاحًا ولا يطالبون بحق، وليس للمسيحيين وسواهم ممن يتعلمون
تأثير أو نفوذ؛ لأنهم الأقلية، ولهذا السبب لم يتمتع أحد من أبناء مسلمي سورية
بذلك الإنعام الذي أنعم به إبراهيم باشا بن محمد علي باشا على لبنان وسورية بأن
يعلم طائفة منهم في مدارس مصر العالية، وانحصرت تلك النعمة حتى عهد
الاحتلال بأبناء المسيحيين السوريين وحدهم.
وظلت الحال على هذا المنوال، ولا مدارس ولا مكاتب للمسلمين في سورية
حتى إن دَخْل أوقاف المدارس والمكاتب فيها كان يجيء للآستانة، إلى أن زاد
احتكاك القوم بالأوروبيين، ورأوا بأعينهم ومسوا بأيديهم فائدة التعليم فطلبوه لأبنائهم
إما في مدارس الأجانب في بلادهم، وإما في مدارس الأستانة، حتى إن بعض
طلبة العلوم الدينية، سبقوا إلى ذلك سواهم أو ماشوهم في هذا السبيل، ولكن على
غير رغبة الحكومة وإرادتها، فكانت تسبغ النِّعَم على من يذم العلم وعلماء الأجانب
كالشيخ النبهاني الشهير بذم مدارس النصارى.
ومن هؤلاء الطلبة الدينيين السيد عبد الحميد الزهراوي من أشراف حمص،
وسلالة بهوتها الكبيرة. بدأ علمه في بلده، وأتمه في الأستانة، وتعلم هناك من
السُّفطاء الترك الاهتمام بالشئون السياسية والاجتماعية، فكان أول ظهوره برسالة
ألفها في المعتقد الديني لم تَرُقْ في عيون مشايخ الطرق، فسعوا به إلى السلطان عبد
الحميد حتى نفاه، وأقصاه إلى دمشق [٢] .
ولكن الوسطاء توسطوا له - وكان الظلم في ذلك العهد يدفع بالوساطة خلافًا
لما نراه اليوم - فتركه حرًّا، وأطلقه من كل يد، فعاد السيد الزهراوي إلى الأستانة،
وأشترك بالمظاهرة الودية التي قام بها فريق من العلماء والكتاب أمام السفارة
الإنكليزية بعد انتصار الإنكليز على البوير في الترنسفال، فلم يغفر له ولرفاقه
السلطان عبد الحميد تلك المظاهرة، لا لأنهم هنئوا إنكلترا بنصرها، بل لأنهم مثلوا
الأمة العثمانية والشعب، ولم يكن يُغضبه أمر كهذا الأمر، حتى إن رقباء الصحف
والمطبوعات (المكتوبجيه) حذفوا من قواميس اللغة كلمة (وطن) و (شعب)
و (أمة) و (جمهور) .. . إلخ، وما شاكل ذلك من الألفاظ، فصبر السلطان على
أولئك المتظاهرين مدة، ثم فرق شملهم وأرسل كل واحد منهم إلى جهة، إلى أن
تمكن السيد الزهراوي من الفرار إلى مصر كما فر قبله السيد عبد الرحمن الكواكبي
وكل حر في تلك البلاد من عربي وتركي وغيرهم.
ويمتاز الزهراوي وأمثاله من رجال الدين المصلحين على سواهم، من
المتعلمين أنهم خير صلة بين طوائف الشعب وفرقه، فهم يحترمون التقاليد المقدسة
لكل طائفة، وهم في الوقت ذاته يؤيدون المصلحين في إصلاحهم، فقد كانت طائفة
الإسماعيلية في سورية تَجْمَع العُشور والنذور وترسلها إلى أغاخان في الهند لأن
معتقدها ومذهبها يقضي عليها بذلك، فحدث بعد إعلان الدستور أن هذه الطائفة
الصغيرة جمعت ما تبلغ قيمته نحو عشرة آلاف ليرة فصادرتها الحكومة، ولكن
السيد الزهراوي الذي كان يومئذ من أعضاء مجلس النواب انتصر لتلك الطائفة
وقاوم الحكومة، وجاهد في هذا السبيل حتى قرر مجلس النواب أن تنفق تلك
الأموال في تعليم تلك الطائفة، ولا تصادر لخزانة الحكومة كما فعلت وزارة
الداخلية، ولكن القرار لم يتجاوز الورق.
وكان السيد الزهراوي يقول باتحاد الطوائف العربية بعامل اللغة والمنفعة
والأصل والسلالة، فأنشأ جريدة الحضارة لهذا الغرض، وكان من محرري جريدته
رزق أفندي سلوم الذي شُنق في دمشق، وهو فتًى من حمص كان قد ترهب، ولكنه
خلع ثوب الرهبنة، وسار على آثار مواطنه بحتة، ووحد الاثنان كلمتهما في هذا
السبيل، فكأنهما جمعا لسانين دينين على دعوة واحدة وطنية، وكان الزهراوي ككل
أديب في بلاده اتحاديًّا بحتًا على مذهب الاتحاديين الأولين الذين نالوا الدستور
(للاتحاد والترقي وللنجاح) ولكن لما ذهب أولئك الاتحاديون الأولون، ومُزق شملهم
وخولفت مبادئهم ومذاهبهم، اتفق مع الخوجة شكري أفندي الذي تُوفي في مصر منذ
عهد قريب على تأليف حزب الأهالي.
ثم ضُمَّت الفرق كلها وأُلف منها حزب الائتلاف على قواعد ومذاهب فرقة
الاتحاد والترقي، كما كانت هي عهد زعامة صادق بك وإخوانه وأقرانه، إلى أن
فشلوا في مهمتهم، فوجه نظره شطر العرب حيث لا أحزاب ولا فرق، بل مطالب
قاعدتها انتفاع البلاد بما يُجْبَى منها من الضرائب وبأوقافها، فرأس المؤتمر العربي
الذي عقد في باريس- لأنه لم يسمح لهم بعقده في بلاد الدولة- وهناك كتب الوثيقة
المشهورة مع مندوبي الاتحاد، وعاد إلى الأستانة مع رسول الاتحاديين عبد الكريم
قاسم الخليل الذي كان أول المشنوقين في سوريا، والهادي الذي تلاه والشيخ أحمد
طباره الذي حكم عليه بالإعدام، فعين الزهراوي في مجلس الأعيان إلى أن شُنق.
ومما امتاز به هؤلاء جميعًا شدة عصبيتهم العربية، وشدة عصبيتهم الجنسية
العثمانية، حتى كان الزهراوي يقول عند ذكر مطمع دولة من الدول في أملاك
الدولة العثمانية: (إن هذا ينال منا بعد أن تزهق أرواحنا) وله في ذلك مغاضبات
شديدة مع أصدق أصدقائه (الصواب مع بعض معارفه لا أصدق أصدقائه) .
نقول هذا لا تأبينًا للسيد الزهراوي بل بيانًا للحقيقة عن تلك البلاد وأهلها
وميول زعمائها الذين ذهبوا جملة لا لجريرة إلا أنهم طلبوا إصلاحًا يقيهم البلاء،
واتقاء مطامع الطامعين في أرضهم وبلادهم، حتى إن الشيخ أحمد طباره لما عاد
من أوربا غيَّر منهج سياسته وبعد أن كان يمتعض لذكر المدنية الأوربية، أخذ
يكتب ويحث أمته على الاقتباس من محاسنها، فكان يكرر قوله: (إنا لا ننقذ بلادنا
ووطننا إلا بالسير على مناهجهم) تلك طائفة ذهبت اليوم، ولكن لهذه الطائفة
مذاهب ومبادئ إذا بقي في قومها وعشيرتها من يحبها ويعمل بها قد تكون نتيجتها
خيرًا وإلا فقد ذهبت الرءوس وبقي القوم كالقطيع من الأغنام بدون راعٍ تُساق فتسير
إلى حيث يراد منها لا إلى حيث تريد؛ لأنها بعد قطع رءوسها باتت بلا إرادة.
(المنار)
هذا ما نشر في جريدة الأهرام عند وصول نبأ شنق السيد الزهراوي إلى
مصر، وفي بعضه نظر أو إبهام، تختلف فيه الأفهام، وقد رأينا من حق صديقنا
رفيق رزق سلوم الذي ذكرته الأهرام في كلامها عن السيد الزهراوي أن نقول في
نشأته كلمة وجيزة، تحفظ في تاريخه ويظهر بها سبب شنقه وشنق جورج الحداد
من شبان نصارى سورية مع من شُنق من زعماء المسلمين ونابغيهم بتهمة السياسة
العربية.
***
رفيق رزق سلوم المحام
نبت هذا الفتى في بيت من أكرم بيوت الروم الأرثوذكس في حمص، وتلقى
التعليم الابتدائي في إحدى مدارس الطائفة فيها، ثم أرسل إلى دير البلمتد بالكورة
(لبنان) فألبس لباس خدمة الدين، ودخل مدرسة الدير الدينية، ولكنه لم يُخلق
مستعدًّا للرهبانية والخدمة الكنيسية، وإنما خُلق كبير الاستعداد للحياة الاجتماعية
السياسية، فلم يُتم مدة المدرسة، بل خرج منها، ودخل المدرسة الكلية الأمريكية
في بيروت، ثم سافر إلى الأستانة بعد الانقلاب العثماني، فدخل أحد مدارسها
الإعدادية، ثم مدرسة الحقوق، وقد أخذ الشهادة الدراسية منها، واختار أن يكون
محاميًا.
كان رفيق مريدًا وتلميذًا للزهراوي في أفكاره الاجتماعية، عاشره فعلم منه،
وهو أنبغ رجل من أشرف بيت في حمص أن في مسلمي البلاد فئة تسعى للإصلاح
الوطني سعيًا لا شائبة فيه للعصبيات والأحقاد الدينية، ولما جاء الأستانة بمساعدة
الزهراوي رأى جميع طلبة المدارس الرسمية العالية، وكلهم من المسلمين على هذا
المشرب الذي شرب كأسه الأُولى من يد الزهراوي، فانتظم في سلك أعضاء
المنتدى الأدبي، وانتخب وكيلاً للرئيس فيه، وكان حظه من اللغة العربية أوفر من
حظوظ جمهور إخوانه أعضاء المنتدى الذين لم يتعلموا شيئًا في غير مدارس الدولة،
فكان خطيبًا مفوهًا وشاعرًا مؤثرًا، ورغَّبه السيد الزهراوي في الكتابة إنشاءً
وترجمة، وكان يصحح له ما ينشره في جريدة الحضارة فحسنت كتابته.
تمكنت النزعة العربية من نفس هذا الشاب المهذب بما كان يسقي غرسها في
نفوسه مما كان يسمعه من كلام مدرسي الترك وطلابهم في مدارس العاصمة من
الحث على العصبية التركية، وما يقولون في العرب والعربية، وما كان يقرؤه في
جرائدهم وكتبهم، وما يقف عليه من أخبار جمعياتهم، فكان يقابل غلو متعصبي
الترك بجنكيز خان وهلاكو خان المفسدين اللذين دمرا المدنية العربية الإسلامية
بنظم القصائد في مدح النبي العربي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وإنشادها في
احتفال المولد النبوي الشريف في المنتدى الأدبي، فهذا هو السبب الحامل لجمال
باشا السفاك الاتحادي على شنق رفيق رزق سلوم مع السيد الزهراوي وإخوانه
وأخدانه من مصلحي العرب، ولا نعلم له ذنبًا إلا هذا، فإنه قضى حياته السياسية
كلها في الأستانة، وكان على رأي أستاذه الزهراوي في وجوب السعي إلى ترقي
العرب في حجر الدولة العثمانية. وكان جورج حداد على هذا المشرب أيضًا.
ولكنه كان من أعضاء حزب اللامركزية، وكفى بذلك ذنبًا عند جمال باشا يقتضي
القتل والصلب.